العقل العربي وإعادة التشكيل

الدكتور / عبد الرحمن الطريري

صفحة جزء
قنوات تشكيل العقل

العقل الإنساني لأي عرق انتمى، وعلى أي أرض وجد، تلعب مجموعة من القنوات، دورا رئيسيا في تشكيله، وبنائه بغض النظر عن طبيعة هـذا التشكيل، أو التكوين، أهو إيجابي، أم سلبي؟ وما من شك في أن هـناك تفاوتا نسبيا، بين البيئات الثقافية، والمناخ الاجتماعي، وهذا بدوره يلعب أثرا أساسيا وجوهريا في عملية التشكيل، إلا أن إطلاق مصطلح البيئة الثقافية بهذا العموم، قد لا يؤدي المعنى المراد، وفي هـذا الجزء سيتم التركيز على أبرز أهم القنوات، والأساليب، المستخدمة، سواء بشكل مقصود، أو بشكل عفوي، من قبل المجتمعات، والهيئات الرسمية الموكل لها مثل هـذه العملية.

بادئ ذي بدء يمكن القول: إن المناخ الاجتماعي العام، أو البيئة العامة، في المجتمع، تلعب دورا حاسما في عملية تشكيل العقل. وهذا الأمر، يتضح من الفروق الواضحة، والمباشرة، التي توجد بين المجتمعات، فهذا مجتمع منفتح على العالم والآخرين، وآخر مجتمع مغلق على ذاته، ولا يقبل الآخرين، بل ويكرههم، ويمقتهم، كما أنه قد يوجد مجتمع تقليدي، يحافظ على تقاليده، وأسسه الثقافية، والحضارية، مهتم بها، يعني بتأصيلها، في ذوات أفراده، بينما يوجد مجتمع آخر متغير بسرعة، لا يعطي اهتماما بأسسه الثقافية والحضارية، بل ويكون ناقما عليها في كثير من الأحيان.

نسمع كثيرا عن أن المجتمع البريطاني، مجتمع محافظ، ماذا تعني [ ص: 59 ] العبارة؟! المقصود بهذه العبارة: أن المجتمع البريطاني، يعطي قيمة وقدرا، لمعطياته الثقافية والحضارية، محافظا عليها، مفاخرا ومباه بها، أمام الآخرين، حتى لو كانت هـذه الأسس غير مقبولة في نظر الآخرين. إذ أن أفراد المجتمع البريطاني، لا يعطون وزنا لنظرة الآخرين، نحو قيمهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، بل يسعون لفرضها على الآخرين، وتزيينها في عيونهم، حتى يقلدوهم فيها، ويسيروا بركبهم. وهذا بالطبع ليس مقصورا على الإنجليز وحدهم، بل توجد مجتمعات أخرى، على هـذا النحو. والطريف في بعض المجتمعات، أنها قد توصف بأنها محافظة، ولكن لو تم البحث والاستقصاء، لتبين أن أفراد المجتمع، يحافظون على أسسهم الحضارية على مضض، ودون قناعة تامة، بل ويفتقدون الاعتزاز بها، سيما عندما يواجهون الآخرين.

إن ما يهمنا هـو التأكيد على المناخ الاجتماعي، أو الجو الاجتماعي العام، وما يسود فيه من ركود أو حركة، أو إثارة، وتفاعل، ونشاط عام، يسهم بشكل كبير في تشكيل عقل الأفراد، أو العقل الجماعي، أو الاجتماعي، كما في بعض التسميات.

إن الجو العام، يشمل مظاهر الحياة بشكل عام، الأسواق التجارية وعددها، وأوقات دوامها، الأعمال الرسمية، والدوام اليومي للأجهزة الحكومية، والشركات والنوادي، والجمعيات، والنظام السياسي، والمنابر السياسية، الموجودة في البلد، والنقابات والإضرابات، وعلى سبيل المثال، كانت المجتمعات الاشتراكية، مغلقة على نفسها، وتحظر فيها الإضرابات بينما المجتمعات الرأسمالية، توصف بأنها منفتحة على الآخرين، وتلعب الإضرابات دورا بارزا في حياتها السياسية. [ ص: 60 ]

المناخ الاجتماعي قد يكون طوال أيام السنة على الوتيرة نفسها، قد يكون وقتيا، مرتبطا بمناسبات وأحداث بعينها، فمثلا في المجتمعات الإسلامية، يكون المناخ الاجتماعي خلال شهر رمضان مختلفا عن غيره، من شهور السنة حيث تزيد، وتكثر النفقة، وقد يتحول الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل، ولا سيما في حركة الناس والأسواق. ولا شك أن الجو العام، سيعكس آثاره السلبية والإيجابية داخل عقول الناس. من حيث النشاط، والهمة، والحيوية، أو من حيث الكسل، والتواني والاتكال على غيره، وإضاعة الوقت وإهداره.

الأنظمة واللوائح أو التشريعات التي يتعامل بها الناس في حياتهم اليومية، لها قيمتها وفاعليتها في عقول الناس. حيث إن أهمية الأنظمة بشكل عام، هـي تعويد الناس على النظام والانضباط، ومعرفة الحقوق والواجبات، وعليه يتم الأخذ والعطاء، والإثابة والمحاسبة.

إن شعر الناس، أن هـذه الأنظمة محترمة بين الجميع، ولها سيادتها، وقيمتها، فهم سيترددون كثيرا في خرقها، بل إن احترامها سيكون هـو السائد، أما إن شعروا، أنها مجرد صورة، فهناك ستكون الفوضى هـي البديل.

إن من الأنظمة ما يوجد ويعزز البيروقراطية والروتين، ومنها ما يكون مرنا، ومحققا لمصالح الأفراد، والمجتمع، وهذا بدوره ينعكس على تكوين الأفراد العقلي، فلا غرابة أن تجد أفرادا من مجتمع ما، يوصفون بالصلابة، والتحجر النظامي، وحتى الفكري، وفي الوقت نفسه تجد أفرادا آخرين، هـم أكثر مرونة، وسرعة في الفهم، والاستيعاب، ذلك لأن مجتمعهم بأنظمته أوجد مثل هـذه العقول. [ ص: 61 ]

إن من الأنظمة ما يكون موجها لخدمة المصلحة العامة، ومصلحة الأفراد، ومنها ما يكون موجها لخدمة فئة معينة، كي يتحقق له إذلال وتسخير الناس دونما وجه حق، من خلال هـذه الأنظمة.

إن من الأنظمة ما يمكن أن يضرب بها المثل لما يسمى: بالطلب أو المعروض، الذي يتقدم به صاحب طلب، أو حاجة من الاحتياجات، إذ أن هـذا الطلب، كما يعمل به في العالم العربي، يفترض أن يكون في مقدمته مدح، وثناء، وشكر، وتبجيل، لمن بيده قرار قضاء الأمر، أو الحاجة المتقدم لها، حتى إن الأمر، أصبح من الأمور الروتينية، والمتقبلة. لدى الناس بكل فئاتهم، دونما استفسار أو تساؤل، حول الحاجة لمثل هـذا الثناء والمديح. هـذا الوضع في العالم العربي، يقابله وضع آخر في مجتمعات أخرى، حيث إن الحاجة، أو الأمر يقضى من خلال ما يسمى بالنموذج Application حيث توضع فيه المعلومات، ذات العلاقة بالأمر فقط، دونما مقدمة مدح وثناء.

أخيرا إن المناخ الاجتماعي العام، وكذا الأنظمة المعمول بها في المجتمع، من الممكن أن تكون عاملا من عوامل الراحة والطمأنينة الموضوعية، أو قد يكون العكس، حيث الخوف، والرعب والاحترام المتصنع.

من قنوات تشكيل العقل ذات الأهمية: المدارس، إذ من خلالها توضع البذور الأساسية لطريقة التفكير، من حيث السطحية أو العمق، وكذا من حيث المنطقية والعملية، أو الذاتية والموضوعية كما أنه من خلال المدرسة، يتم اكتساب المعرفة والمعلومات [ ص: 62 ] وتكوين الاتجاهات، نحو كثير من قضايا الحياة. يضاف إلى ذلك تكوين نظام قيمي، وصقل مهارات في بعض الجوانب.

إن المنهج المدرسي بما يحويه من معارف، ومعلومات، وصور، وأمثلة، وتمارين، يمثل حجرا أساسيا في الكيفية التي ينمو بها، ويشكل عقل الفرد. احتكاك الطالب بأستاذه وبزملائه، ووجوده في مناخ يعطيه حرية التعبير، والحركة، والتجريب، كلها أمور ذات أهمية بالغة عند الحديث عن البناء العقلي، فقد يحدث بناء عقليا سلبيا، أو مغايرا لما نريده، إذا لم نتمكن من خلق مناخ دراسي ملائم.

تعتبر وسائل الإعلام من أهم وأخطر القنوات، التي تشكل العقل، ولا فرق في ذلك بين الصحافة، والإذاعة، والتلفزيون، إذ أن جميعها ذات أثر كبير وقوي، ومؤثر، في صياغة الاتجاهات، من حيث الحب، والكره، والبعد، والقرب، من قضايا تعرض بشكل، أو بآخر، عبر وسائل الإعلام هـذه. المادة الإعلامية تحوي القرآن، والأدب، والنثر، والحديث، والأغاني.. إلخ. ويمكن من خلال هـذه المواد التأثير على عقلية الفرد، وطريقة تفكيره. ولذا فقد أدركت بعض المجتمعات أهمية الإعلام، فوظفته توظيفا سليما يخدم أهداف المجتمع، والأمة، على المدى القريب والبعيد، في حين أن مجتمعات أخرى، وظفته لإضاعة الناس، وتكريس سفاسف الأمور، في ذواتهم، مما نتج عنه مجتمعات مفقودة الهوية، وضائعة وسط هـذا الموج المتلاطم من التيارات والمدارس الفكرية ، وأصبح الإعلام في هـذه المجتمعات أداة لإثارة الشهوات، والغرائز، فمن شهوة الشراء، التي يتم إثارتها، بل وإحداثها من خلال الدعاية، إلى غريزة الجنس، التي يتم التلاعب بها [ ص: 63 ] وتوجيهها من خلال الأفلام والصور، والأغاني الهابطة.

لقد لعب الإعلام دورا بارزا في تسفيه الأحلام، خلال العقود الماضية وما يزال. إذ أنه تم توظيفه، واستخدامه من قبل الأنظمة، لخدمة أغراضها، حتى أصبح يعرض ما تريد هـذه الأنظمة، بغض النظر عن الحقيقة، بل إنه كثير من الأحيان، يضرب، صفحا عن هـذه الحقيقة، ويعرض الكثير من المتناقضات، مما أوجد شخصية ازدواجية ، غير قادرة على تحديد اتجاهها الحقيقي في هـذه الحياة، وغير مدركة للفرق بين الحق، والباطل، والحق، والواجب، والخطأ، والصواب، والضار، والنافع.

في المجتمعات الإسلامية يفترض أن يؤدي المسجد دورا بارزا، ومهما في صياغة العقول، وبنائها عن طريق خطب الجمعة، والندوات، والمناقشات والدروس الممكن عقدها في المساجد، كما أن حضور المسجد بحد ذاته، يحدث الإخاء، ويجسد أواصر الرابطة العقائدية لدى الناس.

مما يسهم في الصياغة العقلية: الشائعات، والنكت، التي تطلق بين فينة وأخرى، سواء في الظروف العادية، أو الظروف الطارئة.

وقد تكون هـذه الشائعات، والنكت، موجهة لشخص قيادي، أو حول أمر من أمور المعيشة، كزيادة في سعر سلعة، أو اختفائها من السوق، أو زيادة رواتب، أو مرض مسئول، أو حرب وعدوان محتمل. وهذه الشائعات قد تثير البلبلة، والتوتر، والفزع، داخل البلد، كما أنها قد توحد الجبهة الداخلية، وتحدث شيئا من الالتفاف والتلاحم، بين أبناء البلد. أما النكتة فهي أسلوب من أساليب السخرية والاستهزاء، [ ص: 64 ] وهي نوع من الانتقام ضد من تطلق حوله، إذ أنها تحدث شيئا من السرور والراحة في نفوس مطلقيها، والمستمعين لها، وباختصار فهي صورة من صور التشفي، حين لا يكون بمقدور المجتمع تغيير وضع من الأوضاع، فيلجأ للنكتة، كي يستريح من خلالها، ولو لبعض الوقت، من عناء الحياة ومشاقها ومشاكلها.

النخبة في المجتمع لها دور في التأثير، لا سيما إذا تم إبراز هـذه النخبة من خلال وسائل الإعلام. النخبة بسلوكها، طريقة تفكيرها، عاداتها، ملبسها، مركبها، طريقة حديثها، هـواياتها، واهتماماتها تكون قدوة، يقتدي بها، من قبل عامة الناس.

ترى من هـي هـذه النخبة ؟

النخبة قد تكون علماء، وسياسيين، وأدباء، ومثقفين، وقد تكون من الفنانين، ونجوم الرياضة، وقد تكون من المنحرفين، أو المستقيمين فكريا وسلوكيا. ومهما تكن النخبة، فأثرها واضح في التأثير على الآخرين، وجعلهم ينقادون وراءها، حتى إن بعض المصطلحات، أو الكلمات، التي يفوه بها أحد أفراد النخبة، تجدها تتلقف من قبل الآخرين، ويرددونها في مجالسهم وأحاديثهم، وهم بذلك يتقمصون شخصية ذلك الفرد، سواء تم ذلك بشكل شعوري، أو بشكل لا شعوري. وكما يقول المثل: الناس على دين ملوكهم. فقد يكون الملوك من الفنانين، أو الرياضيين، أو العلماء والمفكرين، وذلك حسب ما يعمد المجتمع إلى إبرازه، فقد يبرز ويلمع هـذه الفئة ويهمل في الوقت نفسه فئات أخرى، هـي الأولى بالاهتمام والرعاية. [ ص: 65 ] يضاف إلى ما سبق ما يتوفر في المجتمع من كتب في الثقافة العامة أو في مجالات الاختصاص المختلفة، فقد يعمد مجتمع إلى تضييق دائرة الكتاب، وحصره في أمور معينة، تحقق مصلحة فئة بعينها، ذلك أن دخول كتب أخرى، ومن نوع آخر، قد يفتح أذهان الناس، ويثير في أذهانهم الكثير من التساؤلات، حول أوضاع المجتمع بصفة عامة، أو وضعه في قضية من القضايا. ومن أجل التحكم في الكتاب، أو سوق الكتاب بشكل أدق، توضع أنظمة وعراقيل، تحد من انتشاره، وتسويقه، بل وحتى دخوله إلى المجتمع، حتى أصبحت بعض الكتب في بعض المجتمعات، تصنف على أنها من الممنوعات.

الندوات العامة، والمؤتمرات، تؤدي هـي أيضا دورها في تكوين وتشكيل العقل، وكلما كان المجتمع يعج بمثل هـذه الأشياء، كلما كان ذلك مدعاة للإثارة، والتنشيط الذهني، وكلما افتقد مثل هـذه الأنشطة، كلما حل الركود وساد الجمود، والتبلد، وأصبح الناس بمثابة الآلة، يسيرون وفق عمل ونشاط روتيني، لا يبعث الإبداع والإنتاج والتجديد. بل يولد السأم والتراجع والتقهقر الفكري. [ ص: 66 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية