قيم المجتمع الإسلامي من منظور تاريخي [الجزء الثاني]

الدكتور / أكرم ضياء العمري

صفحة جزء
تقديم

بقلم: عمر عبيد حسنة

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وأنزل القرآن تبيانا لكل شيء.

والصلاة والسلام على النبي الخاتم الذي كان من لوازم رسالته الخاتمة عقلا ونقلا : صحة النص القرآني وحفظه وسلامة منهج النقل حيث لا يمكن عقلا ولا واقعا أن يخاطب الناس ويكلفوا بنصوص منحولة أو محرفة وأن يترتب الثواب والعقاب على ذلك التكليف؛ لأنه يتنافى مع العدل المطلق؛ لذلك فسلامة الخطاب يمكن أن يعتبر من لوازم الخاتمية وتقف النبوات الذي يعني : توقف التصويب وبيان مواطن التحريف والتبديل كما أن لوازم الرسالة الخاتمة : الخلود للنص القرآني والخلود للبيان النبوي أيضا.. والخلود بأبسط مدلولاته هـو : التجرد عن حدود وقيود الزمان والمكان وامتلاك أمة الرسالة الخاتمة القدرة والإمكان على تجريد النص من أسباب نزوله ومكان نزوله وتوليد الأحكام والأفكار والرؤى القادرة على الاستجابة لمعالجة المشكلات المتجددة في كل عصر ومكان.. وبعد : [ ص: 7 ]

فهذا كتاب الأمة الأربعون : " قيم المجتمع الإسلامي من منظور تاريخي " ، " الجزء الثاني " للدكتور أكرم ضياء العمري أستاذ التاريخ الإسلامي في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في سلسلة " كتاب الأمة " التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر مساهمة في استرداد شخصية المسلم المعاصر وبناء الإنسان الصالح المصلح للوصول إلى المجتمع الإسلامي المأمول وتقويم سلوكه وضبط حركته بالقيم الإسلامية ومعاودة إخراج الأمة الوسط التي تحقق الشهود الحضاري وتلحق الرحمة بالناس حملا للأمانة واستجابة للتكليف وصولا إلى مرتبة : الجعل الإلهي لها بقوله تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا... ) ( البقرة : 143 )

وقوله : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ( الأنبياء : 107 ) .. هـذا الجعل الذي لا يتحقق إلا بالعودة إلى قيم الكتاب والسنة المعصومة لبناء المرجعية واعتمادها المعيار الأساس لتقويم التاريخ والحاضر وحسن بناء المستقبل وفك قيود التقليد الجماعي والآبائية التي أدت إلى انطفاء الفاعلية والتخاذل الثقافي وتخليص العقل المسلم من الاحتكام إلى فهوم واجتهادات البشر وأفعالهم التي يجري عليها الخطأ والصواب والتي قد تشكل آبائية من نوع آخر وقيودا مسبقة وحواجز تحول دون الوصول إلى التلقي عن الينابيع الأولى في الكتاب والسنة وإعادة تصحيح المعادلة المقلوبة اليوم في عالم المسلمين [ ص: 8 ] فبدل أن تكون فهوم المسلمين وأفعالهم في العصور المتعددة التي تلت مرحلة السيرة والخلافة الراشدة محل دراسة ومعايرة وتقويم بقيم الكتاب والسنة أصبحت

في نظر الكثير منا هـي المعيار الوحيد لفهم الكتاب والسنة في كل عصر على الرغم من تبدل المشكلات إلى درجة أصبحت معها مدلولات الآيات والأحاديث ومقاصدها تنزل عليها وكأن القدسية والعصمة عن الخطأ انتقلت من قيم الكتاب وبيانه إلى أفهام الناس واجتهاداتهم وأفعالهم وبذلك تحولت القدسية والمعيارية إلى الفكر والفعل البشري وبدأ الاستغناء شيئا فشيئا عن الرجوع إلى الكتاب والسنة فحوصر الخلود وتجمدت العقول وأغلق باب الاجتهاد وانطفأت الفاعلية وتوقف العطاء والامتداد وبدأ خروج المسلمين من التاريخ.

ولا شك عندنا أن هـذه الفهوم المتعددة والمتنوعة في مختلف الظروف والأزمان والأماكن أو هـذا الرصيد من التراث الفقهي والفكري والتاريخي يشكل لنا أهم الأدلة والوسائل المعينة على الفهم وكيفيات تنزيل الإسلام على الواقع كما يكسبنا من جانب آخر المرونة والخصوبة والتنوع سواء في ذلك العصر الواحد والمفكر الواحد أو تتالي العصور واختلاف المشكلات وتعدد المدارس الفكرية والفقهية الشيء الكثير لذلك نعتقد أن تجاوزه بسلبياته وإيجابياته أو بصوابه [ ص: 9 ] وخطئه ليس من المنهج العلمي ولا النظام المعرفي الذي سوف لا يتكامل إلا بتوفرنا على الإحاطة بهذا التراث لكن بشرط أن نتحرر منه ونمتلك القدرة على تقويمه والحكم عليه كاجتهاد بشري من خلال القيم المرجعية والتحقق بالمعيارية التي تمنحها معرفة الوحي المعصومة والخارجة عن وضع الإنسان وكسبه فكرا وفعلا.

بل لعلنا نقول : إن استشراف عطاء المسلمين في إطار الفكر والعقل ( التراث ) يشكل لنا بنموه وضموره ونهوضه وسقوطه وإبداعه وتقليده معالم واضحة للفهم وكيفيات معينة للتعامل مع النص وتنزيله على الواقع لكن المشكلة أو الإشكالية الحقيقية التي يعاني منها العقل المسلم المعاصر – فيما نرى – أن تتحول المعيارية من قيم الكتاب والسنة المطلقة الخالدة المعصومة إلى فهوم البشر النسبية المظنونة التي يجري عليها الخطأ والصواب.

وبدل أن نعاير مدى صوابية الفعل والفهم البشري بقيم الكتاب والسنة نعاير الاجتهاد البشري بفعل وفكر بشريين لا عصمة لهما.

والقضية التي نرى أنه من المفيد إعادة طرحها والتأكيد عليها والتذكير بها أن الأمة المسلمة التي تمتلك القيم المعصومة ( معرفة الوحي ) ويسلم لها عالم أفكارها الذي يشكل لها رؤية ومعيار هـي الأمة التي تمتلك باستمرار الإمكان الحضاري [ ص: 10 ] والقدرة على النهوض مهما كان حجم الإصابات التاريخية التي تلحق بها؛ لأن الإصابات في هـذه الحالة لا تتجاوز عالم الأشياء الذي يدين بوجود وإنتاجه إلى عالم الأفكار.. أما إذا كانت الإصابة لعالم الأفكار فإن أشياء الأمة لا تغني عنها فتيلا. كما أن سلامة عالم الأفكار يكسب الأمة القدرة على الصمود والحيلولة دون التذويب والذوبان المراد لها.

وفي ضوء ذلك يمكن أن نفقه قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الشيخان عن أبي هـريرة : ( إني قد خلفت فيكم ما لن تضلوا بعدهما ما أخذتم بهما أو عملتم بهما: كتاب الله وسنتي ) >[1] . وقوله: ( فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين. عضوا عليها بالنواجز ) >[2] ..

وفي ضوء ذلك أيضا يمكن أن ندرك الأبعاد الحقيقية لتعهد الله سبحانه وتعالى بحفظ القرآن وبيانه بقوله: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( الحجر: 9 )

وقوله: ( إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ) ( القيامة: 17 – 19 ) .. لأن صحة النص من لوازم الخاتمية كما أسلفنا.. وندرك أيضا : لماذا جاءت معظم الآيات تؤكد على التمسك بالكتاب والاعتصام به.

ومن هـنا نفقه لماذا جعل ا لله المجاهدة بالقرآن وامتلاك الشوكة العقدية والفكرية أساس الجهاد وأعلى أنواعه وأكثرها فاعلية وبلاغا وتحقيقا لأصول الدين وغايات التدين [ ص: 11 ] ومقاصده قال تعالى : ( فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) ( الفرقان : 52 ) ..

ذلك أن الإشكالية الحقيقية التي يعاني منها الإنسان في كل العصور أو الأزمة الأم التي تتولد سائر المشكلات في رحمها وتعتبر مظاهر لها وأعراضا تدل عليها إنما هـي الأزمة العقدية الفكرية الثقافية أو بكلمة مختصرة : إصابة عالم الأفكار.

ولعل ما يلفت الانتباه إلى تأكيد هـذه القضية المهمة ما اختتمت به سورة البروج من قوله تعالى : ( بل هـو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) (البروج: 21-22) .

فقد لا يجد المتأمل بادئ ذي بدء أدنى علاقة بين موضوع السورة وما اختتمت به فبعد أن ذكر الله سبحانه ألوانا من التعذيب والشدة والفتن التي لحقت بالمؤمنين والمؤمنات من الحرق والتقتيل وشيوع الظلم وغلبته في فترة تاريخية محددة وما ذكر بعد ذلك من حديث الجنود : فرعون وثمود كنماذج متصاعدة للظلم في مواجهة النبوة في التاريخ الإنساني وكيف أن الظلم والإصابات مهما تصاعدت واحتلت بعض حقب التاريخ وطغت عليها فإن الأمة التي تمتلك القيم السليمة المعصومة ( معرفة الوحي ) ويسلم لها عالم أفكارها تبقى قادرة على النهوض والتجاوز والإقلاع من جديد؛ لأن الظلم لا ينال إلا من أشيائها : ( فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هـذه الحياة الدنيا ) ( طه : 72 ) . إن حفظ القرآن وعدم النيل منه واستمرار المجاهدة به هـو [ ص: 12 ] الذي يمكن الأمة المسلمة من النهوض والصمود في كل الظروف ويمنحها القدرة على إعادة البناء مهما لحق بها من إصابات : ( بل هـو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) (البروج: 21-22) .

قد يتوهم الإنسان في لحظات من الغفلة وتحكم النظرة الجزئية والآنية والعجز عن الاستقراء الشامل وربط الجزء بالكل وعدم اعتماد الزمن المطلوب الذي يمثل سنة الأجل التي لا بد منها لإنضاج الفعل والتي تعتبر أحد الأبعاد الرئيسية للفعل البشري أو عندما يأسره مسار الصورة ويغيب عنه فعل الحقيقة وفاعليتها : أن الإنسان يمكن أن ينقاد من خارج نفسه بسبب ما يمارس عليه من وسائل الإكراه والإجبار والإرهاب ويرى لذلك بعض الاستدلالات الهشة هـنا وهناك التي قد تتولد عنده كثمرة لشدة المعاناة وفقدان القدرة على التحمل والصبر والمجاهدة لاستيفاء الزمن المقدور فيلجأ إلى اعتماد الإكراه كأقرب وأسرع وسيلة للإنجاز.

لكن الذي يستطيع التفريق بين الزبد الطافي على سطح المجتمعات وبين ما يمكث في عمق المجتمع من القناعة التي تعتبر المحرك الأساس يفقه حقيقة الجهاد وأداته والوسيلة الفاعلة فيه ويبصر دور القرآن في التحويل الثقافي.. وعندما يقرأ في خاتمة سورة "ق" قوله تعالى : ( نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) ( ق : 45 ) يدرك تماما قيمة حفظ القرآن وأهمية سلامة عالم الأفكار وفاعلية [ ص: 13 ] المجاهدة فيه لإعادة البناء.

لذلك نعتقد أن أية محاولة للتغيير وإعادة الصياغة والبناء وأية مشاريع للنهوض والتجديد تغفل أهمية الرسوخ والإحاطة بعلم المشكلة الثقافية والسنن التي تحكمها الذي يشكل التاريخ أحد معالمها وكيفيات ومناهج التعامل مع القيم المعصومة أو تتجاوزها محكوم عليها بالإخفاق؛ لأنها تتعامل مع الآثار وتهمل دراسة الأسباب وتبصر العرض وتهمل الجوهر وترى الصورة وتغيب الحقيقة وتتعامل مع الأشياء وتتجاوز الأفكار التي كانت وراء إنتاجها.

فالإنسان هـو المخلوق الوحيد الذي ينقاد من داخل نفسه وتتحدد مسالكه في ضوء قناعاته ويأتي فعله ثمرة لفكره وعقيدته لذلك فميدان التغيير الحقيقي ووسيلته وأداته هـي المعرفة التي تعيد بناء عالم الأفكار فتتغير المسالك ويتغير الواقع وما وراء ذلك من وسائل إنما تكتسب أهميتها وفاعليتها بمقدار ارتكازها على العقيدة وارتباطها بالمسألة الفكرية.

لذلك بالإمكان القول : إن إمكانية التغيير والنهوض والتجديد والتصويب متوفرة دائما طالما أن المسلمين يمتلكون هـذا القرآن ويمتلكون بيانه. ولا نقصد بالامتلاك هـنا : الحفظ والنقل السليم على أهميته وضرورته وقد تعهد الله به إنما نقصد كيفية التعامل مع هـذا المحفوظ وتنزيله على واقع الناس [ ص: 14 ] في ميادين الحياة المختلفة.

والحقيقة التي لا بد من الاعتراف بها بعيدا عن الانحياز العاطفي أنه على الرغم من أننا نمتلك في نطاق المسألة السياسية ما تمنحه لنا القيم المعصومة في الكتاب والسنة من المنطلقات الأساسية والمقاصد والأهداف وما تقدمه لنا فترة السيرة والخلافة الراشدة من أدلة عمل تطبيقية ووسائل معينة إضافة إلى تنوع وغنى التجربة التاريخية الإسلامية إلا أننا ما نزال نفتقر إلى تأسيس وتأصيل فقه دستوري وفقه دولي وفقه إداري وفقه رقابي أو بكلمة مختصرة : فقه سياسي مؤسسي إسلامي.

وما عندنا في هـذا المجال كالسير الكبير للفقيه محمد الحسن الشيباني والأحكام السلطانية للماوردي وغير ذلك مما جاء في ثنايا كتب التاريخ السياسي والثقافي أثناء سرد الأحداث السياسية وإن كان ذلك لا يقاس بالامتداد والتبحر الفقهي في المجالات الأخرى إلا أنه يمكن أن يشكل أنموذجا ودليل عمل على كيفية توليد الفقه السياسي وتنزيل القيم على الواقع لكنه في نهاية المطاف لا يخرج عن أن يكون اجتهادا غير ملزم جاء وليد عصر معين بظروفه ومشكلاته.. هـو فهم بشري للقيم الواردة في الكتاب والسنة في ضوء العصر وليس دينا ملزما.

صحيح أن ثروتنا من الفقه التشريعي والقضائي غنية ومتنوعة وممتدة على الرغم من توقف اعتمادها كمصدر [ ص: 15 ] للأحكام على المستوى الرسمي الأمر الذي لم يتوفر لأي فقه تجاوزته المؤسسات الرسمية أو أهملته.. وصحيح أيضا بأن هـذا الفقه التشريعي والقضائي يشكل النسيج الاجتماعي للفقه السياسي المطلوب إلا أنه بكل المقاييس لا يغني عن تأصيل فقه سياسي متطور مستمد من الكتاب والسنة يميز النظام السياسي في الإسلام ويقدم الحلول المناسبة والإجابات الكافية المستصحبة للمرجعية الإسلامية في قضايا كيفية صنع القرار وبرامج الشورى وحدود الرأي العام والجمهور والأمة والحكومة والدولة وحقوق الإنسان، وعلاقة الفرد بالدولة والسلطة والمعارضة والمشاركة والتعددية والتداول والبيعة والطاعة ومسئوليات الحاكم ومسئولية الحكومة ومسئولية الفرد وقضايا الولاء والبراء وحدودهما والعلاقة بين السلطات والوضع السياسي والاجتماعي لغير المسلمين ومسألة الأقليات الإسلامية في العالم والعلاقات الدولية السياسية والاقتصادية ومفهوم السادة الوطنية وحدود المواطنة وحقوقها وحق التدخل الإنساني.

وفي اعتقادي أن هـناك الكثير من المفاهيم السياسية المطروحة اليوم على الساحة الإسلامية لا بد من تحريرها من الناحية الشرعية من أهل الدراية والفقه والتخصص مثل مفاهيم : البيعة والطاعة والجماعة والحزبية والتعددية في الدولة المسلمة... إلخ... حتى يتوقف العبث بها تحت عناوين إسلامية ممن لا فقه لهم أو تفريغها من خصائصها الإسلامية [ ص: 16 ] وتهينها ومقربتها من القيم الغربية من بعض من لا دين لهم.

وهنا تبرز قضية لا بد من التوقف عندها ولو بقدر يسير وهي أننا ومنذ أثر من نصف قرن تقريا نتحدث عن أهمية إعادة كتابة التاريخ الإسلامي الذي يمثل السيرة السياسية لحركة المجتمع الإسلامي وفق منهج مستوحى من القيم الإسلامية في الكتاب والسنة أو ما يمكن أن يسمى : التفسير الإسلامي للحركة التاريخية.. ونعقد لذلك الندوات ونؤلف اللجان.. ولكن لا بد من الاعتراف أن النتائج – إن كانت هـناك نتائج – جاءت دون الآمال والطموحات بكثير إلا من بعض النظرات والجهود الفردية التي قد تفتح بعض النوافذ وتشكل لبنات أولية في البناء المنهجي غير أنها لم تستطع أن تقدم بعض المطلوب والمأمول..

والحقيقة التي لا مفر من الإقرار بها : أن قضية التخلف والتقليد الجماعي التي تعيشها المجتمعات السلامية اليوم لا تقتصر على جانب واحد من الجوانب المنجية والمعرفية وإنما هـي عملية شاملة لحقت إصاباتها بحياتنا العقلية والعملية دون استثناء إذ لا يمكن أن يتصور عقلا ولا واقعا أن تتحقق التنمية والنهوض في جانب مترافقة مع التخلف والركود في جوانب أخرى ذلك أن التنمية هـي عملية شاملة تتوازى فيها جميع جوانب الحياة وأن سبيلها الوحيد هـو الثقافة.. فالثقافة هـي التنمية. [ ص: 17 ]

ولعلنا نرى : أنه لا مندوحة من إعادة النظر في مجمل الوسائل المطروحة لمشاريع النهوض؛ لأنها عجزت عن التغيير وكرست الواقع المتخلف الذي نحن عليه. وعلى الرغم من أن ميدان التاريخ هـو من أهم وأخطر المواقع التي تقتضي العودة إلى دراستها بمنهجية منطلقة من القيم التي تولد التاريخ في ظلها وليس من خلال تفسيرات ونظم معرفية خارجة عن النسق الإسلامي أو قادمة من الخارج وإنما بنسق معرفي ذي أبجدية إسلامية مع ذلك فإن كسبنا فيه يكاد لا يذكر إلا من بعض النقول التي نقتطعها ونشحنها من كتب التراث الماضي ونفرغها في كتب العصر الحاضر..

والكثير من المحاولات لإعادة النظر في قراءة الحركة التاريخية والتقويم لمسيرة المجتمع الإسلامي خلال العصور المتطاولة جاءت مرتهنة للمنهج وللثقافة الغربية لذلك نراها تأتي وفق التقسيمات الزمنية والمكانية والنوعية للمجتمع الأوروبي في محاولة تعسفية لإنزال مسيرة المجتمع الإسلامي في القوالب والناهج التي أسست لدراسة تاريخ المجتمعات الغربية.. تلك المجتمعات التي تولدت حركتها من خلال قيم مغايرة للقيم التي نشأ في ظلها وضمن مشروعيتها التاريخ الإسلامي لذلك جاءت الإصابات منهجية بالدرجة الأولى وجاءت عاجزة عن إدراك الحقائق وغير قادرة على المساهمة بالنهوض؛ لأنها حاولت معايرة مسيرة المجتمع الإسلامي بقيم خارجة عنه؛ ولأنها تنتمي لحضارات ومجتمعات أخرى، أو [ ص: 18 ] جاءت بقراءات وتفسيرات مذهبية متعسفة ومبتسرة وليست منهجية موضوعية؛ لأنها تناولت الموضوع وفق مقررات مسبقة وتعاملت معه من خارج نسقه.

ويمكن القول : أن الارتهان لهذه الثقافات والمناهج حتى من الذين ينحازون للإسلام والتاريخ الإسلامي عاطفيا أو الذين يعتبرون أنفسهم إسلاميين ويحاولون المساهمة بمشاريع النهوض والتجديد والأسلمة يجعلهم يقعون بعدة إصابات منهجية عندما يستعملون نظريات ومصطلحات وأنظمة معرفية تحمل مدلولات ومفهومات خاصة عند أصحابها الأصليين الذين تولدت عندهم وجاءت ثمرة لمعايشة وظروف ومعاناة مجتمعات معينة لذلك لا يمكن اعتبار هـذه المناهج – موضوعيا – بمصطلحاتها ومفهوماتها وأدواتها المعرفية نظريات أو آليات محايدة تشكل مشتركا عاما أو آليات عامة للوصول إلى المفهوم أو تحقيق المقاصد المرجوة من الدراسة. ذلك أن الفصل بين النظرية كمذهب فكري له منطلقاته وأهدافه وأبجديته التي يقرأ من خلالها وبين آليات ووسائل تطبيقه من جهة أخرى يعني تفتيت مفاهيم النظرية ومسخها وتقطيعها حيث لا تخرج الآلية في النهاية عن أن تكون إحدى مفهومات النظرية وأداتها.

ولعل من أخطر المذاهب والنظريات التحريفية على التاريخ والتراث الإسلامي التي بدأت تطل برأسها وتتسلل إلى الفكر الإسلامي وتستنبت على التربية الإسلامية باسم الإسلام [ ص: 19 ] والإسلامية تلك التي تدعو إلى دراسة الأصول الإسلامية والتاريخ والتراث الإسلامي بمناهج معرفية ( ابستمولجية ) غربية متجردة عن أي التزام أو ضابط منهجي عقدي أو ( أيدلويجي ) بدعوى إعادة تجديد الفكر أو إعادة تشكيله على أسس علمية إلى درجة تجاوزت معها التراث والتاريخ إلى نقد النصوص المقدسة المعصومة عن الخطأ في الكتاب والسنة التي تشكل ( معرفة الوحي ) نقدا ( إبستمولوجيا ) ينتهي إلى الخروج بالمضمون في كثير من الأحيان عما وضع له اللفظ والاعتداء على قيم الفكر الإسلامي ومعاييره الأصلية بدعوى أصالة العلم وأصالة المعرفة وأصالة العقل وتجريده من المسبقات في محاولة لتطويع الإسلام لمقاربة ومسايرة أطروحات الحضارة الغربية الغلبة ماديا.

وقد تكون المشكلة الأساس هـنا تتمثل في محاولة الالتفاف على معرفة الوحي ومحاصرتها وإسقاطها عمليا بمصطلحات وأدوات بحثية جديدة ورفض الوحي كمصدر للمعرفة؛ لأنه – في نظرهم – يقابل العلم والعقل بل أكثر من ذلك الادعاء بأن هـذه المعرفة تشكل قيدا مسبقا يحد من نشاط العقل ويحول دون حريته وطلاقته في ارتياد الآفاق المتنوعة وتحقيق الكشف والإبداع العلمي والمعرفي في محاولة لإخراج العقيدة أو ( الأيدولوجيا ) من ساحة البحث والعلم والمعرفة؛ لأنها لم تأت – في نظرهم – ثمرة للتفكير والبرهان وإنما جاءت ثمرة للتسليم والإذعان حيث دور العقل فيها : البيان والشرح [ ص: 20 ] والنقل لأمر مسبق وأنموذج مرسوم وإطار للتفكير جاهز مسبقا.

وقد لا نكون بحاجة إلى القول بأن هـذه الثنائية العقيمة والأزمة الفكرة الممزقة التي تؤدي إلى الانشطار الثقافي هـي إحدى معضلات الفكر اللاهوتي الكنسي والحضارة الغربية أو هـي إحدى النتائج المرة للصراع بين الكنيسة والعلم التي أدت إلى تشطير الإنسان – كما أسلفنا – حيث أصبح التدين يعني التسليم بلا تفكير ولا تعقل والعلم يعني : التفكير والتعقل بلا تسليم وبلا مسبقات وبلا مسلمات.

هذا الانشطار الثقافي أو هـذه المنهجية التي تسقط معرفة الوحي هـي ثمرة للعلمانية التي لا تقتصر على المجال السياسي الشائع في أذهان كثير من المسلمين وهو انفصال الدين عن الحكم والحياة اعتماد الإنسان مصدرا للتشريع وإنما أدت إلى إنتاج أنظمة وأدوات معرفية ومنهجيات ( أبستمولوجيا ) لا تخرج في حقيقتها عن أن تكون إحدى التطبيقات العلمانية في المجال المعرفي التي بدأت تتسلل إلى الداخل الإسلامي والفكر الإسلامي تحت شعارات التجديد وتأصيل العقل والعلم والمعرفة وبالأخص عند من تكونت ثقافتهم وتشكلت عقولهم في مناخ الثقافة الغربية وحملوا نسقها المعرفي ونظرياتها [ ص: 21 ] ومرجعياتها في ضوء عملية التقطيع والتطويع والتأويل والإلغاء والتحريف في ضوء المناهج والنظم المعرفية الغربية بدعوى حيادية الآليات المعرفية حتى أصبح كل شيء خاضعا للبحث والقبول والرد بعيدا عن أي التزام عقدي أو ( أيدلوجي ) دون التفريق في ذلك الفحص والاختبار بين الاجتهاد والمعرفة العقلية وبين النصوص المعصومة التي تمثل معرفة الوحي!

بل لعلنا نقول : بأن من أولى الأبجديات المعرفية ( الأبستمولوجية ) وإخراجهما من ساحة البحث وموضوعه، ويكفي لرد البحث وإسقاطه نسبته إلى ( الأيدلوجيا) التي تشكل عندهم مسبقات مرفوضة موضوعيا في مجال ( الأبستمولوجيا ) أو في مجال تأصيل المعرفة والعلم وإعادة تشكيل العقل العلمي.

وقد لا نكون بحاجة إلى القول : بأن هـذا الانشطار الثقافي وهذه الثنائية العقيمة لم يعان منها العقل المسلم ولم تمنعه أو تعيقه عن الإبداع والإنتاج المعرفي ذلك أن طلب العلم قي نظامنا المعرفي الإسلامي دين بل هـو أرفع درجات التدين.. وأن الدين علم وأنه لا تعارض ولا تنازع ولا ثنائية بين صحيح المنقول وصريح المعقول.. وأن المسبق عندنا ( معرفة الوحي ) لا يشكل قيدا للعقل وآبائية؛ لأنه ليس من وضع الإنسان ابتداء وإنما يساهم بمنح إضاءات وهدايات [ ص: 22 ] وعواصم وأدلة عمل وتحريض للتفكير والعقل على اعتبار أن العقل وظيفة كالسمع والبصر وليس عضوا وأن الإسلام ألغى الآبائية وعرض معتقداتها للفحص والاختبار والإلغاء واعتبرها لونا من ألوان الزراية بالعقل..

والحقيقة أنه لا يمكن أن نتصور عقلا ولا واقعا أن ينشأ التفكير في فراغ بعيدا عن أية مسبقات تشكل مواد التفكير ومحله وموضوعه كما لا يمكن أن نتصور أيضا أن يتحكم العلم النسبي الذي يجري عليه الخطأ والصواب ( العقل ) بالعلم المطلق المعصوم عن الخطأ ( الوحي ) إلى جانب عجز العلم عن الكثير من الإجابات المطلوبة لإلحاح للقفل البشري.

والقضية وما فيها كما يقولون : تكمن في محاولة إلغاء معرفة الوحي أو إلغاء المرجعية بالنسبة للعقل المسلم وإلغاء التاريخ والارتكاز إلى الشخصية التاريخية الحضارية في المواجهة الحضارية وإلغاء الرؤية الدينية التي تمنح المسلم التضحية والصمود في هـذا الوقت بالذات يتقدم فيه المشروع الصهيوني بكل رؤاه ومرجعياته ليحل محل المشروع الإسلامي – إن صح التعبير – وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بإلغاء المرجعية الإسلامية والمسبقات من التاريخ والحضارة وإحداث الفراغ الذي يمكن من احتلال العقل قبل احتلال الأرض. [ ص: 23 ]

ولعل من الحقائق التي لا مجال لتغييبها أو تجاوزها : أن العلم والمعرفة امتدا وتألقا في التاريخ الإسلامي عندما ارتبطا بمعرفة وهدايات الوحي.. وأن التخلف والعجز والتخاذل الثقافي وغلبة عقلية التقليد الجماعي وشيوع الخرافة وانطفاء الفاعلية والانحسار العلمي لم يتوضع ذلك كله في عالم المسلمين إلا بعد الانسلاخ عن معرفة الوحي وهداياته.. أو بمعنى آخر : إن التخلف والركود العلمي والعقلي في المجتمع الإسلامي كانا ملازمين للانفصال عن العقيدة ( الأيدلوجيا) وليس بسبب الاستمساك بها فلقد قدم الاستمساك بالعقيدة الإسلامية في تاريخنا الطويل كما تمتلك الصحة الإسلامية اليوم التي تعتبر الامتداد الشرعي له – نماذج متميزة جمعت بين الإيمان بالعقيدة وحسن أداء العبادة والالتحام بالتاريخ الحضاري الإسلامي وارتقاء أعلى وأدق التخصصات العلمية في الوقت نفسه واستطاعت بعقيدة التوحيد الذي يمنح الإنسان المؤمن، رؤية متميزة، من الانسجام والوحدة بين الوحي والعقل والروح والجسد والسنن النفسية والسنن المادية والكون والإنسان والعلم والدين أن تقضي على تلك الثنائية العقيمة وتحل المعادلة الصعبة التي أدت إلى الانشطار الثقافي والكثير من مأساة الإنسان ومعاناته.. وأن غياب التوحيد تاريخيا كان ولا يزال وراء الركود والتخلف والتبعثر والانفصام الثقافي إضافة إلى أن العلم أو الحقائق العلمية اليقينية لم تستطع أن تسجل إصابة واحدة على [ ص: 24 ] حقائق الدين وعقائده.

وقد يكون من المفيد ونحن في إطار الكلام عن المسألة التاريخية أن نعرض لقضية أو بشكل أصح أن نفتح ملفها ونحاول استدعاءها إلى ساحة النظر والاهتمام لتحقيق مزيد من الرؤية والتأمل الذي يمكن من تجاوز الصورة إلى الحقيقة ويمنح القدرة على تجاوز النظرة السطحية إلى سيرورة الأحداث إلى رؤية السنن والأسباب التي تكمن وراءها.. تلك السنن الاجتماعية التي تحكم الحركة التاريخية في سياقها العام والتي لما تحظ بعد بالأقدار المطلوبة من الفقه الاجتماعي.. تلك السنن التي تؤكد اطرادها قيم الكتاب والسنة وتقدم من مجتمعات الأنبياء وسيرتهم مع أقوامهم قصصا تكون سبيلا إلى اكتشافها وتلفت النظر إلى أهمية إدراكها واعتمادها في البناء الحضاري الإسلامي قال تعالى: ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) ( يوسف :111 ) .

فالتاريخ ليس حركة عفوية منفلتة من أي سنة أو نظام ولا حوادث متراكمة بشكل عشوائي وإنما هـو خاضع لسنن شرعها الله في الأنفس والآفاق لحكم الحياة والأحياء.. وهذه السنن لا يمكن إدراكها واستدراكها إلا بالتوغل في التاريخ البشري والقيام بمقارنة الأشباه والنظائر والنظر في واقع المجتمعات وحركتها وفعلها كمقدمات ومن ثم استيعاب المآلات [ ص: 25 ] والعواقب التي صارت إليها كنتائج لازمة لمثل هـذه المقدمات. لذلك جاء التكليف الشرعي في أكثر من آية يدعو العقل المسلم إلى السير في الأرض واستكناه الحقائق التي تحكم التاريخ.. وليس ذلك فقط وإنما قدم القرآن الكريم نماذج تطبيقية لهذه السنن من تاريخ النبوة وربط بين المقدمات والنتائج وبين الممارسات وأسبابها والمآلات والعواقب التي صارت إليها أو سوف تصير إليها كل المجتمعات التي تتحقق فيها تلك المقدمات على شكل أشبه ما يكون بالمعادلات الرياضية التي لها صرامة العلوم المادية.

بل نستطيع أن نقول : إن القرآن الكريم تجاوز مرحلة البيان والإخبار بالسنن الحاكمة وتقديم النماذج المؤكدة والدالة على فاعليتها إلى مرحلة التحدي بترتب العواقب على تلك المقدمات في المنهج العلمي تلك النتائج التي يمكن أن تفوت في مرحلة لسبب دقيق لا يدركه المتأمل بسهولة.

ولعل مما يلفت النظر أيضا أن الفعل البشري هـو المختبر الحقيقي لفكر الإنسان وصدقية إيمانه.. فالإنسان في المحصلة النهائية هـو الفعل والإنجاز والأمة هـي التاريخ.. فالتاريخ هـو ثمرة لفكر الأمة وقيمها.. وهو ميدان التقويم الحقيقي أثناء الحكم عليها.. وهو مناط الثواب والعقاب في ميزان العدل المطلق عند [ ص: 26 ] الله.. وهو حلقات متصلة تنتظم الآباء والأبناء والأحفاد وتنشأ في مناخه الأجيال.

لذلك قد لا يكون مستغربا أن يخاطب الله الأمم بتاريخها الطويل ويجعل التاريخ سبيلا للتعرف على هـويتها الثقافية وخصائصها التي كانت وراء أفعالها وممارساتها.. وأن الإنسان إذا لم تدركه عناية الله بهداية الوحي يصعب عليه الانفلات من تاريخه وتجاوزه وتحويل مجراه وذلك بإعادة النظر والمداخلة بمقدماته حتى لا تدركه نتائجه وعواقبه فالإنسان هـو ابن تاريخه من جهة وصانع تاريخه من جهة أخرى.

لذلك رأينا كيف أن خطاب القرآن الكريم لبني إسرائيل ( اليهود ) الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم - وهو بدون شك خطاب مستمر لأحفادهم حتى يوم القيامة؛ لأن الخطاب القرآني خالد ومجرد عن حدود الزمان والمكان – بتاريخ آبائهم وأجدادهم جاء مستوعبا لأفعالهم ومعددا لجرائمهم وإفسادهم في الأرض؛ لأنهم لم يخرجوا عن أن يكونوا أبناء لهذا التاريخ الطويل الذي أراده الله أن يكون وسيلة إيضاح للبشرية.

إن يهود عصر النبوة انحدروا من هـذا التاريخ والتصقوا به ولم ينقدوه ويقوموه وإنما تستروا عليه عندما لم يؤمنوا بالوحي الخاتم علما بأنهم لم يفعلوا فعل آبائهم ويشاركوا في جرائمهم ضد النبوة والإنسانية لكن طالما أن المقدمات موجودة فيهم فسوف تكون النتائج ثمرة لخصائصهم – وكأن مثل هـذه الأفعال أصبحت جبلة فيهم متوارثة بينهم – لإصرارهم على التصاقهم [ ص: 27 ] بتاريخهم لذلك فالنتائج والعواقب سوف تكون واحدة.

من هـنا ساغ أن يخاطبهم القرآن الكريم بتاريخ وأفعال لم يفعلوها؛ لأنهم لم يخرجوا عن الاستمرار في فعل مقدماتها والإقرار بها.

وبقي اليهود هـم اليهود بتاريخهم الطويل سواء في ذلك في عهد موسى وعيسى عليهما السلام أو في تعاملهم مع الرسالة الخاتمة. لذلك قد يكون من الخطورة بمكان القفز من فوق التاريخ أثناء التعامل مع الأمم الأخرى بشكل عام ومع اليهود بشكل أخص.

وقد لا نكون بحاجة إلى التأكيد على دور البيئة الثقافية والتاريخ بخاصة – الذي يعتبر من أهم مواردها ومقوماتها – في تشكيل الإنسان؛ لأن التاريخ في مفهومه الخاص والعام هـو الموروث الذي يحتل الذاكرة التي يحملها الإنسان ويصنعها وتكون بما تختزن من رصيد التجارب في مفهومه الخاص والعام هـو الموروث الذي يحتل الذاكرة التي يحملها الإنسان ويصنعها وتكون بما تختزن من رصيد التجارب بمثابة الموجه الأساس للفعل أو الامتناع عن فعل إلى درجة قد يظن معها انعدام إرادة الإنسان والأمة والخضوع للحتمية التاريخية.

وقد يكون هـذا صحيحا من بعض الوجوه وذلك عندما يفتقد الإنسان القيم الثقافية الخارجة عن وضعه كمعيار للقبول والرفض والانعتاق من التاريخ والآبائية المسبقة.

لذلك قامت الكثير من الدراسات التي تحاول الربط بين الصفات الموروثة والخصائص المكتسبة وزعمت بعض تلك [ ص: 28 ] الدراسات ( السوسيولوجية ) و ( السايكولوجية ) أن الخصائص المكتسبة من التاريخ والبيئة الثقافية يمكن أن تتحول مع الزمن وتوالي الأجيال إلى صفات متوارثة؛ لأن الوراثة ليست عضوية فقط وإنما هـي نفسية وسلوكية أيضا.

ويمكن أن يلمح الإنسان أنموذجا من تاريخ النبوة لاستعصاء الأمة على الصلاح والتحويل الثقافي وذلك عندما تتحرك ضمن دائرة فكرية مغلقة تتوارث فيها الخصائص العضوية والصفات المكتسبة معا وكأن الصفات المكتسبة تحولت عندها إلى خصائص عضوية تتوارثها الأجيال حيث يتوحد عند ذلك العلاج ويتحدد بالاستئصال الشامل لها حتى لا تنتشر العدوى ويعم الضلال وذلك في قوله تعالى حكاية عن قصة نوح عليه السلام مع قومه: ( وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) ( نوح : 26 – 27 ) .. فالفجور والكفر – كصفات مكتسبة – أصبحت أمرا متوارثا فيهم منحدرا في مواليدهم.

وفي ضوء ذلك يمكن لنا أن نبصر بعض أبعاد الخطاب القرآني ليهود عصر النبوة الخاتمة بجرائم آبائهم وأجدادهم في رحلة النبوة ونبصر أيضا أن من معاني الخلود : استمرار وخلود محل الخطاب أيضا.

فالمواجهة مع يهود بصفاتهم وخصائصهم وموروثاتهم الثقافية سوف تستمر حتى يتوقف التاريخ الإنساني وتقوم الساعة وعندها ينطق الحجر والشجر فنتبين مخابئ اليهود في [ ص: 29 ] داخل المسلمين.. لذلك نرى أن أي عدول عن هـذه القناعة أو تعديل لها يعني إلغاء التاريخ وتوقيفا لخلود النص القرآني.

وقضية أخرى قد تكون من الأهمية بمكان ونحن في إطار الحديث عن المسألة التاريخية والتراثية وهي : أن فقدان المنهج والأدوات البحثية السليمة أو المعايير التقويمية الصحيحة والثابتة للتعامل مع التاريخ ودراسته أو فقدان العقيدة وتغييب القيم التي نشأ هـذا التاريخ في مناخها وحاول ترجمتها وتجسيدها في الواقع أثناء عميلة التحليل أو التقويم والنقد للتاريخ ورصد حركة المجتمع سوف يؤدي إلى كثير من المغالطات والمجازفات والضلال.. كما يؤدي إلى إخضاع الحركة الاجتماعية ومحاكمتها لغير قيمها وحملها على أهداف وصبها في نظريات ومعايير وتفسيرات خارجة عنها الأمر الذي يوصل بالضرورة إلى تقطيع الصورة واهتزاز نسبها وتضخيم بعض جوانبها وإخفاء بعض حقائقها وعند ذلك يتعرض التاريخ للانتهاب والقراءة بغير أبجديته ويتحول إلى عامل هـدم وتشتيت وتفريق بدل أن يكون عامل توحد وبناء ودرس وعبرة لتقويم الحاضر وحسن بناء المستقبل ذلك أن التاريخ من أهم عوامل هـدم وتشتيت وتفريق بدل أن يكون عامل توحد وبناء ودرس وعبرة لتقويم الحاضر وحسن بناء المستقبل ذلك أن التاريخ من أهم عوامل بناء الأمم ومقومات وجودها واستمرارها وسبيل التعرف على عقلها الجماعي كما أنه يشكل أحد أهم الأدلة للنهوض بها ويقدم النماذج الممتازة لتكون محل أسوة واقتداء والنماذج الرديئة لتكون محل نفر وحذر وذلك عندما يكون منهج الدراسة للتاريخ وليد العقيدة التي أنتجت [ ص: 30 ] هذا التاريخ وهذه الحضارة.

أما عندما تعمل في تقطيعه سكاكين الخارجين عليه وذلك بالاعتماد في قراءته على المناهج والنظريات والفلسفات الأخرى يتحول إلى عامل هـدم وتخريب.. والفرق كبير جدا بين الذي يرى في سيدنا خالد وأبي عبيدة رضي الله عنهما حاملا لمشعل النور والخير والتوحيد والقضاء على الفرعونية تكريس ألوهية البشر وعبادة الإنسان للإنسان وبين من يراه مستعمرا للعقلية الفرعونية.. وبين من يرى أن الفتوحات الإسلامية كان هـدفها تحرير الإنسان واسترداد إنسانيته وتحقيق حرية اختياره ونسخ الألوهيات البشرية ومن يراها تحركت بدوافع مادية اقتصادية.. بين من يفسر التاريخ الإسلامي على أنه صراع طبقي بين الفقراء والأغنياء..

وهكذا تستمر القراءات المخطئة التي تجافي في طبيعتها وأبجديتها أهداف ومنطلقات التاريخ الإسلامي وتخضع للشائع من النظريات الإقليمية أو القومية أو الماركسية أو الرأسمالية لإيجاد الغطاء التاريخي والتراثي الذي يسهل لهذه النظريات [ ص: 31 ] والمعتقدات الخارجة عن الإسلام التسلل إلى العقل المسلم لذلك لم تزدد الأمة إلا عنتا وخبالا وبالتالي تحول التاريخ إلى عبء ومعوق للأمة بدل أن يكون دليل نهوض وصمود وأن يشكل دافعا لها.

ومع الأسف الشديد يمكن أن نقول : إن كل المذاهب والاتجاهات الفكرية الغربية توفرت على دراسة وقراءة وإعادة كتابة التاريخ الإسلامي في الوقت الذي ما نزال نحن نحذر من خطورة ذلك بحماس وضجيج دون أن ننضج بحثا أو نقدم شيئا من المطلوب.

والحقيقة التي قد تقتضي شيئا من الإبراز والتوضيح أن التاريخ الإسلامي في مراحله المتعددة هـو من فعل بشر لهم إرادتهم ودوافعهم ومستوياتهم وأخطاؤهم

بما في ذلك فترة السيرة والخلافة الراشدة التي تعتبر أنموذج الاقتداء وإن كانت ميزة مرحلة السيرة أن حركة المجتمع تصنع على عين الوحي وتتحرك بقيادة النبوة وأن تقويم حركة المجتمع في هـذه الفترة كان يتم من قبل الوحي بالتصويب للخطأ وبالإقرار للصواب لذلك استحقت أن تمثل مرحلة القدوة.. وأنه قد يلمح في مسيرة التاريخ الإسلامي أو حركة المجتمع الإسلامي فترات ضعف واضمحلال وركود وجنوح وصعود وهبوط وبروز بعض الدوافع وغياب بعض القيم الأمر الذي يمكن اعتباره من طبيعة الإنسان وابتلاءاته المتعددة في التكليف لكن يمكن أن نقول : إن المشروعية الكبرى كانت دائما لقيم [ ص: 32 ] الكتاب والسنة وأن عمليات التصويب والتقويم والنهوض كان معيارها الكتاب والسنة.

وطالما أن التاريخ الإسلامي هـو فعل بشر يجري عليهم الخطأ والصواب وليس فعل ملائكة فلا بد أن يكون هـناك أخطاء سواء في ذلك الحاكم والمحكوم ولو لم يكن التاريخ الإسلامي من فعل البشر فيه الخطأ والصواب لما استحق أن يكون مصدر درس وموضع اعتبار للبشر.. وكون التاريخ ثمرة لاجتهاد بشري غير مقدس فهذا يقتضي بالضرورة وجود مدارس فكرية متعددة واجتهادات متنوعة ومعارضات كثيرة وتعددية في الرأي وإدانة لبعض الممارسات أو السياسات كذلك كانت حسبة الأمر بالمعروف النهي عن المنكر تأخذ أشكالا ومستويات عديدة.

وعلى الرغم من أن حسبة الرقابة العامة التي هـي دين من الدين أو هـي أعلى درجات التدين والمجاهدة مع ذلك لم تتطور ولم تتأسس في المجتمع المسلم على الشكل المطلوب إلا أنها لم تنقطع أبدا لذلك لم يكن الحك الإسلامي في التاريخ يمثل صورة للحكم الديني ( الثيوقراطي ) في أوروبا كما يجب أن يصوره بعض الباحثين ليحذر منه أنه كان يمثل نوعا من الإرهاب الفكري والأحكام المقدسة التي لا مجال لمعارضتها ومناقشتها ويعتبر الحاكم فيها ممثلا لإرادة الله على الأرض أو هـو ظل الله على الأرض وأن أوامره مقدسة وأنه نائب عن الله حيث قضت البشرية ردحا طويلا من عمرها اقترنت فيه [ ص: 33 ] الألوهية بالحكم حتى جاء الإسلام وصوب المعادلة واعتبر الحاكم بشرا يجري عليه الخطأ والصواب وجعل تقويمه والأخذ على يديه تكليفا شرعيا وجعل السكوت عن انحرافه مدعاة لحلول عذاب الله بعموم الأمة أنه ليس بالضرورة خير الناس ولا أفضلهم ولا أدل على ذلك من كلمة أبي بكر رضي الله عنه أول خليفة بعد انقطاع الوحي: " وليت أمركم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني " لذلك نشأت في التاريخ الإسلامي آراء وأفكار وفرق وممارسات متنوعة وقد نقول : إن بعض هـذه الأفكار جاء نبتا خارجا عن الإسلام أو خارجا عن الملة إذا وزن بموازين الكتاب والسنة.

وعلى الرغم من وجود مثل هـذه النباتات الشاذة في المجتمع والتاريخ الإسلامي إلا أنه لا يمكن وصفها بالإسلامية بمعايير القيم إلا إذا أردنا بذلك أنها نشأت في المجتمع الإسلامي بالمدلول الجغرافي.. والحقيقة التي من المفيد إبرازها : أنها جاءت ثمرة للحرية الفكرية وعدم الإرهاب الديني على الرغم من أنها لم تستطع – أي هـذه الأفكار الخارجة عن الملة – أن تعمر أو تفتح مجرى عاما في الحركة التاريخية؛ لأن المشروعية الكبرى بقيت للقيم وليس لأشخاص الحكام أو المتسلطين الطارئين على السلطة والحكم.. وكان المسلمون ينحازون إلى القرآن كلما تعارض مع السلطان..

واستمرت مرحلة السيرة كمرحلة تطبيقية معصومة وبعدها فترة الخلافة الراشدة هـما المعيار دون سواهما لانقطاع [ ص: 34 ] الرشد الشامل في الإطار السياسي على الأقل ولعل ذلك هـو خير من بعض الوجوه – كما أسلفنا في التقديم للجزء الأول من هـذا الكتاب – حتى تبقى القيم في الكتاب والسنة وتطبيقاتها على عين الوحي وقيادة النبوة هـي الأنموذج الذي يشكل صورة النموذج الإسلامي السياسي المحتذي والمطلوب والذي تعير من خلاله فترات التاريخ جميعا ويمنح المسلم رؤية أو أنموذجا في الإطار السياسي يعمل للوصول إليه ولا يقبل بما هـو دونه.

لذلك نرى إذا حاولنا استقراء المسيرة التاريخية الإسلامية أنه مهما ترقى النظام السياسي واقترب من الكمال في الفترات المختلفة تبقى صورة الخلافة الراشدة هـي المثال المطلوب للمسلم.. وبمقدار ما حققت هـذه الرؤية الراشدية وهذا النقد السياسي من التمسك بالقيم في الكتاب والسنة والإيمان بقدرتها على إعادة البناء بمقدار ما حققت من الصمود في وجه التقصير والانحراف وحمل المتاعب للكثير من الحكام في التاريخ الإسلامي؛ لأن ممارساتهم لم تقنع المسلمين الذين يتمثلون النموذج الراشدي الذي يحنون إليه ولا يرضون بما هـو دونه مهما علا وسما وترقى.

ومن باب أولى أن نقول : إن هـذه الرؤية الراشدية في المجال السياسي حالت دون ذوبان المسلم وسقوطه أمام الحكام الظلمة والنظريات السياسية الوافدة كما حالت دون التحريف السياسي حالت دون ذوبان المسلم وسقوطه أمام الحكام الظلمة والنظريات السياسية الوافدية كما حالت دون التحريف السياسي ومنحه المشروعية وكان دائما قادرا على الاحتفاظ بالشخصية التاريخية الراشدة التي تشكل له معيار القبول [ ص: 35 ] والرفض وفي ضوء ذلك يمكن أن نعيد قراءة المقولة الشائعة في التاريخ الإسلامي : " رحم الله عمر لقد أتعب من جاء بعده " ومن هـنا يمكن أن ندرك الأبعاد الكاملة لمقولة عبد الملك بن مروان – وهو ما يزال قريب عهد بالدولة الراشدة – لما سمع جماعة من أصحابه يذكرون سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال : " أنهي عن ذكر عمر فإنه مرارة للأمراء مفسدة للرعية " ( ابن كثير، البداية والنهاية، 9/ 71 ) وبعد :

فإن هـذا الجزء الثاني من الكتاب الذي نقدمه في إطار السلسلة يجيء مكملا للجزء الأول حيث كان لا بد بعد الكلام عن قيم المجتمع الإسلامي من أن يستتبع ذلك بنماذج تطبيقية لفاعلية واستمرار هـذه القيم في الواقع وكيف تعاملت معها الصفوة من العلماء والفقهاء والعامة في فترات متعددة وأماكن متنوعة أيضا لعل ذلك يشكل دليلا من أدلة النقد والتقويم والتحليل التاريخي يبصر بكيفيات التعامل مع هـذه القيم ويحدد مواطن التقصير وأسباب القصور فيحقق الدرس والعبرة الضرورية لاستئناف الحياة الإسلامية ووضع الخطط الأساسية التي تحقق استشراف الماضي وفهم الحاضر لبناء المشروع الإسلامي للنهوض في المستقبل الذي يمكن من إعادة إحداث التفاعل بين الإنسان والإسلام ويسترد دور المسلم والأمة المسلمة في الشهود الحضاري استجابة لقوله تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) ( البقرة : 143 ) . [ ص: 36 ]

التالي


الخدمات العلمية