صفحة جزء
تقديم

بقلم: عمر عبيد حسنة

الحمد لله القائل: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله .. ) ( آل عمران : 110 ) ، الذي جعل خيرية هـذه الأمة وتميزها، وقوامها، وكيانها، وخلودها، واستمراريتها، منوطا بقيامها بالحق، والدعوة إليه، والنشر له، والإغراء به، واستمرار حراسته، والدفاع عنه، حيث لم يرض الله لها وهي أمة الرسالة الخاتمة أن تكون صالحة بذاتها، بل لا بد أن تكون صالحة بذاتها، مصلحة لغيرها، مضحية في سبيل تمكين الحق، مدافعة للباطل، حتى تستحق صفة الخيرية، والتميز، والفضل.

قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هـو أقرب للتقوى ) ( المائدة : 8 ) .

ذلك أن الخاتمية تعني فيما تعني : توقف النبوات : وتوقف النبوة، يعني : توقف التصويب من السماء، لأي منكر وخروج وانحراف لذلك لا بد من أن تكون القوامة على الحق ويكون التصويب مستمرا، لأن الشر من لوازم الخير، والمنكر من لوازم المعروف، والتدافع بين الخير والشر، والمعروف والمنكر، من سنن الله الاجتماعية في الخلق، [ ص: 7 ] قال تعالى: ( كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ( الرعد: 17 ) .

وقال : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا .. ) ( الحج : 40 ) .

ولولا هـذا الضرب، بين الحق والباطل، وهذا التدافع، بين الخير والشر، لتوقف التاريخ، وانتهت الحياة، وتوقف الاختيار، ولم يبق أي معنى للتكليف وأي مدلول للابتلاء، لذلك جعل الله التصويب في الرسالة الخاتمة، وفي أمة الرسالة الخاتمة ذاتيا، يمارس في ضوء قيم وهدايات وثوابت الوحي، وجعله تكليفا شرعيا، يتحدد بمقدار الاستطاعة، وسبيلا لاستمرار الأمة، ومناط خيريتها، وتميزها، كما أسلفنا.

ذلك أنه لا معنى لخلود الرسالة، الذي يعني استمرار الحق، واستمرار حراسته، والقيام به، وتقديم النماذج التي تجسدها في كل زمان ومكان، إذا لم يستمر التصويب ويستمر التجديد وإنتاج النماذج وتستمر الأمة القائمة به.

والصلاة والسلام على الذي بعث في الأمة رسولا منها، يتلو عليها آيات الله، ويزكيها، ويعلمها الكتاب والحكمة، ويضع عنها إصرها والأغلال التي كانت عليها، يشهد عليها، ويصوب مسارها لتتحقق لها صفة الخيرية، وتتأهل بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، لتكون شهيدة على الناس إلى قيام الساعة .. فهي أمة القيادة بما أورثها الله من الكتاب، واصطفاها له، لأنها وحدها التي تمتلك الإمكان الحضاري، [ ص: 8 ] إمكان التصويب، بما اختصت من قيم السماء الصحيحة، وتمتلك الشهادة على الناس، ولهم، بما تحقق لها من شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : ( وفي هـذا ليكون الرسول شهيدا عليكم، وتكونوا شهداء على الناس... ) ( الحج : 78 ) .

وبعد :

فهذا كتاب الأمة الحادي والأربعون : " فقه تغيير المنكر " للدكتور محمود توفيق محمد سعد ، الأستاذ في جامعة الأزهر، في سلسلة كتاب الأمة، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر ، مساهمة منه في استرداد شخصية المسلم المعاصر المتوازن الذي يعيش التوحيد الحقيقي والانسجام العملي، بين معارف وهدايات الوحي المعصوم في الكتاب والسنة، ومدارك ومكتسبات العقل، أو بين صحيح المنقول، وصريح المعقول، كما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله ويتخلص من الثنائية وألوان الشرك الذي يؤدي إلى الانشطار الثقافي والمعرفي، الذي كان ولا يزال وراء التمزق والضلال الثقافي، للوصول إلى إعادة إخراج الأمة المسلمة، وتحقيق شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، وبناء خيريتها، لتكون مؤهلة للشهادة على الناس والقيادة لهم، هـذه الخيرية التي تجيء ثمرة لتكليف، ومجاهدة، ومعاناة، وتضحيات في سبيل التصويب والمناصحة، التي تحققها حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتقويم سلوك المجتمع المسلم بشرع الله، وحمل الرحمة للإنسانية جمعاء، وإيقاف تسلط الإنسان على الإنسان الذي هـو مصدر الشر والشرك في العالم، وتأمين حرية الإنسان في [ ص: 9 ] الاختيار، وتحقيق عبوديته لله، وتحريره من سائر العبوديات، وفي ذلك استرداد لإنسانيته، وتحقيق لكرامته، التي تميزه عن سائر المخلوقات.

ولعل من المداخل الرئيسية والأساسية لمشروعية التقويم، والنقد، والمناصحة، والمراجعة، والمعارضة، والاختلاف، والتعددية، في التصور الإسلامي، والذي يتمثل في أداء حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي تكون بها خيرية الأمة المسلمة، وأهليتها، وامتدادها : أن نسارع إلى إيضاح دور الإسلام في تصويب المعادلة، وتحرير العلاقة بين الإنسان والسلطة، أو بين الحاكم والمحكوم، أو بين الأساس العقدي الديني لهذا العقد الاجتماعي، الذي يجعل من حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مسئولية تضامنية ودينا، لا يمكن إسقاطه أو تجاوزه أو التساهل فيه، بل لعلنا نقول : إن الأساس العقدي الديني،هو الذي يستدعي هـذه الحسبة، ويضمن شرعيتها ومشروعيتها، ويرتب عليها التمكين للحق، والاستقامة، والخيرية في الدنيا، والثواب في الآخرة.

ذلك أن العلاقة بين السلطة والطغيان، والعلو في الأرض، أخذا حيزا كبيرا في تاريخ البشرية الطويل، حتى لتكاد تكون علاقة تلازم، حيث كان يصعب على صاحب السلطة، أن يقبل نصحا، أو يعتر ف بخطأ، أو منكر، أو يتصور وجود سلطان، أو رأي، أو حتى إله غيره، يتجه إليه الناس. لذلك نرى أن قولة فرعون، كأنموذج للحاكم الظالم المتأله في التاريخ البشري : ( ما علمت لكم من إله غيري ) ( القصص : 38 ) ، هـي قولة خالدة يتلبس فيها كثير من حكام الاستبداد السياسي، ويمارسونها دون أن يعلنوها

صراحة، ولولا ذلك لكان القرآن [ ص: 10 ] كتاب قصة ماضية، وليس كتاب عبرة خالدة باقية، مجردة عن حدود الزمان والمكان.

ولسنا بحاجة إلى استقراء ذلك، والتدليل عليه من تاريخ البشرية الطويل، ورحلة المعاناة الإنسانية، وما مر فيها من الفراعين، والنماريد، والقوارين، حتى لقد بلغ الغرور بصاحب السلطة في بعض أطوار التاريخ، التوهم بأنه قادر على مغالبة سلطان الله في المنح والمنع، والإحياء والموت، وليس ذلك في إطار الأمور والمسالك الظاهرة فقط، وإنما التوهم بالقدرة على تعبيد الناس من داخلهم، لذلك استغرب فرعون واستنكر على السحرة إيمانهم ومعارضتهم عندما بدت لهم الحقيقة فقالوا :

( آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ) ( الشعراء: 47- 48) .

فما كان منه إلا أن قال: ( آمنتم له قبل أن آذن لكم، إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ) (الشعراء: 49) ،

وكأن الإيمان والكفر، والاختيار المقترن بسلطان الحق والدليل، بحاجة لإذن السلطان (الإنسان) .

لذلك نرى أن الكثير من أصحاب السلطان والحكام في التاريخ البشري الطويل، حتى عند اعترافهم بوجود الله، لم يعترفوا بسلطانه على الأرض، وعند اعترافهم بهذا السلطان، يحاولون تشويه صورة العبودية لله تعالى، لتكون في خدمتهم، فيجعلون من أنفسهم آلهة في الأرض، نيابة عن إله السماء، ويعلنون أنهم المتحدثون باسم الله، أو المفسرون لتعاليمه، وبذلك يلغون مشروعية أي رأي معارض، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، باسم الدين، بحيث يصبح فعلهم هـو [ ص: 11 ] المعروف والحق المطلق، وكل من يناقشهم أو يعارضهم، أو يناصحهم، عاصيا لله تعالى، يعاقب بالتحريق، والتقتيل، وإلغاء الحياة.

لقد عانى الإنسان من هـذا الحكم باسم الدين، أو ما عرف بتاريخ أوروبا باسم الحكم الثيوقراطي الذي يحاول بعض العلمانيين إسقاطه على الإسلام اليوم أشد المعاناة، حيث لم يعد الحكام يتسلطون على دنيا الإنسان، ويلغون وجوده واختياره، وإنما يمتد التسلط، ليشمل أخراه ومصيره ( !) وكان من المستحيل عقلا ووقعا، أن يستمر هـذا التسلط والتأله، منفصلا ومنكرا لله تارة ومستخدما اسم الله وإرادته تارة أخرى.

ونستطيع أن نقول بكل الاطمئنان الذي يشهد له التاريخ، وتؤكده القيم الإسلامية : إن الإسلام هـو الذي أعاد الأمور إلى نصابها وصوب معادلة الإنسان والسلطة، وجسد هـذا التصويب في الواقع العملي للناس، وذلك عندما نزع صفة الألوهية عن كل المخلوقات، وأعلن المساواة في الإنسانية، والخلق، بين الحاكم والمحكوم، والغني والفقير، واعتبر أن السلطة هـي في نهاية المطاف تكليف، وأمانة، وإجارة، وليست إمارة، وتشريفا، وتعاليا، وتسلطا، وأنها مسئولية، من أعلى وأعظم المسئوليات، وأن السلطان إنسان مخلوق ملتزم بشرع الله، وملزم به، وأن بيعته، لا تنعقد إلا بهذا الالتزام، وطاعته لا تستمر إلا بالمحافظة على هـذا الالتزام، وأن الأمة مسئولة، أفرادا وجماعات، عن مراقبة هـذا الالتزام، ومدى سلامته، وأن بيعته تنحل، والطاعة له تتوقف في كل أمر بمعصية .. وقد يكون الأمر فوق ذلك، فلا يقتصر [ ص: 12 ] الأمر على التعامل السلبي وهو توقف الطاعة بل يتجاوز إلى تحقيق الفعل الإيجابي، والتكليف الشرعي بالتقويم، الذي يتأتى من حسبة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، التي لم تعد في الإسلام فعلا وكسبا وتكليفا ومسئولية للمحكوم، بل أصبحت مطلبا واستدعاءا من الحاكم نفسه.

ولعل في قولة أبي بكر الصديق رضي الله عنه كأول خليفة في الإسلام، بعد توقف الوحي، ما يعتبر عقدا اجتماعيا سياسيا، ودليل عمل وتعامل في الإطار السياسي، وهو الموقع الأخطر والأدق، في تاريخ العلاقة بين الإنسان والسلطة، " يقول أبو بكر رضي الله عنه في أول كلمة له بعد الخلافة : وليت أمركم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأطيعوني، وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. "

ولا غرو في ذلك، فأبو بكر رضي الله عنه ، هـو صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي استقى منه المعنى الإسلامي الذي يحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهو أحد رواة الحديث النبوي الشريف الصحيح، الذي ( يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) ( رواه أبو داود ، والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة ) .

وفي هـذا نرى أن الإسلام لم يكتف بإباحة عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما أوجبها.. والحاكم المسلم، لم يكتف بالسماح لها، وإنما استدعاها وأصلها، حتى يكون التزام المسلم بالفكرة، [ ص: 13 ] والالتقاء عليها وليس الالتزام بالأشخاص، والجماعات، وحتى تكون معايرة القبول والرفض، بالحق والمبدأ والقيمة، وحتى تؤصل قاعدة معرفة الأشخاص بالحق، لا معرفة الحق بالأشخاص ويصبح معيار المسلم : اعرف الحق تعرف أهله،وهذا يعتبر المدخل والأساس الشرعي لحسبة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

ولعلنا نلمح من هـذا أن عملية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ليست مهمة المواطن وحده من دون الحاكم، بل هـي مسئولية تضامنية للجميع، يهدد غيابها بهلاك المجتمع كله، وعموم عقاب الله تعالى، وهي دين وشرع من الله، لا تتوقف على إذن أحد، فهي ليست وظيفة الحكومة فقط، ولا وظيفة أفراد بأعيانهم، لهم صفة رسمية، وإنما هـي وظيفة جماهيرية .. وظيفة الأمة كلها.

وهنا قضية قد يكون من المفيد أن نعرض لها، ولو بقدر بسيط، وهي أن حسبة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو ما يمكن أن يطلق عليه مصطلح : المناصحة، أو النقد، أو التقويم، أو المراجعة، أو المعارضة، بالمصطلحات السياسية، والمفهومات الحديثة، لا تتحد في ضوء الانتماءات السياسية، أو الحزبية، أو الفكرية، أو الاجتماعية، وإنما ترتبط بالإيمان بالقيم الشرعية ابتداء وانتهاء، لذلك قد يكون للمعارضة السياسية في الإسلام مفهوما خاصا بها، على خلاف واقعها في الأنظمة السياسية، وبخاصة الديمقراطية منها، ذلك أن الأنظمة الديكتاتورية لا مجال فيها للرأي الآخر، وإنما كيانها قائم على إلغاء الآخر. فالمعارضة والموافقة إنما تدور مع الحق والمعروف حيث يدور، [ ص: 14 ] وتنحاز له، وتدافع عنه، سواء كان مطروحا من الحكومة، أو كان مطروحا من المعارضة السياسية، فالمسلم يصنف في جانب الحق والمعروف، وينضم إلى الحق، وينصر صاحبه،ويناصح صاحب المنكر، وينكر على صاحب الباطل، والمنكر حتى ولو كان من أخص جماعته، بل لعل مسئوليته عن جماعته، وما تقع به من المنكرات، أعظم وأخص.

وفي تقديري لو أن العاملين للإسلام فقهوا هـذه الحقيقة، وهم فاقهوها، بلا شك من الناحية النظرية على الأقل، لكن لو تدربوا على ممارستها عمليا، وتجاوزوا بمواقفهم بعض الضغوط السياسية والاجتماعية التي تحملهم إلى ردود الفعل الغاضبة في بعض الأحيان، لاستطاعوا أن يقدموا أنموذجا متفردا يثير الاقتداء، في عالم السياسية والاجتماع، ولبرهنوا للأمة بشكل عام، ولخصومهم بالدرجة الأولى، على أنهم دعاة حق ومعروف، حتى ولو كان القائم به وعليه عبدا حبشيا، كأن رأسه زبيبة، وليسوا طلاب مناصب، وتحقيق مصالح آنية، ولبرهنوا أيضا أن الجماعات والحكومات والتنظيمات في التصور الإسلامي، ما هـي إلا وسائل لإحقاق الحق والأمر بالمعروف، وإنكار الباطل، والنهي عن المنكر.

وقد تكون المشكلة الأساسية : في امتلاك القدرة،والصبر على تحقيق النتائج، وعدم الاستعجال للوصول إليها، لأن من طبيعة هـذه الممارسة بطء ترتب النتائج المرجوة عليها، ذلك أن الأمر يقتضي الصبر والمصابرة والمرابطة جميعا. [ ص: 15 ] لذلك قد تكون المشكلة كل المشكلة، في خضوع العاملين للإسلام لقواعد اللعبة الديمقراطية بالمفهوم السياسي الغربي، وانسلاكهم في إطارها، في القبول والرفض، والموافقة والمعارضة، وعجزهم عن تقديم أنموذج المفهوم الإسلامي، بأبعاده المطلوبة في حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد تكو مشكلة العقل المعاصر الذي تشكل في المناخ الاستعماري والصليبي : في تعصبه، ونظرته الآحادية، وعدم إبصاره لكثير من القضايا، والحكم عليها، إلا من جانب واحد، أو هـو العقل ذو البعد الواحد، أو الإنسان ذو البعد الواحد، إن صح التعبير.

ولعل أبرز مظاهر التعصب : التوهم أن ما يمتلكه الإنسان من رؤية ومعرفة، يمثل الحق المطلق، والمعيار الأساس، الذي يمنع صاحبه أن يبصر غيره، ولا يرى إلا من خلاله، للمنكر والمعروف، والمقبول والمرفوض.

وهذا الأمر يتجلى، أكثر ما يتجلى، اليوم في النظر للإسلام، والحكم عليه، من خلال مجازفات، وأهواء، ورغائب، تزري بالعقل حقيقة، لأنها دون البحث الموضوعي، والنظر العلمي، والمنهج المعرفي الصحيح، لأن هـذه النظريات الجائرة للإسلام، والحكم عليه، هـي مذاهب تعصبية، وليست مناهج بحثية موضوعية.

فعلى الرغم من أن الإسلام اعتبر التدين اختيارا ابتداء، وليس إجبارا، وجعل الحاكم بشرا، يجري عليه الخطأ والصواب، لأول مرة في تاريخ البشرية الطويل، وجعل مناصحته ومراجعته، وأمره ونهيه، دينا، [ ص: 16 ] وجعل طاعته واستمراره، مرهونا بالتزامه بالشرع الذي اختير لحراسته والقيام به، وجعل عزله عند العدول عن إقامة الشرع، واجبا شرعيا للأمة، وجعل التعددية والمعارضة شريعة، وجعل العلاقة بين الحاكم والمحكوم، عقدا اجتماعيا، له مقوماته، وأركانه، وشروط استمراره الأمور التي يدعى لها أنها من ركائز الديموقراطية المعاصرة مع ذلك كله، يستمر أعداء الإسلام المتعصبون بالقول : بأن الإسلام عقبة في وجه الديموقراطية (!) .

نحن هـنا لا نريد أن نبحث، أو نمارس عملية المقاربة بين الديموقراطية الغربية، ورقاباتها، والشورى الإسلامية، وأبعاد حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا المقاربة أيضا، لأن الأمر ليس موضوعنا هـنا، وإنما نريد أن نوضح أنه على الرغم من حرية الرأي التي تتيحها حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوجبها، وتستدعيها، حتى لم تعد في الإسلام حقا فقط، بل أصبحت واجبا أيضا، وأنها منوطة بالجماهير المسلمة كلها، والتي سبق إلى تقريرها الإسلام، في الوقت الذي كانت أوربا تعيش ظلام الحكم الإقطاعي، واستبداد الحكم الثيوقراطي الديني ... مع ذلك يبقى الإسلام، إرهابيا، وأصوليا، في طبيعته، ويبقى عقبة أمام الديموقراطية (!!) .

انظر : الدين والموجة الثالثة ( Religion and the third wave ) ، صمويل ب. هـنتنجتون، مجلة ذي انترناشونال إنترنت، العدد 24، صيف 1991 م ) .

وهنا قضية أرى أنه لا بد من إعادة طرحها، والتذكير بها، لأنها ليست جديدة، وإن كان الواقع الذي انتهى إليه الناس، يقتضي إعادة [ ص: 17 ] طرحها، وتجديد النظر إليها وهي : أن الحسن والقبح، أو التحسين والتقبيح، أو المنكر والمعروف، لا بد أن يكونا شرعيين، وأن يكون الشرع الإلهي هـو معيار التعرف عليهما، والحكم بقبولهما، أو ردهما.

ونحن هـنا لا نقول بنفي العقل، ولا نحكم بعدم قدرته على التمييز الفطري، والكسبي، نتيجة التجارب والتراكم المعرفي، والمسح الاجتماعي، بين الحسن والقبيح، والمعروف والمنكر، وإنما الذي نريد إيضاحه : أن العقل معتمد شرعا، في ميدانه واستطاعاته، وأنه محل النظر، والتفكير، والتمييز، والاعتبار، والتكيف، وإدراك مقاصد التشريع وحكمته وعلته، لكن العقل باستطاعاته النسبية، وإمكاناته المقيدة بحدود الزمان والمكان، وكسبه المعرفي والعلمي المحدود، الذي يعتر جزئيا، وبعيدا على الإحاطة، لا يستطيع، لا عقلا ولا وقعا، أن يستقل في عملية التحسين والتقبيح، أو التعريف والإنكار .. بل لا بد له من إطار مرجعي يتحرك في نطاقه، وضوابط منهجية مستمدة من الوحي المعصوم، الصادر عن العليم،، علما مطلقا، ومحيط إحاطة كاملة، غير خاضع لقيود الزمان والمكان، ونسبية الإمكانات والمعارف، وغير خاضع للشهوة والهوى ونوازع الشر، والضغوط الاجتماعية، والرغبة والرهبة في الحكم على الأمور، ومعايرة المنكر والمعروف.

لذلك نرى أن الحضارة المنسلخة عن مرجعية الدين، وضوابطه المنهجية، تدفع اليوم ضريبة هـذا الانسلاخ، من أمنها النفسي، وسعادتها الأسرية، وعلاقاتها الاجتماعية، وتتفشى فيها الأمراض الجنسية والاجتماعية، التي لم تكن في أسلافها، حيث أصبح المنكر [ ص: 18 ] فيها معروفا، والمعروف منكرا، وتتغلب فيها المتع واللذائذ الفانية، على السعادة الباقية، وتزداد يوما بعد يوم العيادات النفسية، والأمراض الجنسية، لأنها تفعل في ناديها المنكر، إلى درجة أصبح يروج معها للشذوذ والانحراف، باسم الحرية الشخصية، وترتفع الأصوات هـنا وهناك لتحقيق الشرعية القانونية للشذوذ والمنكرات، بعد أن كادت تتحقق له الشرعية الاجتماعية.

وحتى العقل الذي التجأوا إليه كبديل للوحي، لم يلتزموا بأحكامه، ويقفوا عند حدوده، وإنما تجاوزوه، وأصبح عند الكثير منهم يمثل الصورة المزيفة للإنسان، لأنه يقيد حريته، ويحول دون رغباته، ويأمره بالتكيف حسب أعراف المجتمع، لذلك فما على الإنسان الذي يريد أن يستمتع بحياته، إلا أن يسقط هـذا العقل، وينطلق هـكذا بشكل بوهيمي، يفعل ما يحلو له ( في مذاهب الوجودية واللامنتمي) .

وهكذا عندما تكون معايير المعروف والمنكر من وضع الإنسان، تصبح القيم كدمى الأطفال، يحركونها كيف يشاءون، إذ لا يمكن أن تكون القيم من وضع الإنسان، ومن ثم يقيد نفسه بها.

وقضية أخرى، قد يكون من المفيد الإشارة إليها، ولو سريعا، وهي : أن الأمة المسلمة التي اصطفيت لوراثة الكتاب الخاتم، لم تقتصر شهادتها ومعاييرها وتصويبها للحاضر، واستشراف وبناء المستقبل، وتقويم سلوكه في ضوء هـدايات الوحي، وإنما امتدت شهادتها ومسئوليتها لتقويم التاريخ، وتحقيق العبرة منه، ببيان العلل والإصابات، والسنن التي حكمت السقوط والنهوض الحضاري، حتى تأخذ الأمة المسلمة حذرها، وحتى لا تنتقل علل الأمم السابقة إلى أمة الرسالة الخاتمة، [ ص: 19 ] وهي بذلك المعنى أمة خالدة ممتدة المقاصد، شاهدة على الزمن، بأبعاده الثلاثة: التاريخ الماضي، والحاضر والمستقبل.

هذا الشهود الحضاري، أو هـذه الحسبة في القوامة على الحق، التي تقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تخص جيلا، ولا زمانا ولا مكانا، وليست حكرا على جماعة أو فئة، أو حكومة، أو حزب، أو طائفة، وإنما هـي وظيفة الأمة بكل أجيالها المتداخلة، وسبب خيريتها، وسر بقائها واستمرارها، ومبرر وجودها، ولا خير فيها إن لم تقم بها وتدعو إليها، وتستمر في القوامة عليها وحراستها.

والأمر اللافت للنظر، أن أمر هـذه الحسبة القوامة على الحق، ومقتضياته من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ارتبط بالأمة بكل مفهومها وعمومها، بنص القرآن، ولم يرتبط بالدولة، ولا بالحكومات التي قد تضعف عنه، وقد تقوى له، وقد تكون لها ظروفها وعلاقاتها التي تحول بينها، وبين القيام بهذا الخير، لذلك رأى الكثير من المفسرين في قوله تعالى : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هـم المفلحون ) ( آل عمران : 104 ) ،

أن كلمة ( من ) في ( منكم ) ، بيانية تعم جميع الأمة، ولا تقتصر على فئات وشرائح منها، لتكون حراسة الحق ورقابته عامة، ومسئولية تضامنية، ولتكون عقوبة القعود عنها، جماعية تنال حتى الصالحين من الأمة، إذا حاولوا النجاة بأنفسهم فقعدوا عن القيام بالمسئولية،

لذلك قال تعالى : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ( الأنفال : 25 ) . [ ص: 20 ] فالظالمون الخارجون على القيم لا بد من ردعهم، وردهم، ووقوف الأمة بوجههم، حتى لا يشيع الفساد والمنكر، ويعم ويكثر الخبث، وتهدد الأمة بالسقوط، وتأتي هـنا ( قولة أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها للرسول صلى الله عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث ) ، لتشكل الرؤية الشرعية التي لا بد أن تتحقق في كل مسلم.

وقد تكون المشكلة حقيقة اليوم، وقد عمت الفتنة، وكثر الخبث، وأصبحت معها الأمة مهددة بالهلاك، لانعزال الصالحين عنها، وانسحابهم من المجتمع، وقعود الكثير منهم عن القيام بحسبة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير ... قد تكون المشكلة بأن مناخ الفتنة والهزيمة النفسية، وتربية حواس الذل في الأمة والتطبيع على الهزيمة، والمنكر، وتأليفه للنفوس، في أن ينعكس هـذا التطبيع على فهم النصوص، الداعية إلى القوامة على الحق، والتضحية في سيبله والجهاد من أجله، ومحاولة تفسيرها وتأويلها بما يكرس الهزيمة ويوطن الفساد، ويمكن له في الأرض، ويؤذن بتتابع الأزمات وخراب العمران.

وعملية تطبيع الهزيمة، وتفسير النصوص في الكتاب والسنة، وتأويلها في إطار مناخها ووفق مقتضياتها، وتقطيع الرؤية القرآنية، وبيانها في السنة والسيرة،، ومحاولة إسقاطها على واقع معين، لتسويغه والتمكين لشرعيته، ومحاصرة حسبة القوامة على الحق، ومستلزماتها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتكريس للانسحاب من المجتمع، والخروج من المعركة، بين الحق والباطل، وإيثار السلامة الخادعة، ليست جديدة ولا مبتكرة، بل تعرض لها تاريخ هـذه الأمة في إصاباته [ ص: 21 ] ومنخفضاته الحضارية، حيث كثرت فتاوى الحيل والمخارج، وعظم شأن فقهاء السلطة، والاستعمار، ولكن الحقيقة لم تغب، وإن ضاقت مساحتها، في بعض الفترات، والطائفة القائمة على الحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لم تنقطع، وإن انحسرت مساحتها، ولم يسجل على هـذه الأمة في مرحلة من حياتها، التواطؤ على الخطأ، والتوافق على المنكر، والتنكر للحق والمعروف، حتى في أشد الفترات ظلاما، واستبداد، واستعمارا.

لذلك نرى أن الخزي الذي تعاني منه الأمة اليوم بمجموعها، ما هـو إلا بسبب تقطيع الرؤية القرآنية وبيانها في السيرة والسنة، والالتزام ببعض الكتاب والكفر العملي ببعض، وهو ما حذر منه القرآن، عندما قص علينا سبب خزي الأمم السابقة، وتواطئها على المنكرات، وإيمانها ببعض الكتاب، وكفرها ببعض، حتى لا تنتقل العدوى للمسلمين،

فقال تعالى: ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ) (البقرة: 85) .

إن الخزي والهزيمة النفسية التي لحقت ببعض هـذه الأمة، لم تعد تقتصر على أضعف الإيمان، الوارد في الحديث، الذي رواه مسلم ، الذي ( يقول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) ، وأضعف الإيمان كما أفهمه هـنا من الحديث، هـو الاحتفاظ بالحق، الاحتفاظ بالقضية في مرحلة العجز والسقوط، وتحين الفرص للتقوي، وبناء الذات لمعاودة طرحها، والعمل على إظهارها، والإغراء بها، وهو في [ ص: 22 ] بعض صوره، لون من الانحناء للعاصفة، والريح العاتية، حتى تمر، ومن ثم معاودة الانتصاب، والوقوف لمتابعة النمو، والسير بالحق، والقيام به، ففي بعض الآثار الصحيحة أن المؤمن لا ينكسر، ولا ينقطع، فهو كالنبات اللين، قد تميله الريح العاتية، لكن لا تلغيه، وإنما يعود إلى النهوض والنمو، بل قد تكون الريح القوية سببا في إنمائه وتمكينه من الأرض.

قال تعالى : ( لا تحسبوه شرا لكم بل هـو خير لكم ) ( النور : 11 ) .

نعود إلى القول : إن الخزي، وتطبيع المنكر، والهزيمة النفسية، التي لحقت ببعض جوانب هـذه الأمة في هـذه الأيام النحسات، حتى كاد يصبح المنكر معروفا والمعروف منكرا، لم يعد الإنكار لها يقتصر على أضعف الإيمان، الذي يعني : الاحتفاظ بالقضية حتى تتوفر الإمكانات وتتاح الظروف، كما أسلفنا، وإنما تجاوز أضعف الإيمان إلى ما دونه .. إلى محاولات إلغاء القضية أصلا، ومحاولة إطفاء فاعلية الأمة، وإلغاء مفهوم الجهاد، وتهميش أبعاده، ومدلولاته، واعتبار حسبة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وظيفة الحكومة، التي قد تكون محل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والأحوج لتقويم أدائها..

إن مفهوم الجهاد اليوم، بدأ يهمش وينتقص ويحاصر ويعبث به بوضع المقدمات الخاطئة، التي أملتها ردود الفعل، وحالات الهزيمة، والانكسار، للوصول بالأمة إلى النتائج الخاطئة، باسم التكييف الفقهي لعملية الجهاد.

يقول الشاعر:

يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن

[ ص: 23 ] وهذه من أخطر مراحل الخزي، ومن أشد إصابات السقوط، إلى درجة أصبح فيها القائم على الحق غريبا، ومستغربا، ومتشددا، ومتطرفا، وأصوليا، إلى آخر هـذه المصطلحات التي لا علاقة لها بنا ولا هـي ثمرة لفكرنا ومعاناتنا الاجتماعية والسياسية، إنما ألقيت علينا من الخارج الإسلامي، وشاعت فينا .. وقعنا في أسر مدلولاتها من الناحية الثقافية والإعلامية، حتى أصبحنا أكثر استعمالا لها من أصحابها، والتي بدأت تشل حركة الدعوة، وتحاصر حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وأكثر من ذلك، إنها تمارس تطبيع المنكر ثقافيا، وتجعل المعروف منكرا، والمنكر معروفا .. وهذه الحالة المنكوسة التي نتقلب فيها الأمم على أعقابها ثقافيا، وتصبح سلعة يتصرف فيها من قبل خصومها، تعتبر من أخطر مراحل السقوط والاستلاب الحضاري.

ولعل الخير كل الخير ( وخير القرون قرني ثم الذين يلونهم ) ، أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في أن فترة السيرة والخلافة الراشدة، المشهود لها من الرسول صلى الله عليه وسلم هـي فترة القدوة، في تحقيق الرؤية القرآنية، وبيانها النبوي، وتنزيل النصوص على واقع الناس، لتكون هـذه الفترة الراشدية دليلا ومعيارا لكل العصور، حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها، وحتى لا يكرس التضليل الثقافي، ويطبع المنكر، وخاصة في فترات الهزائم والانكسارات، فيصبح الدليل والمعيار للأمة، في مقارعة المنكر ومناصرة الحق، حيث تقتل روح الأمة، وتنقص معاني الجهاد فيها، فتصبح من خوف الموت في موت، ومن خوف الذل في ذل، حيث يحتلها الوهن، ويكثر فيها الغثاء، وتتقطع أوصالها، وتلجأ إلى دخول جحور [ ص: 24 ] الضباب، من الجنس، واللون، والقوم، والقبيلة، والعشيرة، وما إلى ذلك، وتغيب معها المشروعات العليا، ويصبح مستنكرا كل صوت يخرج عن إيقاع هـذا السبات العام، ويغيب الشهود الحضاري، ويتحول المجتمع إلى حالة الركود والاستنقاع الحضاري، ويشيع فقه المخارج، ويغيب فقه المقاصد، وتصبح غاية المقصود درء المفاسد، التي تعني المحافظة على حالة الركود، وتفتقد الفاعلية والنهوض والقوامة على الحق، ومواجهة المنكر الذي يقتضيه فقه جلب المنافع، وتحقيق المقاصد.

وعملية التغيير من الحسن إلى الأحسن، ومن المفضول إلى الأفضل، وتغيير المنكر وآليات محاصرة السلبيات، والتحويل الثقافي والسلوكي للمجتمعات، أو ما يسمى: الحراسة الدائمة للقيم والمشروعيات العليا للأمة، والرقابة المستمرة لها، وزيادة فاعليتها، وتفعيلها، كما يقال، أصبحت اليوم، علما قائما بذاته، له وسائله، وآلياته، وشروطه، وخططه، وأوعيته المتنوعة، وتخصصاته الكثيرة، حيث تشارك فيه عدة علوم من مثل علم الاجتماع، وعلم المجتمع، والنفس، والتاريخ، والإعلام، والتربية ... ولم يعد عملا بسيطا ساذجا وإنما أصبح ثمرة لمجموعة علوم، وخبرات، ومعارف، متراكبة ومتراكمة، يبتدئ من الإحاطة والرؤية الشمولية لواقع الحال، واكتشاف السنن والأسباب التي تحكمه وتنشئه، ووضع الخطط ورسم سبل التغيير للخروج منه تدريجيا، في ضوء الإمكانات المتوفرة والظروف المحيطة،واعتماد الزمن كعنصر لا بد منه لإنضاح التغيير.

هذا كله، يمكن أن يكون في إطار الوسائل والآليات لكن لا بد [ ص: 25 ] أن يسبق ذلك كله تحصيل القناعات النفسية بالتغيير، وإبصار صور المستقبل البديل من المعروف، ذلك أن مشكلة الكثير من دعاة التغيير للمنكر، وممارسيه، أنهم يفتقدون الرؤية الشمولية، ويعجزون عن استشراف المستقبل، ورؤية البديل ومدى ملاءمته، فيدافعون المنكر، دون دراية أو فقه، فيؤدي ذلك إلى مساهمة سلبية منهم، في التمكين لمنكر آخر، أشد خطورة وضراوة منه .. والأخطر من ذلك أن توظف طاقاتهم وتضحياتهم وأرواحهم من قبل خصومهم، وتوجه صوب مقارعة منكر، بعيدا عن أي بصيرة للمستقبل، فيصب ذلك في مصلحة خصومهم وأعداء قضيتهم.

لذلك لا بد أن تكون الصورة متكاملة، والمعادلة واضحة في ذهن المسلم اليوم، ومن هـنا ندرك لماذا قدم الرسول صلى الله عليه وسلم ، أثناء التكليف بهذه الحسبة، مهمة الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر، ذلك أن إزالة المنكر دون رؤية المعروف البديل، قد تفقد العمل الكثير من جدواه، فلا بد إذن من الإملاء بعد الإخلاء، كما يقولون، وأن يكون الإملاء واضحا منذ البداية، فإذا كان الإخلاء دون الإملاء، فسوف يملأ الفراغ بأشياء قد لا تكو لمصلحة الحق، ومن هـنا كان رأي الفقهاء بأن مدافعة المنكر لا تشرع إذا كان سوف يؤدي إلى منكر أشد منه وأخطر.

هذه القضايا أصبحت اليوم علوما في علم كما أسلفنا ولم تعد خاضعة للرغبات والأماني، بل لقد تفرعت قضايا الرقابة العامة إلى عدة تخصصات، فهناك الرقابة الإدارية، والرقابة المالية، والرقابة الثقافية، والرقابة الاقتصادية، والرقابة الإعلامية، ولكل آلياتها ووسائلها. حتى [ ص: 26 ] لقد تجاوزت وفاقت هـذه الرقابات، وخاصة الرقابة العامة بأوعيتها الإعلامية المتعددة، المقروءة، والمسموعة، والمرئية، سلطات الدول والحكومات وامتلكت من القدرات ما يجعلها قادرة على إسقاط سلطة الدول والحكومات، وزعمائها الكبار، ومراقبة أدائهم وتعقب أخطائهم وكشف زيفهم، وتواطئهم على الخطأ، حتى أصبحت تتبع حياتهم الشخصية، فتكون انحرافاتهم الشخصية سببا في إسقاطهم، وإلغائهم اجتماعيا، على الرغم من أن هـذه المجتمعات تعتبر من مجتمعات الإباحية، وإطلاق العنان لما يسمى الحرية الشخصية.

ومن هـنا ندرك أهمية حسبة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وكيف أنها تكليف مرافق لتشريعات القيم الإسلامية، وندرك مدى أهمية إحياء هـذه الحسبة وأهمية الارتقاء بها إلى مستوى التكليف الشرعي، ومستوى العصر معا، وندرك أيضا أهمية استمرارها في الأمة المسلمة، وكونها مسئولية تضامنية، ودورها في استمرار الخيرية والتميز لهذه الأمة الخاتمة الخالدة.

قد تكون الخطورة المتمثلة في الحضارة القائمة، الغالبة حاليا، وسيطرتها، وطول بقائها، على الرغم من أنها دخلت الدورة الحضارية الثالثة والنهائية، التي يطلقون عليها : دورة الغريزة، التي تأذن بسقوطها مهما طال بها الزمن، قد يكون طول بقائها واستمرار سطوتها، يعود من بعض الوجوه إلى أنها حضارة تكتشف أخطاءها بنفسها، وتمارس في سبيل ذلك عمليات الإحصاء والمسح الاجتماعي، واختبار العينات في كل ميدان اجتماعي وإنساني، لدراسة الظواهر، [ ص: 27 ] ومعرفة أسبابها، وجمع جيوش من الباحثين والمتخصصين والمفكرين في المجالات المختلفة، وإقامة مؤسسات البحث العلمي، ومراكز البحوث والمعلومات، للنظر، والبحث، والاستقراء والاستنتاج ومحاولات العلاج.

وأعتقد أن تعقب الأخطار والمنكرات، ومحاولة دراسة أسبابها وعلاجها، يأتي على رأس قائمة حسبة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتكليف بها في الإسلام، واعتبارها دينا من الدين، تتحدد مسئوليته أمام الله تعالى. والمسلمون اليوم أحق بها، خاصة وأن معاييرها منضبطة عندهم بعطاء الوحي.

وقد تكون المشكلة أو الإصابة الحضارية والثقافية، أننا في العالم الإسلامي الذي أصبح، بسبب أنظمة الاستبداد السياسي، وغياب حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالشكل المناسب، محلا لنفايات الحضارات الغالبة أو المتحكمة، قد تكون المشكلة أو الإصابة، أن بعضنا يخادع نفسه بالسلامة الكاذبة، فلا يكلف نفسه تحري المشكلات، ودراسة أسبابها، ووضع الحلول المعالجة، قياما بحسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونكتفي برجم الحضارة الغالبة الغازية، ونتحدث عن أسباب تآكلها، وحتمية سقوطها، ونقدم بعض الأدلة من الإحصاءات والدراسات، دون أن ندري أن هـذه الإحصاءات، وتلك الاكتشافات من إنتاج أهل تلك الحضارة، فهم الذين يكتشفونها، ونحن نكتفي بنقلها وقراءتها، ونستمر في المكوث في غرفة الانتظار، حتى تسقط الحضارة الغالبة لصالحنا، دون أن ندري أن التحول [ ص: 28 ] تعني: امتداد مرحلة الروح، وفاعلية الفكرة، واستمرارية شحذها، وتجديدها، وعدم انقطاعها .. فقد تضعف الأمة، وتسقط، وتصاب، وتمرض لكنها لن تموت، لأن علاجها تحمله في ذاتها. وعلاجها وخيريتها، إنما هـو باستمرار القيام على الحق، وتقويم سلوك الأمة، أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، كمسئولية تضامنية تعني كل أفراد الأمة ذكورا وإناثا، وتأتي ثمرة للموالاة : فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، حيث نلحظ هـنا أن دور المرأة في هـذه الحسبة يعتبر من وظائفها الأساسية، وثمرة لموالاتها، ومن لوازم إيمانها وولائها لأمتها، وقيامها بأمر دينها .. لقد ارتقت هـذه الحسبة بالمرأة، وارتقت المرأة بها، حتى وقفت في المسجد، وفي مرحلة القدوة في خير القرون، تأمر وتنهى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه .

فالدين في غاياته النهائية هـو القيام بحسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث لخصه الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روي ( عن تميم الداري بقوله: الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم ) (رواه مسلم ) .

ومن هـنا ندرك خطورة دعوى فصل قيم الدين، عن مسالك الحياة، والممارسات اليومية، وكيف أن هـذه المفهومات الدخيلة، بدأت تحاصر حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بسبب شيوع الاستبداد السياسي والارتهان الحضاري .. لقد بدأت تتعطل وتهمش هـذه الحسبة، بسبب التضليل الثقافي، وتتجاوز من أجل تكريس فلسفات [ ص: 29 ] تعني: امتداد مرحلة الروح، وفاعلية الفكرة، واستمرارية شحذها، وتجديدها، وعدم انقطاعها .. فقد تضعف الأمة، وتسقط، وتصاب، وتمرض لكنها لن تموت، لأن علاجها تحمله في ذاتها. وعلاجها وخيريتها، إنما هـو باستمرار القيام على الحق، وتقويم سلوك الأمة، أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، كمسئولية تضامنية تعني كل أفراد الأمة ذكورا وإناثا، وتأتي ثمرة للموالاة : فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، حيث نلحظ هـنا أن دور المرأة في هـذه الحسبة يعتبر من وظائفها الأساسية، وثمرة لموالاتها، ومن لوازم إيمانها وولائها لأمتها، وقيامها بأمر دينها .. لقد ارتقت هـذه الحسبة بالمرأة، وارتقت المرأة بها، حتى وقفت في المسجد، وفي مرحلة القدوة في خير القرون، تأمر وتنهى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه .

فالدين في غاياته النهائية هـو القيام بحسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث لخصه الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روي ( عن تميم الداري بقوله: الدين النصيحة، قلنا لمن ؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم ) ( رواه مسلم ) .

ومن هـنا ندرك خطورة دعوى فصل قيم الدين، عن مسالك الحياة، والممارسات اليومية، وكيف أن هـذه المفهومات الدخيلة، بدأت تحاصر حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بسبب شيوع الاستبداد السياسي والارتهان الحضاري .. لقد بدأت تتعطل وتهمش هـذه الحسبة، بسبب التضليل الثقافي، وتتجاوز من أجل تكريس فلسفات [ ص: 30 ] تعني: امتداد مرحلة الروح، وفاعلية الفكرة، واستمرارية شحذها، وتجديدها، وعدم انقطاعها .. فقد تضعف الأمة، وتسقط، وتصاب، وتمرض لكنها لن تموت، لأن علاجها تحمله في ذاتها. وعلاجها وخيريتها، إنما هـو باستمرار القيام على الحق، وتقويم سلوك الأمة، أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، كمسئولية تضامنية تعني كل أفراد الأمة ذكورا وإناثا، وتأتي ثمرة للموالاة : فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، حيث نلحظ هـنا أن دور المرأة في هـذه الحسبة يعتبر من وظائفها الأساسية، وثمرة لموالاتها، ومن لوازم إيمانها وولائها لأمتها، وقيامها بأمر دينها .. لقد ارتقت هـذه الحسبة بالمرأة، وارتقت المرأة بها، حتى وقفت في المسجد، وفي مرحلة القدوة في خير القرون، تأمر وتنهى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه .

فالدين في غاياته النهائية هـو القيام بحسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث لخصه الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روي ( عن تميم الداري بقوله: الدين النصيحة، قلنا لمن ؟ قال : لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم ) (رواه مسلم ) .

ومن هـنا ندرك خطورة دعوى فصل قيم الدين، عن مسالك الحياة، والممارسات اليومية، وكيف أن هـذه المفهومات الدخيلة، بدأت تحاصر حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بسبب شيوع الاستبداد السياسي والارتهان الحضاري .. لقد بدأت تتعطل وتهمش هـذه الحسبة، بسبب التضليل الثقافي، وتتجاوز من أجل تكريس فلسفات [ ص: 31 ] الهزائم، وشيوع مناخها، وتنتقص بسبب التأويل الفاسد للنصوص، والتنزيل المغشوش لها على الواقع، وتقطع وتبعض بسبب حالة الخزي التي تعيشها الأمة في تمثلها للرؤية القرآنية الشاملة، ويعبث بأسباب النزول، وإسقاط هـذه التفاريق على أحوال ووقائع ليست لها، والعودة إلى فقه الحيل، الذي من أبرز مهامه وغاياته : إخضاع القيم الإسلامية والأحكام الشرعية للواقع، وتسويغه بها، بدل أن يقوم الواقع ويسدد بها.

والكتاب الذي نقدمه اليوم يجيء في وقته المناسب، لأنه يشكل مساهمة طيبة، ومحاولة تأصيلية لشرعية حسبة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ودورها في بناء خيرية الأمة : ( فلا خير في الأمة إن لم تقلها، ولا خير في الحكومة إن لم تسمعها ) ، وتحرير شروطها وأدلتها الشرعية من الكتاب والسنة، والسيرة، وحياة الصحابة، بعد هـذا العبث بالمفهومات الشرعية والتطاول عليها، وشيوع الغثاء الثقافي، والتطبيع للمنكرات، باسم الحريات الشخصية.

لكن يبقى الأمر الذي لا يقل عن ذلك أهمية في نظري، هـو الخروج بهذه الحسبة العظيمة من إطار الممارسة البسيطة والساذجة أحيانا التي لم تتطور وتمتد مع تطور المجتمعات إلى إبداع الأوعية الرقابية والإعلامية، المتقدمة، التي تتوفر عليها اليوم تخصصات متعددة، حتى نتمكن من ممارسة التغيير المأمول، وتحقيق البديل المطلوب، في ضوء دراية بالواقع وفقه بالنص، وحتى نكون في مستوى عصرنا ممارسة، وإسلامنا هـداية، ومرجعية، وهدفا، والله من وراء القصد. [ ص: 32 ]

التالي


الخدمات العلمية