صفحة جزء
مـن مـواد المـعجم التاريخـي

الجمع في طائفة من الكلم القديم

كثر الحديث عن " المعجم التاريخي " ، وربما وصل العرب هـذا المصطلح الجديد مما عرف في الدراسات المعجمية الحديثة، أن هـذه الدراسات مهما اكتسبت من " التغريب " ، لا يمكن أن تستغني عن الأصول اللغوية، ذلك أن الجديد اللغوي لا بد أن يحتفظ بشيء من علاقة عضوية بالأصول القديمة.

ولنا أن نسأل أنفسنا : ألنا من تراثنا " معجم تاريخي؟ " وهل لنا أن نعد مثلا " لسان العرب " ضربا من هـذا المعجم؟

والجواب عن السؤالين هـو أننا لا نملك هـذا المعجم، وليس " لسان العرب " ولا غيره من المطولات هـو هـذا الذي نتساءل عنه.

إن " المعجم التاريخي " يجب أن يكون قائما على العناية بالأصول، ثم الفروع عن هـذه الأصول، وهذا يعني أنه يسرد المسيرة التاريخية منذ نشأتها بل ولادتها إلى نهايتها، ولا أريد بـ " النهاية " الموت والفناء، وإن يكن هـذا من الأمور الحاصلة في جمهرة من الألفاظ التي عفا عليها الزمن، أو قل قد انتفت الحاجة إليها.

إن لكل كلمة من الكلمات في العربية، كما هـي الحال في كل لغة، " سيرة " .. وهذه السيرة تخضع لظروف عدة، وتكون حاجة من حاجات المعربين. [ ص: 138 ]

ومن هـنا كانت الكلمة محكومة بحاجات، ما تني تزداد يوما بعد يوم، على أن هـذا الجديد من الحاجات، لا يخلق من اللفظ شيئا من عدم، بل إن المعربين يكونون مسوقين إلى البحث عما لديهم من اللفظ، فيعملون فيه النظر، حتى يكون لهم الجديد في الأبنية التي عرفوها في العربية.

ولنا أن نقول: إن المعجم التاريخي في ضبطه لأفراد هـذه اللغة، لا يكون محكوما، بل ساعيا إلى البحث عن الصواب والخطأ، ذلك أن " الصوابية " في كثير من الألفاظ، لا تخضع للاعتبار.. إن النظر إلى التطور (الصحيح) يبعدنا عن الخوض في الخطأ.

إننا حين نبحث في سيرة اللفظة، فنراها تكتسي لبوسا خاصا في كل عصر، اتساعا ومجازا، وتشبيها، ونحن نقبل هـذا اللبوس، بل قل: إننا محكوم علينا أن نقبله، نكون في ذلك غير محصورين في دائرة الضيق ونتجاوز بذلك الحدود إلى أبعد من عصر الاحتجاج.

ما زالت العربية القديمة موضع درس، وأن الكثير من نوادرها يسترعي النظر، وقد بدا لي أن طائفة من الكلم المجموع، تقتضينا أن نعود إليها، غير مكتفين بالذي شاع من أبنيتها.

إن مصادر العربية القديمة ولا سيما مطولات المعجمات قد توقفت في طائفة فسردت فيها أقوالا لا تخلوا من التضارب، وإن الدارس ليقف فيها على حشد من الآراء والتأويلات، وكان لي أن وقفت وقفة طويلة على طائفة من هـذه المواد أبدأها بمسيرة تاريخية، لأشير في خاتمة المطاف إلى ما آلت إليه، وسأرتب هـذه بحسب أوائلها، دون النظر إلى أصولها الاشتقاقية، ودونك - صاحبي الدارس المعني - هـذه المواد: [ ص: 139 ]

1- سـجـال

إن هـذه الكلمة قديمة، ولكنها بقيت في العربية المعاصرة، والمعربون في أيامنا درجوا على استعمالها مصدرا كأن أقرأ في " صحيفة الشرق الأوسط " >[1] في مناظرة الثقافة والأدب: لماذا اختفى " السجال " من حياتنا الثقافية؟

والذي يخلص من هـذا، أن السجال بمعنى الجدال والمناظرة، وهذا هـو الجاري لدى الكتاب في مقالاتهم وأبحاثهم، ومن هـذا ما يقول آخر: اشتد " السجال " بين الأطراف كافة، وهذا شيء فاش كثير.

أقول: و " السجال " بهذا الاستعمال وهذه الدلالة شيء جديد مستوحى من معنى السجال في الأصل.

السجال " : جمع سجل بمعنى الدلو الممتلئة ماء، ولا يكن سجل إلا وهو ممتلئ ماء، قال لبيد: يحيلون السجال على السجال >[2] وفي حديث أبي سفيان : أن هـرقل سأله عن الحرب بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: الحرب " سجال " معناه: إنا ندال عليه، ويدال علينا أخرى >[3] أقول: وقوله: " الحرب سجال " على التشبيه، أي هـي كالسجل يتناوب فيها المستقيان من البئر، وهي كما في الأصل جمع " سجل " وليس فيها شيء مما درج عليه المعاصرون الذين حولوا الكلمة في استعمالهم إلى " مصدر " وكأنه في استعمالهم مصدر لـ " ساجل " مثل: سابق ومصدره " سباق " و " مسابقة " .

أقول أيضا : إن الأقدمين ذهبوا في دلالة " السجال " وهي جمع إلى معنى [ ص: 140 ] المبادلة والمعاقبة فأخذوا من السجل وهو الاسم، المساجلة ولم يحولوا السجال إلى مصدر نحو: السباق والمسابقة، والصراع والمصارعة، وغيرهما كثير جدا.

وأريد أن أقول: إن مصدر " فاعل " هـو المفاعلة والفعال، وهذا لا يعني أن كل فعل على هـذا يأتي منه هـاتان الصيغتان فكثيرا ما اكتفي في العربية بأحدهما وهجر الآخر على قياسيته. ألا ترى أنك تقول: " المباراة " من الفعل " بارى " ولا تقول براء ولم يجر به الاستعمال ‍ وتقول: مضاحكة ولا تقول: ضحاك، وتقول: ملاعبة ولا تقول : لعاب، وتقول: مكاثرة ومكابرة، ولا تقول: كثار ولا كبار.

ومن هـنا كان على المعاصرين أن يكتفوا بـ " مساجلة " لأن السجال بقيت في العربية جمعا، ولم ترد مصدرا، وإن كانت قياسية كالمساجلة.

واستعمل الزملكاني صاحب " البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن " >[4] في كلامه على الأحرف في فواتح السور كلمة التساجل، ولم يرد هـذا المصدر في كتب اللغة، ولكن المؤلف جعله من قبيل التبادل والتناوب ونحوهما، وكان موفقا فيه، قال:

" إنها كالمهيجة لمن يسمعها، والموقظة للهمم الراقدة من البلغاء لطلب التساجل في الأعلام " ..

أقول : فكيف نقول في " سجال " في استعمال المعاصرين الذين حولوها مصدرا؟

الجواب عن ذلك: ليس من ضير في هـذا، وقد استوحى المعاصرون هـذه [ ص: 141 ] الدلالة من المعنى في الأصل وأنها شيء مثل المساجلة بل قل نظير المساجلة في القياس، وليس لي أن أهرع إلى القول بـ " الخطأ "

أقول: إن المعاصرين حين درجوا على استعمالهم هـذا، لم يشعروا أنهم تجاوزوا الأصل، ولعل كثيرين منهم لم يعرفوا دلالة " السجال " في استعمال العرب الأقدمين، ولكنهم يستعملون الكلمة حين يبدؤها أحدهم فتشيع، أفلي أن أقول: إن الكلمة قد " ترزأ " بشيوعها؟ على أن في العربية شيئا من هـذا التحول كما سنرى.

2- شـتى

استعملت " شتى " في قوله تعالى: ( إن سعيكم لشتى ) - (اليل:4) ، والمعنى: مختلف متعدد، والكلمة خبر، والخبر يفيد الوصف، وكأن (شتى) نعت أو صفة في المعنى، في حين وردت للمبتدأ اسم ذات في قوله تعالى: ( وقلوبهم شتى ) (الحشر:14) .

والخبر " شتى " في الآية تومئ إلى أنها، شتى جمع شتيت، كما سنرى في المثل العربي القديم، الذي يشير إلى دلالتها على الجمع " شتى يووب الحلبة " >[5] وكلمة " شتى " في الأصل جمع شتيت مثل جريح وجرحى، ومريض ومرضى.

وقد فطن إلى هـذا الدكتور مصطفى جواد >[6] ، وأشار إلى أنها في [ ص: 142 ] الاستعمال قد ابتعدت عن بناء الجمع، وتحولت إلى ما يشبه النعت أو الصفة.

أقول: والذي ذكرته أنا من استشهاد بالآية الكريمة، لدليل كاف يؤيد رأي الدكتور مصطفى جواد في تحول هـذه الكلمة إلى معنى الصفة أو النعت كما أن استشهادي بالمثل القديم يدل على أصالة الجمع فيها.

3- غـزى

جاءت هـذه الكلمة في قوله تعالى: ( أو كانوا غزى ) (آل عمران:156) ، في المصحف الكريم الذي بين أيدينا، وقرأت " غزاة " بضم الغين وفتحها، كما قرأت " غزي " بكسر الغين وتشديد الياء، وكلها بمعنى الجمع، والمفرد " غاز "









>[7] وكذلك " غزي " مثل " ندي " و نجي " وهما جمع " ناد و ناج " . والذي دل عليه الاستقراء أن بناء " فعل " من أبنية الجمع يكون جمعا لـ " فاعل " صحيح اللام لا معتلها نحو : ساجد وراكع، وجمعهما [ ص: 143 ] " سجد " و " ركع " ومن هـنا كان " غزى " في لغة التنزيل العزيز من الجمع القليل.

ومجيء غزى في الآية يقدم فائدة تاريخية نخلص منها إلى أن اللغويين حين عرضوا لأصول اللغة لم يفيدوا الفائدة القصوى من لغة التنزيل.

4- فـوضـى

وهذه كلمة أخرى وفق إلى معرفتها الدكتور مصطفى جواد - رحمه الله - حين لمح الجمع في دلالتها وقال: هـي " فضى " في الأصل ثم عرض لها الإبدال بعد فك الإدغام فصارت " فوضى " وقال: إن المفرد منها فضيض مثل شتيت التي جمعت شتى وقد سبق الكلام عليه.

أقول: لم يكن شيء من هـذا لدى اللغويين الأقدمين كما نستفيده من المعجمات ذلك أنهم ذكروا: فوضى وفيضى و " فيضوضا " ولم يلمحوا أن أصلها فضى على نحو ما ذهب إليه الدكتور مصطفى جواد.

أقول: إن فوضى قد حولت في استعمالهم إلى نوع من المصدر، وكأنها صارت تفيد ما يفيده " الاضطراب " وعدم النظام وهذا في استعمال الأقدمين أيضا، غير أننا نجد في شعر الأفوه الأزدي قوله:

لا يصلح الناس فوضى لا سـراة لهم ولا سـراة إذا جـهالهم سـادوا





>[8]

وكلمة فوضى تفيد الوصف ومعناها مختلطون، ومن هـنا يصح لي أن ألمح [ ص: 144 ] صواب ما ذهب إليه الدكتور مصطفى جواد >[9]

5- مشـاكل

أقول: هـي كلمة شاعت في العربية المعاصرة جمعا لـ " مشكلة " وهي في الاستعمال القديم جمع سالم مؤنث " مشكلات "

وقد كثر استعمال مشكلة في العربية المعاصرة، وكذلك جمعها، لقد اختار المترجمون النقلة في المشرق العربي كلمة مشكلة مؤنثة للكلمة الإنجليزية Problem فشاعت وكتب له السيرورة، ولو أنهم اختاروا كلمة أخرى بمعناها نحو معضلة مثلا لشاعت أيضا، في حين وجد المترجمون النقلة في المغرب العربي أن هـذه الكلمة في الفرنسية مذكرة فاختاروا لها " المشكل "

ولن تجد التونسي إلا قائلا المشكل في هـذا الأمر هـو كذا وكذا كما لن تجد المشارقة إلا قائلين " المشكلة الكبرى " . ثم أعود إلى جمعها فأقول: إن " مشكلة " هـي بناء اسم الفاعل من الرباعي نحو " معضلة " وجمعها معضلات ولا نقول: معاضل، كما نقول مشاكل ولكننا نقف على قوله تعالى: ( وحرمنا عليه المراضع ) (القصص:12) .

واسم الفاعل هـذا لا يأتي منه " مفاعل " في الجمع إلا نوادر قليلة و " المراضع " جمع " مرضعة " لا " مرضع " ، ومن هـنا يكون لنا أن نحكم بصحة مشاكل، ولي أن أقول في هـذا الجمع ما قيل في جمع مصيبة فقد جمعت على مصائب وهو [ ص: 145 ] الكثير ولكنه على غير قياس، وجمعت على " مصاوب " واسم الفاعل لا يجمع على مفاعل إلا أنهم توهموا أن المفرد مصيبة على وزن فعيلة لا " مفعلة " >[10] وكأن هـذا الذي عبروا عنه بـ " التوهم "





>[11] صوغ هـذا الخروج عن القياس.

6-مـصـائـر

أقول: في تاريخ هـذه الكلمة المجموعة أنها جمعت وشاعت في هـذه الصيغة [ ص: 146 ] في العربية المعاصرة ذلك أنها وردت مفردة عدة مرات في لغة التنزيل، وأن ورودها مفردة في لغة التنزيل >[12] يشير إلى أن الكلمة، وهي مفردة، تؤدي ما يراد منها، فليس ثمة حاجة إلى أن تجمع.

وقد نسأل : لم كان هـذا الجمع؟ والجواب عن هـذا، أن العربية المعاصرة جمعت الكلمة تأثرا باللغات الغربية، التي ترد فيها هـذه الكلمة مجموعة، كأن يقال فيها: " مصائر الأمم " أو " مصائر " الشعوب التي ما زالت تحت نير الاستعمار ومثل هـذا.

والكلمة الإنجليزية Denstiny والكلمة الفرنسية Destin أو الكلمة الأخرى Sort يأتي كله مجموعا في هـاتين اللغتين:

ولما كنا ننقل عن هـاتين اللغتين اضطرارا وحاجة، فلا بد أن ننتهي إلى هـذا الذي حصل من جمع هـذه الكلمات، أقول أيضا: إن المعربين في عصرنا يجهلون دقائق العربية، وهم يحسبون مصائر بالهمز فصيحة، ولو قال أحدهم: " مصاير " لحسبوا أنه متأثر بالإعراب الدارج العامي، ولم يعلموا أن " مصاير " بالياء هـي الفصيحة، وأن الياء فيها لا تبدل هـمزة، وهي نظير مصايد ومشايخ وليس لنا أن نهمز هـذه الألفاظ؛ لأن الياء فيها أصل.

إن الياء في مصاير ليست كالياء في حديقة التي تبدل هـمزة في الجمع فنقول: حدائق؛ لأنها زائدة وليست أصلية والفعل " حدق " . [ ص: 147 ]

ثم إن المعاصرين قد جمعوا " مصير " على مصائر جمع توهم، فكأن الميم أصل في الكلمة، وهي بذلك وزان " فعيل " كما قيل في " سرير " سرائر " وهو غير " سرر " و " أسرة "

وقد مر شيء من هـذا في تعليقنا على " مصيبة " و " مصائب " ومصير اسم مفعول لا يمكن أن يجمع على مصاير لو لا فذلكة التوهم.

7- مـصـاعب

" المصاعب " جمع " مصعب " ، وهو الفحل الذي يودع من الركوب والعمل للفحلة.

قال أبو ذؤيب :

كأن مصاعيب زب الرءو     س في دار صرم تلاقى مريحا

قالوا: أراد " مصاعب " فزاد الياء لتأتي له " فعولن " .

أقول: وجدت هـذا دليلا على أن حذف الياء هـو الفصيح وليس العكس.

وقد فات الدكتور مصطفى جواد هـذا في ذهابه إلى أن جمع معجم هـو معاجيم كأنه حملها على المسانيد جمع مسند والمراسيل جمع مرسل من مصطلحات الحديث الشريف. [ ص: 148 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية