رؤية إسلامية في قضايا معاصرة

الدكتور / عماد الدين خليل

صفحة جزء
( 6 )

وتوينبي يتحدث، عن (التقليد) ، ودوره في بناء الحضارات، فيشير إلى نمطين أساسين من التقليد، الذي تمارسه الأكثريات (البرولياتارية) ، كما يسميها، أحدهما: تقدمي بتقليد الأكثرية للقلة، أو النخبة المبدعة، وثانيهما: رجعي، بتقليدها للآباء والأجداد.

في الحالة الأولى، يمارس التقليد نقلا، ونشرا للقيم الإيجابية، في مناحي الحياة العقلية، والاجتماعية، والنفسية كافة، فيمضي بالفعل الحضاري، صوب المزيد من النمو، ويحصنه ضد عوامل الانكماش، والانحسار، والتيبس، والفناء.. وفي الحالة الثانية، يمارس التقليد خطيئة الشد الأعمى إلى الماضي، وتقليد الآباء والأجداد، تقليدا (وثنيا) ، بغض النظر، عن مدى سلامة مواقف الآباء والأجداد، الأمر الذي يعرقل حركة النمو الحضاري، ويشل فاعليتها، ويميل بالمجتمع إلى السكون، والتراجع، بسبب من تشنجه على معطيات خاطئة، مضى زمنها، وانقفاله على كل دعوة جديدة، متحررة من الأسر، قديرة على أن تقوده، خطوات إلى الأمام.

ولطالما حدثنا كتاب الله عن هـذا التقليد (السيئ) . هـذا الموقف الرجعي، الذي يقود الأكثريات، إلى الاختباء وراء شعارات الآباء والأجداد، ضد كل دعوة جديدة، يقودها نبي أو رسول: ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ) (الأعراف:28) ، ( قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ) (يونس:78) .. ( قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ) (الأنبياء:53) ، ( قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) (الشعراء:74) ، ( قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ) (لقمان:21) ، ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ) (الزخرف:22) ، [ ص: 76 ] ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) (البقرة:170) ، ( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ) (المائدة:104) ، ( وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ) (الزخرف:23-24) .. وغير هـذه الشواهد عشرات أخرى!

إن القرآن الكريم، وهو يدين هـذه المواقف الرجعية الساكنة، التي كانت واحدة من أشد عوامل المجابهة، والعداء، ضد الرسالات السماوية، إنما يدعو في المقابل إلى اتخاذ موقف تقدمي، متحرر.. بمعنى: اختيار الحركة، صوب الأمام، والتحرر من سائر الضغوط، التي يمارسها الإلف، والعادة، من خلال التشبث، بتقاليد الآباء والأجداد، التي عفا عليها الزمن.

التالي السابق


الخدمات العلمية