المستقبل للإسـلام

الدكتور / أحمد علي الإمام

صفحة جزء
الجهاد: المعنى .. والمراتب

معنى الجهاد

وتفسير الجهاد، في لغة القرآن الكريم، على ثلاثة وجوه:

1- الجهاد بالقول، في ذلك كما في قوله تعالى: ( وجاهدهم به جهادا كبيرا ) (الفرقان: 52) .

2- القتال بالسلاح كما في قوله تعالى: ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله ) (النساء: 95) .

3- الجهاد يعني العمل، فذلك قوله تعالى: ( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ) (العنكبوت: 6) ، يعني: ومن عمل الخير، فإنما يعمل لنفسه، وله نفع ذلك >[1] والجهاد في سبيل الله باب واسع، فمنه جهاد النفس، وجهاد العلم، والحجة، واللسان، وجهاد المال، والبذل، والإنفاق، وجهاد العدو بالقتال والمبارزة.

وقد حقق بعض العارفين القول في الجهاد، ومراتبه، على نحو ما يرد موجزا، في فيما يلي:

مراتب الجهاد

الجهاد على أربع مراتب:

المرتبة الأولى: جهاد النفس، وهو أيضا أربع مراتب:

أحدها: أن يجاهدها على تعلم الهدى. [ ص: 70 ]

الثانية: على العمل به بعد علمه.

الثالثة: على الدعوة إليه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله.

الرابعة: على الصبر على مشاق الدعوة، ويتحمل ذلك كله لله.

فإذا استكمل هذه الأربع، صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يكون ربانيا، حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويعلمه.

المرتبة الثانية: جهاد الشيطان، وهو مرتبتان: إحداهما، جهاده على دفع ما يلقي من الشبهات، والثانية جهاده على دفع ما يلقي من الشهوات.

فالأولى بعدة اليقين، والثانية بعدة الصبر، قال تعالى: ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) (السجدة: 24) .

المرتبة الثالثة: جهاد الكفار والمنافقين، وهو أربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال والنفس.. وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.

المرتبة الرابعة: جهاد أرباب الظلم، والمنكرات، والبدع، وهو ثلاث مراتب: باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه >[2] وقد كانت حياة السلف الصالح، قائمة على ذكر الله آناء الليل، وأطراف النهار، تلاوة للقرآن، مع الالتزام ورد فيه معلوم، بحسب مقام كل واحد منهم، مع التزام الجماعة، جماعة المسلمين، وجماعة الصلاة، وقيام الليل، وصيام التطوع، والسعي في مصالح المسلمين، وإيصال النفع، والخير لهم، مع الاستقامة على أمر الله، والقيام بواجبات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في رفق، وأناة، وحلم، حتى رضى الله عنهم، ورضوا عنه، وكانوا خير أمة أخرجت للناس، يوالي بعضهم بعضا، ويذكرون الله بلسان حالهم، ومقالهم، على نحو ما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه : « اجلس بنا نؤمن ساعة » >[3] [ ص: 71 ]

وما أثر عن عمر رضي الله عنه ، أنه كان يقول، وهو يأخذ بيد الرجل والرجلين أصحابه: " قم بنا نزدد إيمانا " ، فيذكرون الله تعالى بعض الوقت >[4] لقد كانوا حقا رهبانا في الليل، فرسانا في النهار، وربما تقرحت بطون بعضهم، من التزام أكل قدر محدود من التمر كل يوم، كأهل الصفة الذين رحم حالهم حبيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الموصوف بالرأفة، والرحمة، حتى إنه لم يجد شيئا يطعمهم غير شعير ولبن، مع تطييب خاطرهم، بأنه لا يجد في بيته غير هذا >[5] وقد يسقط بعضهم من الإعياء، في طريقه إلى صلاة الجماعة، على قرب المكان، أو يربط على بطنه الحجر من الجوع، لكنه إذا نودي للجهاد، كان أسرع إجابة للنداء، ولربما قال بلسان حاله، أو مقاله: ما أحسن الآن لو سمعت مناديا ينادي: يا خيل الله اركبي >[6] إن همهم الفردوس الأعلى.

وهذان مثلان لرجلين، من هؤلاء الرجال، فأحدهما وهو يصب ماء الضوء لنبي لله، فيطلبه أن يسأل ما يتمنى، فلا يكون جوابه إلا: ( أسألك مرافقتك في الجنة، قال له عليه الصلاة والسلام : أو غير ذلك؟ فأكد ما طلبه أولا، فقال عليه الصلاة والسلام : فأعني على نفسك بكثرة السجود ) >[7] [ ص: 72 ]

والمثل الثاني لعمير بن الحمام ، وقد بلغ به الشوق مداه لدار الخلد، لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحض على القتال، ويبشر الشهداء، فما كان منه إلا أن سارع إلى مبتغاه، وهو يلقي، بتمرات كن معه قائلا: " لئن أنا عشت حتى آكلهن إنها لحياة طويلة " >[8]

النبي صلى الله عليه وسلم أسوة المؤمنين في جميع أبواب البر

وإن التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، على قدر طاقتنا، وهو سيد الذاكرين، والشاكرين، والحامدين، والمصلين، والصائمين، والمنفقين، وهو سيد قراء القرآن، وهو قائد الغر المحجلين، وهو إمامنا في كل خير >[9]

الجهاد ذروة سنام الإسلام

والجهاد ذروة سنام الإسلام، وهو ركن من أركان الدين.. والنبي صلى الله عليه وسلم ، أسوة المؤمنين، هو المعظم شأن الجهاد، الواصف له بأنه ذروة سنام الإسلام >[10] والجهاد ملحق بأركان الإسلام الخمسة، وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم ، أسهم الإسلام الثمانية: الخمسة المعروفة، وأضاف إليها ثلاثة، هي: الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر >[11]

النبي صلى الله عليه وسلم أسوة الذاكرين والمجاهدين

وقد جاء ذكر الأسوة في القرآن، في ثلاثة مواضع، في سورتي الأحزاب، والممتحنة، المدنيتين، كلها في سياق الولاء، والبراء في الله تعالى، والجهاد في سبيله.. ففي موضعي [ ص: 73 ] سورة الممتحنة، دعاء إلى التأسي بأبي الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا، وعلى جميع المرسلين الصلاة والسلام، وموضوع الأسوة هنا، في الولاء في الله تعالى، لأوليائه، والبراءة من المشركين، ومقاطعة الذين يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجا.

قال تعالى: ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير * ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم * لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ) (الممتحنة: 4-6) .

أما آية سورة الأحزاب، فقد جاءت في سياق الجهاد، تدعو للتأسي بسيد الذاكرين، وقائد الغر المحجلين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا * ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما * من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) (الأحزاب: 21-23) .

يقول ابن كثير في تفسيره: هذه الآية، أصل كبير في التأسي برسول صلى الله عليه وسلم ، في أقواله وأفعاله، وأحواله، ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في صبره، ومصابرته، ومرابطته، ومجاهداته، ولهذا قال تعالى للذين تضجروا، وتزلزوا، واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) أي: هلا [ ص: 74 ] اقتديتم به، وتأسيتم، بشمائله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال تعالى: ( لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) >[12]

وهذه الآية الأخيرة، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم أحد ، بين يدي جثمان المعلم الأول، ومقرئ القرآن بالمدينة، الصحابي الشهيد مصعب بن عمير ، رضي الله عنه ، ثم قال: إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة .

« وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن هذه الآيات، نزلت في عمه أنس بن النضر رضي الله عنه : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) ... الآية » >[13] ومن الصحابة، من أسعده الله، وشرفه بالشهادة النبوية، أنه ممن ينتظر، وما بدول تبديلا.. ( فعن طلحة رضي الله عنه ، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أحد ، صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وعزى المسلمين بما أصابهم، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر، والذخر، ثم قرأ هذه الآية: ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) فقام إليه رجل من المسلمين، فقال: يا رسول الله، من هؤلاء؟ فأقبلت وعلي ثوبان أخضران حضرميان فقال: أيها السائل هذا منهم ) >[14]

المجاهدون وملازمة الذكر

وذكر الله، يلازم المجاهدين في سبيل الله، وهم يستغيثون الله، ويدعونه، ويتضرعون إليه، في ساحات القتال، ويفتقرون إليه تعالى، ويخضعون له، ومع إعدادهم العدة اللازمة، فهم لا يعتمدون عليها، بل يفوضون أمرهم إلى الله، ويتوكلون عليه، أو كما وصف صاحب البردة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم :


كأنهم في ظهور الخيل نبت ربى من شدة الحزم لا من شدة الحزم

[ ص: 75 ]

ولكنهم معتمدون على عناية الله:


وقاية الله أغنت عن مضاعفة     من الدروع وعن عال من الأطم

ودعوة هذا شأنها، وهؤلاء جنودها، فإنها منصورة بإذن الله، مهما كان أعداؤها:


ما حوربت قط إلا عاد من حرب     أعدى الأعادي إليها ملقي السلم

وقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم ، رجال من الصحابة الكرام، وتبعهم بإحسان رجال ممن جاء بعدهم: ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) (الحشر: 10) .

لقد كان ذكر الله حالة غالبة عليهم، وجهاد النفس سمة تميزهم، وساحات الجهاد، سياحة لهم. والمؤمنون مأمورون بالإكثار من ذكر الله تعالى.

ثم إنه لو كان الله تعالى، مرخصا لأحد في ترك الذكر، لكتن ذلك مع زكريا عليه السلام حين سأله أن يجعل له آية: ( قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار ) (آل عمران: 41) ، ولكان ذلك أيضا مع المجاهدين، وهم يقاتلون في ساحات الجهاد، فقد أمروا بذكر الله كثيرا: ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) (الأنفال: 45) .

أهل الذكر وساحات الجهاد

وأهل الذكر، قلوبهم متعلقة بساحات الجهاد، لأنها مظنة استجابة الداء، ومدد الملائكة في الغزوات: ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) (الأنفال: 9) .. وقد بشرنا النبي صلى الله عليه وسلم ، أن الدعاء يستجاب في ميدان القتال، حيث ( قال صلى الله عليه وسلم : ثنتان لا تردان- الدعاء عند النداء، وعند البأس، حين يلجم بعضهم بعضا ) >[15] [ ص: 76 ] كما روى الشافعي في كتابه (الأم) ، بسند مرسل، ( عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: اطلبوا استجابة الدعاء، عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث ) >[16] وأهل الذكر، هم المرابطون على ثغور الإسلام: ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) (آل عمران: 200) .

وعيون الخاشعين، الذاكرين الله كثيرا، مثل عيون المرابطين، يحرسون ثغور الإسلام، كتب الله لها النجاة: ( عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله ) >[17]

الجهاد من أركان الدعوة إلى الإسلام

وأهل الذكر، مجاهدون، دعاة إلى الله.. والجهاد من أركان الدعوة إلى الإسلام، وهو ذروة سنامه، وأقصر طريق إلى رضوان الله، وأقربه، فالجنة تحت ظلال السيوف، ثم إنه لا سبيل لإعلاء كلمة الله تعالى، بدون الجهاد، وإنه لحقا أعظم العبادات، حتى إن المالكية يذكرون باب الجهاد، متصلا بالعبادات، اعتبارا بنية المجاهد: (لتكون كلمة الله هي العليا) >[18]

التالي السابق


الخدمات العلمية