التأصيل الإسلامي لنظريات ابن خلدون

الدكتور / عبد الحليم عويس

صفحة جزء
النظرة الخلدونية الإسلامية للعمران

بما أن ابن خلدون قد أقام جسورا قوية بين التاريخ، وعلم الاجتماع، من حيث إنه جعل وظيفة المؤرخ، رصد التاريخ الاجتماعي (علم العمران) بالدرجة الأولى، فإن تبادل التأثير بين العلمين في المنهج، تصبح قوية الوشائج... ومن هـنا نراه يرفض في دراسة علم الاجتماع، اتباع المناهج المرفوضة في دراسة التاريخ، فيرفض اتباع الطريقة الوصفية التاريخية الخاصة، التي لا عمل لها، إلا وصف الظواهر الاجتماعية، وما كانت عليه، دون استخلاص النتائج فيما يتعلق بطبيعة هـذه الظواهر، وقوانينها، ويرفض اعتماد الطريقة الوعظية الإرشادية المباشرة، التي تحث على التمسك بالمبادئ التي تقررها نظم المجتمع، كما أنه - أخيرا - يرفض الاتجاه الفكري، الذي يتحدث فيما ينبغي أن تكون عليه الظواهر الاجتماعية طبقا للمنظور الذي ينظر من خلاله كل منهج إلى المجتمع >[1] وهكذا يرشح المنهج الاجتماعي على المنهج التاريخي، ويلتقيان دون برزخ، ويبدو المنهج التاريخي في الفكر الخلدوني، محصورا في رصد (تاريخ المجتمعات كما كانت فعلا) ، بطريقة علمية، تكشف قوانين حركتها الداخلية، التي تسير هـي الأخرى، في نشأتها وتطورها، ومختلف أحوالها، حسب قوانين ثابتة مضطردة، مثل القوانين التي يخضع لها القمر، في تزايده وتناقصه، والليل والنهار، في اختلافهما باختلاف [ ص: 89 ] الفصول.. كما هـدته تأملاته العميقة لشئون الاجتماع الإنساني، إلى أن الظواهر الاجتماعية لا تشذ عن بقية الظواهر الكونية، وأنها محكومة في مختلف جوانبها بقوانين تشبه القوانين التي تحكم ظواهر الفلك، والطبيعة، والحيوان، والنبات، وما إلى ذلك >[2] لقد أصبح موضوع التاريخ، هـو تاريخ الاجتماع (العمران) ، وهو الأمر الذي لم يلتفت إليه المؤرخون عن قصد، وإن تطرقوا إليه عفوا... كما أنه ليس تاريخ الاجتماع الوصفي، بل الاجتماع الذي يخضع لتحليل وتفكيك، يتعرف المؤرخ من خلالهما، على البناء الداخلي، الذي يتحرك المجتمع به: (كيفيات الوقائع) -حسب مصطلح ابن خلدون- بعد أن يستخدم المؤرخ النظر في (باطن) المجتمع، و (تعليل) المكونات..

لقد اشترك العلمان إذن، في وظيفة واحدة، فالعمران هـو موضوع الاجتماعي والمؤرخ، والبحث في الاجتماع (في شروطه وقوانينه) ، هـو موضوع التاريخ .

إن منهجية علم التاريخ، وموضوعه (العمران) ، عند ابن خلدون، حضاريان شاملان، يخضعان لمنظوره الإسلامي، وليسا (ماديين) ، أو (دنيويين) ، بهذا الإسقاط غير العلمي، الذي يجهد أصحاب التفسير المادي، والدنيوي العلماني أنفسهم، من فرضه قسرا، وبهتانا، على فكر ابن خلدون.

بل إن ابن خلدون، كان يلح على أن ينتقل علما التاريخ والاجتماع، من مرحلة الوصف، إلى مرحلة التحليل، ومن الظاهر، إلى الباطن، من أجل اكتشاف سنن الله الاجتماعية، التي تتحرك بها الوقائع، في بنائها [ ص: 90 ] الكلي، وإطارها الحضاري، وصولا إلى التفاعل الإيجابي والشرعي، مع هـذه السنن، ليس لأن ذلك عبادة شرعية، وتنفيذ لأوامر إلهية، جاءت في القرآن فحسب، بل لأن ابن خلدون وغيره، من العلماء، والمفكرين المسلمين، لا يرون في معرفة قوانين الحركة الداخلية لأي كائن، ما يراه التفسير غير الإسلامي لأية أحداث، وما يراه الماديون والطبيعيون من استقلالية وإرادة ووعي، بل يرون فيها أسلوب النظام الإلهي في الإبداع، وهم مؤمنون بأن هـذه الأساليب والأسباب، لا تستطيع أن تكون المسبب، ولا أن هـذه القوانين تغني عن المقنن، بل يرون في دقتها، وإبداعها، أقوى الأدلة، على عظمة الخالق المبدع، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هـدى.

وهذا الفقيه المالكي العظيم، وهذا القاضي الشرعي المسلم، وهذا الفيلسوف، والمنظر الاجتماعي والتاريخي (ابن خلدون) ، لم يكن إلا نبتة إسلامية، تجاوزت الواقع السياسي المريض، واتصلت أوثق الاتصال بالقرآن الكريم، والسيرة النبوية، وعصور الازدهار الإسلامية، راشدية، وأموية، وعباسية... فربطت بين الحركة الداخلية والمحرك، والأسباب ومسببها العظيم سبحانه وتعالى.

والجدير بالذكر، أن علماء الاجتماع المعاصرين المنصفين، يعتبرون النظرية الاجتماعية الخلدونية، بما انطوت عليه من عناصر تجديدية، هـي نتيجة بارزة، ومعلم واضح، في مسيرة الفكر الاجتماعي الإسلامي >[3] ... وهؤلاء العلماء الاجتماعيون المعاصرون، يبدون استياءهم، من أن النص القرآني، قد فسر وشرح من وجهة نظر لغوية، وبلاغية وفقهية >[4] ، ولم [ ص: 91 ] يأخذ حقه من الدراسة، باعتباره كتابا لتربية المسلمين. وقد تم عزل الفكر الاجتماعي المبثوث فيه، والذي يهدف إلى تربية المسلمين، وتكوين عقائدهم، وأخلاقهم، وشريعتهم، وتوجيه سلوكهم >[5] ، وهو الأمر الذي يستثنى منه ابن خلدون العظيم.

وكان من نتائج تركيز ابن خلدون، على الجوانب الاجتماعية، في منهجه التاريخي، ما ذهب إليه بعض المفكرين، من أن ابن خلدون، كان إلى الاجتماع (علم العمران) ، أقرب منه للتاريخ وفلسفته... بيد أن الاتجاه الأغلب - مع ذوبان الفواصل إلى حد كبير، بين علمي الاجتماع وتفسير التاريخ في الفكر الخلدوني - يميل إلى أن النظرية الخلدونية هـي نظرية في فلسفة التاريخ... وإن كانت تتكئ على مقولات اجتماعية كثيرة، جعلت بعضهم يميل إلى تسميتها: (سوسيولوجيا التاريخ) >[6] والجدير بالذكر، أن ابن خلدون مزج الظاهرة الحضارية (بالدولة) ، مع أن الحضارة كيان (عام) ، والدولة كيان (خاص) ، وهذا ملحظ على النظرية.. ومفتاح (الدولة) عنده - التي يكاد يساويها بالظاهرة الحضارية - هـي (العصبية) ، التي تعد نظرية في البناء الاجتماعي، يفسر على ضوئها نشوء الدول وسقوطها، فبقدر قوة العصبية تقوم الدولة وتتطور، وبقدر انحلال العصبية، في الأجيال التالية المترفة، تسقط الدولة أو تنحل. ولقد شابت رؤية ابن خلدون الاجتماعية نظرة تشاؤمية، فرضتها عليه الأوضاع الفاسدة التي كانت تسود عصره.. فنظريته لا تخلو من تعبير عن واقع الأمة الإسلامية المفكك، خلال القرنين السابع (سقوط الموحدين) ، [ ص: 92 ] والثامن (تداعي الأندلس ولا سيما غرناطة) ، كما أن نظريته اتكأت على التجربة التاريخية الإسلامية، بالدرجة الأولى.

ويعزو كثير من علماء الاجتماع المخلصين، ضعف النهضة الاجتماعية في العالم الإسلامي الحديث، والمعاصر، إلى سيطرة الفكرة الخاطئة، التي اعتنقها مدبرو الأمر فيهم، وقادة ثقافتهم (من العلمانيين) ، وهي فكرة التفرقة بين الدين والاجتماع الإنساني، تلك التي برزت بين المسلمين، لا جهلا بحقيقة الدين، وإنما انحرافا مقصودا لتشويهه، وصرف الناس عن التمسك به، وتقليدا لقوم قصروا معنى الدين على ما يريدون >[7] وكان من نتيجة هـذه الفكرة، كما يرى هـؤلاء الاجتماعيون، أن تصدى للإصلاح الاجتماعي دعاة لم يعتمدوا في دعوتهم على سلطان الدين. وانكمش أمامهم علماء الدين، وقصروا - في الغالب - أنفسهم على تلقين الناس رسوم العبادات، وكيفياتها الظاهرة، وأحكام صحتها وفسادها. ومن هـنا استقر في تصور كثير من الناس، أن الدين بأحكامه وإرشاداته شيء، وأن الاجتماع بمقتضياته وشئونه، شيء آخر، وصرنا نسمع في المسألة الواحدة، أن رأي الدين كذا، ورأي علم الاجتماع كذا (!!) ، وبذلك نام الرقيب القلبي، أو التنظيم الاجتماعي القيمي، في صور الإجرام، وهانت الأعراض وتفشت الموبقات >[8] كان ابن خلدون - إذن - اجتماعيا واعيا بأصول العمران، من منظور إسلامي، وكان ابنا شرعيا للثقافة الإسلامية الأصيلة، ولم تكن منهجيته الجديدة في كتابة التاريخ، وفي دراسة الاجتماع (العمران) ، الذي هـو [ ص: 93 ] علم جديد جدا، تمتزج فيه علوم السياسة، وفلسفة التاريخ، وعلم الاجتماع، بالمعنى الحديث -كما يقول الدكتور عبد الرحمـن بدوي >[9] - لم تكن هـذه المنهجية الجديدة، إلا تعبيرا عن القرآن، الذي ينظر للإنسان ككل في مستوى الفرد، وللمجتمع ككل، تتعاون فيه النواحي السياسية، مع النواحي الاقتصادية،مع النواحي الاجتماعية، والثقافية... أو بتعبير وجيز، (الجوانب الحضارية) الكاملة المتكاملة.. وكان مزج ابن خلدون بين منهجي علمي الاجتماع، والتاريخ، صورة من صور هـذه الشمولية الحضارية.. ويخطئ هـؤلاء الذين يحاولون أن يوجهوا فكر ابن خلدون توجيها أحادي النظرة، ماديا كان، أو اجتماعيا، فمقدمة ابن خلدون مزيج متناغم من فلسفة التاريخ، ومنهجه، وعلم الاجتماع والسياسة، وإذا كان لا بد من إدراجها تحت علم واحد، فلنسمه: (علم العمران البشري) ، بالمعنى الواسع الذي أراده ابن خلدون، لهذه التسمية >[10] وهذا المعنى الواسع، مستقى من النظرة القرآنية للاجتماع والحضارة، تلك التي لا تؤمن بالتمزيق، ولا بالتشقيق، وترى المجتمع سفينة واحدة، وجسدا واحدا، وعناصر مادية ومعنوية متكافلة، وثنائيات متعاونة، لامتضادة.

وفي ضوء هـذا النظر، فإن العوامل الفاعلة في التجربة الحضارية الإسلامية، إنما هـي عوامل مشتركة في النهوض والسقوط. فالدين في عصر النهوض (العامل الأيديولوجي) ، كان روحا وثابة إيجابية، لكنه في عصر السقوط يصبح -على يـد المخرفين- صـوفية سـكونية. وبالتـالي يلزم [ ص: 94 ] - لتحقيق النهوض- إعادة الإسلام الصحيح الإيجابي إلى دوره. ومع ذلك فالدين من غير عصبية (عاقلة يحكمها الإسلام أولا) لا تقوم له دولة. فهذه العصبية هـي (العامل الاجتماعي) الثاني، والضروري، بعد (العامل الأيديولوجي) - أما العامل الثالث فهو (العامل الاقتصادي) ، الذي يمزج فيه ابن خلدون بين النشاط الاقتصادي البشري، والعامل الجغرافي الطبيعي، دون أن يركز بالقدر الكافي على قيمة (العمل) ، كعصب للاقتصاد، بل يركز على عامل خارجي اقتصادي في عصره هـو (الغزو) >[11] ويلاحظ ضرورة التزام الترتيب في وضع العوامل المؤثرة، لأن الترتيب هـنا مقصود وليس مجرد جمع.. وهو يعكس مدى أولوية العامل وحجمه.

ومن هـذا المنطلق الحضاري الشامل، عالجت مقدمة ابن خلدون، قضايا تبدو للقارئ السطحي، موضوعات مجزأة، لكنها للباحث المتعمق، موضوعات منسقة، ومرتبة، تغذي الروافد الثلاثة (السياسة، التاريخ، الاجتماع) ، وتخضعها لقوانين يصل بها ابن خلدون إلى المستوى العضوي البيولوجي، لكنه يعود فيعطيها بعدها الاجتماعي البشري الذي يبتعد بها قليلا عن الحتمية، والجبرية.

التالي السابق


الخدمات العلمية