عمرو بن العاص (القائد المسلم والسفير الأمين) [الجزء الأول]

اللواء الركن / محمود شيت خطاب

صفحة جزء
7- الحكيـم

الحكمة هـي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، وهي العلم والتفقه، وفي التنزيل العزيز: ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ) (لقمان:12) ، وهي الكلام الذي يقل لفظه، ويجل معناه.. والحكيم هـو ذو الحكمة.

وقد كان عمرو حكيما حقا في أقواله وتصرفاته.

ومن أقواله الحكيمة: (لا سلطان إلا بالرجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل) >[1] .

وقيل لعمرو : ما العقل؟، فقال: (الإصابة بالظن، ومعرفة ما يكون بما قد كان) >[2] .

وقال: ( " ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، إنما العاقل الذي يعرف خير الشرين " ) >[3] .

" وكان يقول: (اعمل لدنياك عمل من يعيش أبدا، واعمل لآخرتك عمل من يموت غدا " >[4] . [ ص: 170 ]

" وقال: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا " >[5] .

" وسمع عمرو رجلا يقول: (الرجلة >[6] قطعة من العذاب) ، فقال له: (لم تحسن، بل العذاب قطعة من الرجلة " >[7] .

" وكان يقول: (ثلاثة لا أناة فيهن: المبادرة بالعمل الصالح، ودفن الميت، وتزويج الكفء " >[8] .

" وكان يقول: (ثلاثة لا أملهم: جليـسي ما فهـم عني، ودابتـي ما حملت رحلي، وثوبي ما سترني " وزاد آخر: " وامرأتي ما أحسنت عشرتي " >[9] .

" وقال معاوية بن أبي سفيان لعمرو: (ما بقي من لذة الدنيا تلذه؟) قال: (محادثة أهل العلم، وخبر صالح يأتيني من ضيعتي " >[10] .

" وكان يقول: (ما استودعت رجلا سرا، فأفشاه، فلمته، لأني كنت أضيق صدرا منه، حين استودعته إياه، حتى أفشاه " >[11] .

" وقال عمرو: (أكثروا الطعام، فوالله ما بطن >[12] قوم قط، إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضت عزمة رجل بات بطينا " >[13] .. [ ص: 171 ]

وقد ذكرنا أن خصمين جاءا النبي صلى الله عليه وسلم ، ( فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اقض بينهما يا عمرو! ) >[14] .

وكان بين طلحة بن عبيد الله >[15] ، والزبير بن العوام ، مداراة في واد بالمدينة ، فقالا: (نجعل بيننا عمرو بن العاص ) ، فأتياه، فقال لهما: (أنتما في فضلكما، وقديم سوابقكما، ونعمة الله عليكما، تختلفان! وقد سمعتما من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما سمعت، وحضرتما من قوله مثل الذي حضرت، فيمن اقتطع شبرا من أرض أخيه بغير حق، أنه يطوقه من سبع أرضين! والحكم أحوج إلى العدل من المحكوم عليه، وذلك لأن الحكم إذا جار رزئ دينه، والمحكوم عليه إذا جير عليه، رزئ عرض الدنيا. إن شئتما فأدليا بحجتكما، وإن شئتما فأصلحا ذات بينكما) ، فاصطلحا، وأعطى كل واحد منهما صاحبه الرضا >[16] .

وهكذا يقضي عمرو بين الخصوم، من دون أن يقضي، فيحل المشاكل بينهم والمعضلات، ويزيل من بينهم سوء التفاهم والخلافات، بأسلوب من الحكمة فريد. [ ص: 172 ]

وقال يوما لمعاوية : (إن الكريم يصول إذا جاع، واللئيم يصول إذا شبع، فسد خصاصة (حاجة) الكريم، واقمع اللئيم) .

وقال معاوية لعمرو : (من أبلغ الناس؟) قال: (من كان رأيه ردا لهواه) ، فقال: (من أسخى الناس؟) فقال: (من بذل دنياه في صلاح دينه) ، قال: (من أشجع الناس؟) قال: (من رد جهله بحلمه) .

ومن غرر أقواله: (موت ألف من العلية، أقل ضررا من ارتفاع واحد من السفلة) .

وقال: (إذا أنا أفشيت سري إلى صديقي، فأذاعه فهو في حل) ، فقيل له: وكيف ذلك؟! فقال: (أنا كنت أحق بصيانته) >[17] .

" وما أصدق جابر بن عبد الله >[18] رضي الله عنه ، في قوله: (صحبت عمر بن الخطاب ، فما رأيت أقرأ لكتاب الله منه، ولا أفقه في دين الله منه، ولا أحسن مداراة منه. وصحبت طلحة بن عبيد الله ، فما رأيت رجلا أعطى للجزيل منه من غير مسألة. وصحبت معاوية، فما رأيت رجلا أحلم منه، وصحبت عمرو بن العاص، فما رأيت رجلا أبين، أو قال: أنصع ظرفا منه >[19] ، ولا أكرم جليسا، ولا أشبه سريرة بعلانية منه، وصحبت المغيرة بن شعبة ، فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب، لا يخرج منها إلا بمكر، لخرج من أبوابها كلها " >[20] . [ ص: 173 ]

وقد ذكرنا من أقواله الحكيمة، وتصرفاته المتزنة، وأفكاره الحصيفة، عند الحديث على دهائه، فالتفريق بين الداهية والحكيم بالنسبة لعمرو وأضرابه صعب، وقد فرقت بينهما لغرض إلقاء الضوء على شخصيته العملية الناضجة، لا لغرض الفصل بين الخصلتين اللتين هـما من خصال عمرو في حياته العملية، فهو حكيم داهية، أو داهية حكيم، أو هـو حكيم لأنه داهية، وداهية لأنه حكيم: فقد كان من أدهى العرب، وأحسنهم رأيا وتدبيرا >[21] .

التالي السابق


الخدمات العلمية