في السيرة النبوية (قراءة لجوانب الحذر والحماية)

الدكتور / إبراهيم علي محمد أحمد

صفحة جزء
المبحث الثالث

جوانب الحماية في تكوين مجموعـات دعـويـة فـي الفتـرة السريـة

تستلزم فترة بدء الدعوة، قيام تجمعات صغيرة لتلقي تعاليم ومناهج الدعوة الخاصة والعامة، ويظهر ذلك من إنشاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، ما يعرف بالمجموعات الصغيرة، التي كانت عبارة عن تجمع يتكون من ثلاثة أشخاص أو خمسة، من أجل تعليمهم أمور دينهم، وتحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع المسلم، وقد قامت هـذه المجموعات بدورها خير قيام، وآتت أكلها، كما يتضح من خلال هـذا المبحث بعون الله.

تكوين المجموعات الدعوية ووضوح أهدافها تتطلب مرحلة البدء من عمر الدعوة، قلة الاجتماعات والمجتمعين، أي أن تكون الاجتماعات قليلة، ومتباعدة، وألا يتعدى عدد المجتمعين فيها الخمسة أفراد، حفاظا عليهم وحماية لدعوتهم، ومنعا لتسرب المعلومات، ولعل خير سبيل لتحقيق تلك الغاية، ما يسمى بالمجموعات الصغيرة. [ ص: 43 ]

والمجموعات الصغيرة من أنسب الأساليب الدعوية لمرحلة بدء الدعوة، لكونها تمتاز بخصائص أمنية دون سواها من الأساليب الأخرى، ومن أهم تلك الجوانب قلة أفرادها، مما يجعل ترتيب اللقاء أمرا ميسورا، وذلك لسهولة الحصول على المقر، إضافة إلى أن مثل هـذا العدد ليس ملفتا للنظر، ولا مثيرا للشبهات، فعادة ما يتم داخل منازل الدعاة، وهذا يقلل من الاحتياطات المعقدة، والتي عادة ما يتطلبها المقر الكبير، كما أنه يصعب منعها أو القضاء عليها، إذ يمكن أن تمثل كل أسرة مجموعة دعوية.

والتجمع الصغير في هـذه الدعوة، يعد مصنعا مصغرا، يربى فيه الفرد المستجيب للدعوة، وفق ما يأمر به الإسلام، ففي هـذه النواة يتعلم أمور دينه، ويروض نفسه، ويزكيها لتصيح أهلا للقيام بأعباء الدعوة، وفيها يؤهل نفسه للمرحلة التالية، ويتعلم فيها متطلبات المرحلة الحالية والمقبلة.

والمتابع لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أنه كان يوزع المستجيبين للدعوة في مرحلة بدء الدعوة، إلى مجموعات صغيرة، يتراوح عدد أفرادها بين الثلاثة إلى الخمسة، تجتمع يوميا، أو دوريا في أماكن مختلفة، وأزمنة مختلفة >[1] . [ ص: 44 ]

لقد كانت تلك التجمعات في الفترة السرية من عمر الدعوة، تستخدم في عدة أمور، منها تعليم الصحابة رضي الله عنهم أمور دينهم، وبخاصة القرآن الكريم، كما أنها ساعدت في تأدية الصلاة في جماعة، واستخدمت كأداة في تحقيق التكافل الاجتماعي، وسوف نتناول فيما يلي كل جانب من هـذه الجوانب على حدة.

أولا: تعليم المستجيبين أمور دينهم

لا بد للمستجيب في هـذه الفترة من مكان يتعلم فيه أمور دينه، ويأمن فيه أن ينكشف أمره، ولتحقيق ذلك لجأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إرسال بعض الدعاة إلى الأسر المؤمنة ليعلموهم القرآن الكريم، وينقلوا إليهم أخبار وتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم .. يتضح ذلك فيما رواه ابن إسحاق عن قصة إسلام عمر في حديث طويل جاء فيه : (فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب بن الأرت ، معه صحيفة فيها مطلع سورة طه يقرئهما إياها...) >[2] .

ويظهر من سياق النص، أن هـذه المجموعة تتكون من ثلاثة أشخاص يقوم فيها سيدنا خباب بتعليم سعيد وزوجته فاطمة رضي الله عنهم القرآن.. وربما كانت هـناك تجمعات عديدة مماثلة لهذا التجمع، وهذا ما تتطلبه مرحلة بدء الدعوة، إذ لا يتيسر جمع المستجيبين لتعليمهم في مكان واحد. [ ص: 45 ]

ثانيا: أداء الصلاة في شكل جماعات صغيرة

إن أداء الصلاة جماعة في مكان عام واحد باستمرار، وانتظام، ملفت للانتباه في هـذه المرحلة السرية، وأداؤها بهذه الصورة قد يؤدي إلى كشف الجماعة المسلمة، وتفاديا لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه يؤدون الصلاة في شكل جماعات صغيرة متفرقة، « قال ابن إسحاق : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب وفي رواية: زوجه خديجة مستخفيا من أبيه أبي طالب، ومن جميع أعمامه، وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها» >[3] . فهذه جماعة من جماعات الدعوة المنتشرة وقتها، تضم قائد الدعوة، وابن عمه، وزوجه لتأدية شعيرة الصلاة.

(وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا إلى الشعاب >[4] ، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم) . وقال ابن إسحاق: (فبينما سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدون الصلاة...) >[5] .

مما سبق يتضح أن الصحابة رضي الله عنهم ، كانوا يؤدون الصلاة جماعة في شكل خلايا صغيرة متفرقة في شعاب مكة. وتحاط بالسرية، [ ص: 46 ] لأنهم كانوا يخرجون إلى الشعاب، ومع ذلك كانوا يستخفون من قومهم، وهذا الاستخفاء يدل على الاحتياط، الذي كان يمارسه الصحابة في تلك الجماعات الصغيرة، التي أدت الدور المنوط بها من توثيق روابط الأخوة بين الرعيل الأول من الصحابة، وفي ذات الوقت تأدية الصلاة جماعة رجاء الحصول على الثواب المضاعف عن صلاة الفرد.

ثالثا: التكافل الاجتماعي داخل المجموعات الصغيرة

أورد صاحب السيرة الحلبية في قصة إسلام سيدنا عمر رضي الله عنه ، التي رواها سيدنا عمر بنفسه حيث قال: ... وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما، عند رجل به قوة يكونان معه، يصيبان من طعامه >[6] .

يعد التكافل الاجتماعي من ميزات وخصائص المجتمع المسلم، منذ نشأته وحتى يومنا هـذا، لذا لا غرابة أن يوزع الرسول صلى الله عليه وسلم فقراء المسلمين على هـذه المجموعات، وهو عمل تقتضيه وتتطلبه المرحلة، كي لا يكون الفقر سببا وعائقا يحول دون دخول الناس في الإسلام، وتسد هـذه الثغرة أمام الأعداء، حتى لا يستغلوا فقر المسلمين. [ ص: 47 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية