في السيرة النبوية (قراءة لجوانب الحذر والحماية)

الدكتور / إبراهيم علي محمد أحمد

صفحة جزء
المبحث الأول

مقاومة وإحباط أساليب قريش العدوانية

لقد استخدمت قريش عدة أساليب عدوانية في المرحلة الجهرية، للحيلولة دون دخول الناس في الإسلام، والقضاء على الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته، فقد استخدمت أسلوب الحرب النفسية، ولـما لم تجد جدوى لذلك، لجأت إلى الاضطهاد، فعجزت، ثم اعتمدت أسلوب المفاوضات، المباشرة وغير المباشرة، ولم تفلح، ثم ضربت حصارا صارما على المسلمين ففشلت.. وسوف نتناول في هـذا المبحث، بإذن الله، كل أسلوب من هـذه الأساليب على حدة، لنقف على الكيفية التي نفذ بها، وكيفية مقاومة المسلمين له.

المطلب الأول

الحرب النفسية ومقاومة المسلمين لها تعتبر الحرب النفسية من أخطر أنواع الحروب، التي تواجه العقائد والحركات الإصلاحية، في كل زمان ومكان، فهي تستهدف الأفكار، والتعاليم الناهضة، لتحول بينها وبين الوصول إلى العقول، والرسوخ في القلوب، وهي تبذر بذور الفرقة والانقسام، وتضع العقبات أمام التقدم والتطور، وتعمل في الظلام، وتطعن من الخلف، وتلجأ إلى التشويش على المعتقدات والأفكار، وخلق الأقاويل والإشاعات، ونشر الإرهاب، واتباع وسائل الترغيب والترهيب، مما يجعل هـذه الحرب أشد [ ص: 64 ] خطورة من المواجهة العسكرية في ميادين القتال >[1] لذا كانت الحرب النفسية وخاصة الإشاعة >[2] ، أول أسلوب جابهت به قريش الدعوة في مرحلتها الجهرية.. فقد استخدمت قريش الإشاعة أيما استخدام ضد الدعوة والرسول صلى الله عليه وسلم ، فلم يمض على الجهر بالدعوة إلا أشهر معدودة، حتى اجتمعت قيادة قريش، كي تتوصل إلى اتفاق حول كلمة يقولونها للعرب عن محمد صلى الله عليه وسلم ، في موسم الحج، فقال لهم الوليد : (فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا) . فجرت مداولات، وآراء خرجوا منها بأن يقولوا : ساحر، جاء بقول هـو سحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته >[3] .

وهذا اتفاق محكم على إطلاق هـذه الإشاعة في موسم الحج عن قائد الدعوة، ووصفه بالسحر، مما يجعل هـذه الإشاعة تنتشر في جميع أصقاع الجزيرة العربية عن طريق وفود الحجيج.. واتفاقهم على كلمة ساحر هـذه، جعل الإشاعة محكمة، فلو تعددت الكلمات، وتباينت، لأدى ذلك إلى أن تكذب قريش بعضها بعضا، مما يضعف أثر ومفعول الإشاعة، ولكن هـذا الاتفاق قاد إلى سريان هـذه الإشاعة، حتى إن الرجل يأتيه صاحبه من مصر أو اليمن ، فيأتيه قومه أو ذوو رحمه، [ ص: 65 ] فيقولون له: (احذر فتى قريش لا يفتنك) >[4] .

ثم استخدموا أسلوبا آخر من أساليب الحرب النفسية، يقوم على السخرية، والتحقير، والاستهزاء، والضحك، قصدوا من ذلك تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية، فرموا صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم بالجنون >[5] ، ( وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ) (الحجر : 6) .

ومن المفتريات الأخرى التي أشاعتها قريش عن النبي صلى الله عليه وسلم ، الكذب، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أصدق الناس، وأبرهم، بدليل أن أبا سفيان ، عندما سأله هـرقل عـن رسـول الله صلى الله عليه وسلم : هـل جربتم عليه الكذب؟ قال: لا. فقال هـرقل: ما كان يدع الكذب على الناس ويكذب على الله >[6] .

وكانوا يضحكون من المؤمنين، ويسخرون منهم، ويغمز بعضهم بعضا عند مرور المسلمين بين أيديهم، قال تعالى: ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هـؤلاء لضالون * وما أرسلوا عليهم حافظين ) (المطففين: 29-33) .

واتبعت قريش أسلوبا آخر من أساليب الحرب النفسية، تمثل في تشويه تعاليم الإسلام، وإثارة الشبهات حولها، وبخاصة القرآن الكريم، [ ص: 66 ] وكانوا يكثرون من ذلك، بحيث لا يبقى للعامة مجال في تدبر القرآن >[7] ، فنسبوا ما جاء به القرآن إلى أساطير وأكاذيب الأولين، التي تملى على سيدنا محمـد صلى الله عليه وسلم صبـاح مسـاء: ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) (الفرقان: 5) .. كما زعموا أن القرآن مفترى من قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، وأعانه عليه قوم آخرون: ( وقال الذين كفروا إن هـذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ) (الفرقان : 4) .. وكانوا يقولون : ( إنما يعلمه بشر ) (النحل : 103) .. فهم يرجعون القرآن إلى مصدر بشري لا إلهي، قال السيوطي فيما رواه عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم قينا بمكة اسمه (بلعام) وكان أعجمي اللسان، وكان المشركون يرون النبي صلى الله عليه وسلم يدخل ويخرج من عنده، فقالوا إنما يعلمه بلعام >[8] .. كما أنهم كانوا يقومون بالصياح، ويأتون باللغط أثناء قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن، عله يسكت عن القراءة، أو يكون سببا يحول بين سماع الناس للقرآن، قـال تـعـالـى: ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) (فصلت : 26) .

فالقرآن هـو المصدر الأول من مصادر الإسلام التشريعية، فأي شبهة حوله هـي شبهة في المصدر الأساس، ربما نتج عنها شك في الإسلام كله، إذ الإسلام كله يقوم على القرآن والسنة، ولكي تحقق قريش ذلك الشك أثارت الشبهات في القرآن كما أشرنا. [ ص: 67 ]

إن هـذه الشبهات التي أثارتها قريش حول القرآن، لا تختلف كثيرا عن الشبهات، التي يثيرها أعداء الدعوة حول القرآن في عصرنا هـذا إن لم تكن امتداد لها فإن قالت قريش أساطير الأولين، فالمعاصرون قالوا : إن القرآن مأخوذ من حكايات فرق النصارى الضالة >[9] .

وإذا قال الأقدمون إنما يعلمه (بلعام) ، قال المعاصرون : إن الحنفاء هـم الذين علموا محمدا القرآن >[10] ، وقد أصبحت مسألة ادعاء تأليف محمد للقرآن لدى المستشرقين أمرا لا يقبل الجدل >[11] ، وتلقفت (أوكار التجسس) العالمية أفكار هـؤلاء المستشرقين، وأضحت تروج لها عبر الإعلام بوسائله المختلفة، وعبر المنظمات الكنسية بصورة واسعة في شكل نشرات وكتيبات، توجه للمسلمين وغير المسلمين >[12] .

ومن أساليبهم التي اتبعوها في تنفير الناس عن القرآن، أنهم كانوا يعارضون القرآن بقصص وأساطير الأولين، ليشغلوا بها الناس عن سماع القرآن >[13] .. لقد ذهب النضر بن الحارث إلى الحيرة ، ليتعلم أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم، واسفنديار، من أجل أن يعارض القرآن. وعند رجوعه من الحيرة، وبعد أن تعلمها، بدأ في تنفيذ مهمته، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا للتذكير بالله، والتحذير من نقمته، خلفه النضر قائلا: والله ما محمد بأحسن حديثا مني، [ ص: 68 ] ثم يحدثهم عن ملوك فارس، ورستم ، واسفنديار ، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا مني؟ >[14] هـذه الحادثة تظهر مدى اهتمام الرءوس المدبرة لدى قريش بالقضاء على أثر القرآن على الناس، مما جعلهم يبتعثون أحدهم لتعلم القصص والأساطير من أجل معارضة القرآن.

وربما كانت حادثة الإسراء والمعراج ، من أكبر الحوادث، التي استغلتها قريش في شن حرب نفسية على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فبعد عودته من رحلة الإسراء والمعراج، جلس في الحرم ينوي إخبار قريش بالأمر، مر به أبو جهل ، فقال له: هـل من خبر؟ فقال: (نعم) . قال : وما هـو؟ فقال : (إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس) . قال : إلى بيت المقدس؟ فقال : (نعم) . قال أبو جهل : (هيا معشر قريش) ، وقد اجتمعوا من أنديتهم. فقال : أخبر قومك بما أخبرتني به. فقص عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، وأنه جاء بيت المقدس وصلى فيه، فإذا بالقوم بين مصفق ومصفر، تكذيبا له، واستبعادا لخبره، وطار الخبر بمكة، وارتد ناس ممن كان آمن به من ضعاف القلوب، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه ، فقال قولته المشهورة: إن كان قال ذلك فقد صدق >[15] .

لقد استغلت قريش هـذه الحادثة في الدعاية ضد النبي صلى الله عليه وسلم ، منذ أن تلقفتها على يد أبي جهل، الذي حاول استخدام ذكائه، [ ص: 69 ] حين طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجمع له قريش فيخبرهم بالذي أخبره به؛ لأنه تأكد أن مثل هـذا الخبر، إذا نقله بنفسه، قد لا يصدقه الناس، وفي ذات الوقت لا يلقى الرواج والنجاح الذي يلقاه عندما يصدر من الرسول صلى الله عليه وسلم . وهذا ما حدث، حيث كان رد فعل قريش التصفير والتصفيق والسخرية. وما أصعب على رجل صادق أمين، أن يرمى بالكذب، ويسخر منه.

وكان من أكبر ما تحصلت عليه قريش من الحادثة، ارتداد بعض ضعاف الإيمان.. ولم تكتف قيادة قريش بذلك، بل حاولت استغلال الحادثة، لإحداث فرقة بين النبي صلى الله عليه وسلم ، وصديقه الحميم أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، ولكنها باءت بالفشل.

ولولا الحس الأمني العالي لدى النبي صلى الله عليه وسلم ، لكانت تلك الحادثة سببا في ارتداد كثير من الناس، وذلك بتقديمه لأدلة قاطعة على رحلته تلك، وأثناء الرحلة، حيث ذكر مكان عير لقريش، حينما ند عنهم بعير، وكذلك شرب من إناء مغطى، فشرب كل ما فيه وتركه مغطى، وقد حدد لقريش مكان وزمان فعله هـذا، حين دلهم على اسم الوادي الذي دل فيه العير على البعير، والمكان الذي شرب فيه الماء >[16] . فعندما جاءت العير أثبتت ما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فكان ذلك بمنزلة تثبيت للمؤمنين، وإبطال لمفعول الدعاية، التي حسبت قريش أنها بها تستطيع خلخلة أسس الدعوة. [ ص: 70 ]

كما أن القرآن كان بمثابة البلسم الشافي لدرء خطر هـذا الأسلوب الخبيث الذي لجأت إليه. فعندما لجأت قيادة قريش إلى أسلوب السخرية والاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، جاءت آيات القرآن مواسيـة لهم، قال تعالى : ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ) (الأنعام : 10) ، فهذه الآية، بينت أن هـذا الأسلوب استخدم مع سالف الرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وفي ذلك سلوى للرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه. ثم وضحت مصير الساخرين والمستهزئين، وأن الغلبة للحق وأهله، وفي ذلك إعطاء أمل للمسلمين يجعلهم يصبرون، ويتحملون تلك السخرية. وفي ذات الوقت تهديد ووعيد للكفار، الأمر الذي ربما يكون له أثره النفسي عليهم.

ثم إن القرآن رد على شبهة الكفار، التي زعموا فيها أن الذي علم الرسول صلى الله عليه وسلم بشر بلعـام قـال تعالى : ( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عـربي مبين ) (النحـل : 103) ، فـفنـد تلك الشبهـة بصـورة قاطعة، حيث بين أن بلعام أعجمي اللسان، بينما القرآن عربي اللسان، فأسقط في أيدي الكفار.. وهكذا ما أحدث الكفار أسلوبا للحرب النفسية، إلا وبادر القرآن إلى دحضه. [ ص: 71 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية