أصول الحكم على المبتدعة (عند شيخ الإسلام ابن تيمية)

الدكتور / أحمد بن عبد العزيز الحليبي

صفحة جزء
الأصل الأول

الاعتذار لأهل الصلاح والفضل عما وقعوا فيه من بدعة عن اجتهاد، وحمل كلامهم المحتمل على أحسن محمل

لا ريب أن المجتهد إذا أخطأ فيما يسوغ فيه الاجتهاد، يعفى عنه خطؤه، ويثاب، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ) >[1] ، لذا يعذر كثير من العلماء والعباد، بل والأمراء فيما أحدثوه لنوع اجتهاد >[2] ، فإن كثيرا (من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هـو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله تعالى: ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) (البقرة: 286) ،

وفي الصحيح أن الله قال: ( قد فعلت ) >[3] . " >[4] .

وقد اعتذر الشيخ لبعض أهل الفضل والصلاح، ممن شهدوا سماع الصوفية ورقصهم متأولين، قائلا: (والذين شهدوا هـذا اللغو متأولين [ ص: 67 ] من أهل الصدق والإخلاص والصلاح، غمرت حسناتهم ما كان لهم فيه وفي غيره من السيئات، أو الخطأ في مواقع الاجتهاد، وهذا سبيل كل صالحي هـذه الأمة في خطئهم وزلاتهم) >[5] ، مستندا في هـذا على قول الله تعالى: ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون * لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ) (الزمر: 33-35) .

كما اعتذر لشيوخ أهل التصوف، الذين حسن ذكرهم وثبت إيمانهم، فقال: (لكن شيوخ أهل العلم الذين لهم لسان صدق، وإن وقع في كلام بعضهم ما هـو خطأ منكر، فأصل الإيمان بالله ورسوله إذا كان ثابتا، غفر لأحدهم خطأه الذي أخطأه بعد اجتهاد) >[6] .

وإذا كان الاجتهاد عذرا في العفو عن الخطأ البدعي، فإن هـذا الخطأ لا ينقص من قدر المجتهد، متى كان من أهل القدم في الصلاح والتقوى، فإنه مع خطئه (قد يكون صديقا عظيما، فليس من شرط الصديق أن يكون قوله كله صحيحا، وعمله كله سنة) >[7] .. كما أن فعل أهل الفضل للبدعة ليس دليلا على صحتها، فإن الصحة تعرف من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. قال رحمه الله مبينا هـذا: (إذا فعلها قوم [ ص: 68 ] ذوو فضل ودين، فقد تركها في زمان هـؤلاء من كان معتقدا لكراهتها، وأنكرها قوم إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها فليسوا دونهم، ولو كانوا دونهم في الفضل فقد تنازع فيها أولو الأمر، فترد إلى الله ورسوله) >[8] .. هـذا إذا وقع الخطأ فيما يسوغ فيه الاجتهاد، أما من أخطأ مخالفا (الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة، خلافا لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع) >[9] .

وكذلك تحمل الأقوال المحتملة لأهل الفضل والصلاح، على أحسن محمل وأسلم مقصد، من ذلك حمله رحمه الله لقول الجنيد >[10] رحمه الله: (التوحيد إفراد القدم من الحدث) ، قائلا: (هذا الكلام فيه إجمال، والمحق يحمله محملا حسنا، وغير المحق يدخل فيه أشياء... وأما الجنيد فمقصوده التوحيد الذي يشير إليه المشايخ، وهو التوحيد في القصد والإرادة، وما يدخل في ذلك من الإخلاص والتوكل والمحبة، وهو أن يفرد الحق سبحانه وهو القـديم، بهـذا كلـه، فلا يشركه في ذلك محدث، وتمييز الرب من المربوب في اعتقادك وعبادتك، وهذا حق صحيح، وهو داخل في التوحيد الذي بعث الله به [ ص: 69 ] رسله، وأنزل به كتبه.. ومما يدخل في كلام الجنيد ، تمييز القديم عن المحدث، وإثبات مباينته له، بحيث يعلمه ويشهد أن الخالق مباين للخلق، خلافا لما دخل فيه الاتحادية

>[11] من المتصوفة وغيرهم من الذين يقولون بالاتحاد معينا أو مطلقا) >[12] . ومنه أيضا حمله قول بعض الصوفية: ما عبدتك شوقا إلى جنتك، ولا خوفا من نارك، ولكن لأنظر إليك أو إجلالا لك -مع ما فيه من خطأ، على حسن القصد- فيقول: (وهذا كحال كثير من الصالحين والصادقين، وأرباب الأحوال والمقامات، يكون لأحدهم وجد صحيح، وذوق سليم، لكن ليس له عبارة تبين مراده، فيقع في كلامه غلط وسوء أدب >[13] مع صحة مقصوده) >[14] . [ ص: 70 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية