الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي

الدكتور / عبد المجيد السوسوه الشرفي

صفحة جزء
تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة

الحمد لله الذي اصطفى الأمة المسلمة لوراثة الكتاب،

فقال تعالى: ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ) (فاطر: 32) .

وتعهد لها سبحانه وتعالى بحفظ هـذا الوحي وامتداده،

فقال تعالى: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر: 9) ،

بينما أوكل حفظ الكتب السماوية السابقة إلى أهلها،

فقال: ( بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ) (المائدة:44) ،

فكان الحفظ من الضياع والتحريف وانضباط منهج النقل واستمرار النص الإلهي سليما من لوازم الخلود، وصحة التكليف، ولزوم الخاتمية، وتوقف النبوة، واكتمال الدين وإتمام النعمة،

يقول تعالى: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (المائدة: 3 ) .

والصلاة والسلام على خاتم النبيين، صاحب المعجزة الخالدة التي تحققت في واقع الناس من خلال عزمات البشر وفق مقتضيات السنن الجارية في الحياة والأحياء، بعيدا عن التواكل وانتظار السنن الخارقة التي تورث الإنسان العجز والعطالة والإلغاء؛ لأن إجراءها منوط بالله الذي له الخلق والأمر، ولأنها من بعض الوجوه دليل على اطراد السنن الجارية [ ص: 9 ] في حق الإنسان وتكليفه، وأنه لا يخرقها إلا الذي خلقها، وبذلك تتحقق المعيارية، وتصوب عملية التكليف، وتتأكد عدالة المساواة، وتنتهي الثنائية وانشطار الشخصية الإنسانية بين هـدايات الوحي ومدركات العقل، وينتهي الفصام بين العلم والدين، والدنيا والآخرة، فيصبح الدين علما والعلم دينا، ويستمر الوحي دليل هـداية، ومعيار تصويب، ويستمر العقل أداة نظر وتفكير وسبيل ارتقاء وتجديد.

وبعـد:

فهذا كتاب الأمة الثاني والستون: (الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي) للدكتور عبد المجيد محمد السوسوه الشرفي، في سلسلة (كتاب الأمة) ، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في إعادة بناء المسلم المعاصر، وإحياء وعيه برسالته الإنسانية، واستشعار وظيفته في الدعوة إلى الله على بصيرة، وتحققه بمعرفة الوحي في الكتاب والسنة، وتبصره بالسنن الإلهية والقوانين الناظمة لحركة الحياة والأحياء، التي تتمثل في أقدار الله، وسننه المطردة التي لا تتبدل ولا تتحول، ليحسن التعامل معها، ويمتلك القدرة على تسخيرها، ومغالبة قدر بقدر أحب إلى الله، في محاولة لشحذ الفاعلية واسترداد الوعي، وتصويب المفاهيم وتصحيح المعايير، والمساهمة بتجديد أمر الدين، ونفي نوابت السوء عنه، والعودة بالاجتهاد والتدين إلى التلقي عن الينابيع الأولى المعصومة في الكتاب والسنة، ونزع القدسية عن أقوال البشر واجتهاداتهم وادعاء العصمة لها، وامتلاك القدرة على التعامل مع [ ص: 10 ] قيم الكتاب والسنة، والنظر إليها واستلهام عطائها وهدايتها من خلال استيعاب مشكلات الإنسان، والتعرف على المجتمع وقضاياه، وإيجاد الحلول الشرعية التي تتلاءم مع الواقع في ضوء إمكاناته واستطاعته، وتقويم الواقع، وتصويب مسيرته، واكتشاف مواطن الخلل فيه، ووضع خطة للعودة به إلى الجادة وتقويمه بأمر الدين في ضوء السنن الجارية، والتحول من التفكير الارتجالي القائم على الانفعال وردود الأفعال، إلى التفكير الاستراتيجي الذي يفقه النص، ويفهم الواقع ومعطيات العصر ويحيط بمعرفته، ويبصر الأسباب والسنن التي صنعته، ويتعرف بدقة على الإمكانات والاستطاعات، ويحدد مدى التكليف الشرعي المطلوب والممكن في كل مرحلة، مدركا للتداعيات والعواقب والمآلات، غير خاضع للإثارة والاستفزاز، مستجيبا ( لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) . (متفق عليه عن أبي هـريرة ) .

فالتحديات كثيرة، والاستفزازات مستمرة ودائبة، والمدافعة بين الحق والباطل سنة ماضية،

يقول تعالى: ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) (البقرة: 217) ،

ويقول: ( كذلك يضرب الله الحق والباطل ) (الرعد: 17) .

وتجديد أمر الدين وعملية الإحياء والبعث الحضاري والتحصين الثقافي للإقلاع من جديد تكليف ومسئولية، وهذا التكليف إنما يكون سبيله الاعتصام بحبل الله المتين، وتدبر آياته فهو الذي يمنح اليقين، فيقص القصص، ويقدم التجربة، ويشرع السنة، ويبصر بالعاقبة، ويحمي من السقوط. [ ص: 11 ]

ولعل الموضوع الأساس التي تتمحور حوله قضية الاجتهاد على تعدد أسمائها ومسمياتها من مثل: التجديد، والتغيير، والإصلاح، والتطوير، والتنمية، والنهوض، إنما هـي الإدراك الكامل لقضية الخاتمية والخلود والعالمية للرسالة الإسلامية، وما يترتب على ذلك من معطيات، ذلك أن من المسلم به شرعا وواقعا، أن الرسول صلى الله عليه وسلم هـو خاتم النبيين، قال تعالى: ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) (الأحزاب: 39)

( وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : مثلي ومثل الأنبيـاء مـن قبلي كمثل رجـل بنى بنيانا فأحسنـه وأجملـه إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هـلا وضعت هـذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين ) (رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هـريرة ) . وهذا يعني في جملة ما يعني: توقف النبوة وانتهاءها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما يعني توقف التصويب والتقويم لفعل البشر عن طريق وحي السماء، وربط التصويب والتقويم لمسيرة البشر بقيم الكتاب والسنة، وحيه المحفوظ، أي أن التجدد والتجديد والعودة بالتدين إلى الجادة المستقيمة أصبح ذاتيا، ومنوطا بالأمة في كل عصر، متمثلا بأهل الاستطاعة فيها، لأن الأمة أصبحت تمتلك معيار التصويب في الكتاب والسنة، القادر على تقويم الواقع في كل وقت، وتحديد جوانب الخلل فيه، بل والهداية إلى كيفية التقويم والتجديد والعودة إلى الجادة المستقيمة. [ ص: 12 ]

وقد يكون من أبرز لوازم الخاتمية وألزم نتائجها، صفة الخلود للرسالة الإسلامية، الذي يعني القدرة على العطاء والإنتاج للنماذج في المجالات المتعددة، والصلاحية لكل زمان ومكان.

وتحقيق هـذا الخلود والتدليل عليه، لا يكون إلا بالاجتهاد والتجديد، الذي يعتبر أيضا من مقتضياته ولوازمه، وبتعبير أدق: إن تحقيق الخلود في كل زمان ومكان هـو النظر في تجريد النص من قيد الزمان والمكان والمناسبة، وتوليد أو استنباط أحكام في ضوئه، لتقويم الواقع المتجدد، ومعالجة مشكلاته وقضاياه في كل زمان ومكان، ورؤية المستقبل من خلال استشراف الماضي، وهذا هـو الاجتهاد أو التجديد والتغيير والتطوير والإصلاح والتنمية، وما إلى ذلك من المصطلحات.

فاعتقاد الخاتمية والخلود يترتب عليه استمرار عملية الاجتهاد والتجديد والتصويب، وعدم الجمود والتوقف العقلي، ولذلك فمحاصرة الخلود أو القضاء عليه إنما جاء بحسن نية وحرص وتخوف عند بعضهم، لكنه بمكر وخبث وسوء نية عند بعضهم الآخر، وذلك في محاولة لإخراج الإسلام من الحياة، وفصله عن واقع البشر، وبذلك تصبح دعوى الخلود المرفوعة كشعار والمفقودة في الواقع مثارا للتندر. فخلود النص كما هـو مؤكد لا يعني خلـود فهـم النص، وعصمـة الدين لا تعني عصمة التدين، وثبات النص لا يعني جمود الفهم، وإنما يعني خلود المعيار والمقياس الذي تقاس به حالة المجتمع لمزيد من التقويم والتقدم، ويعاير به الواقع لاكتشاف جوانب الخلل والتخلف لمعالجته ومفارقته. [ ص: 13 ]

ومن رحمة الله سبحانه وتكريمه للإنسان، أنه أذن بالاجتهاد وبالتجدد المستمر في فهم النص الخالد المعصوم، وحض عليه، تيسيرا على الناس، وتمييزا من الخلط والالتباس بين ثبات النص وجمود الفهم، فحين يتوقف الاجتهاد ويغيب التجديد، يسيطر الجمود وتشل الحركة وتنطفئ الفاعلية وتضييق المنافذ وتتعطل المصالح المتجددة، لعدم وجود فقه جديد، ويكون ذلك مسوغا للتفلت من شرائع الدين وسبيلا لوصمه بالجمود والرجعية، والماضوية والتاريخية، وانعدام صلاحه للزمن الحاضر، ذلك أن فهم النص يجمد بالعجز والغباء، وينحرف بالتأويل الفاسد، ويغلو بالانتحال الباطل.

لقد جعل الإسلام التجديد في فهم النص بديلا لإلغاء النص ونسخه وتغييره، وهذا المقصد لا يتحقق في حالـة الجمـود والتقليـد، لأنه لو فتح هـذا الباب كما يرى شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض نقده للجمود والتقليد والمحاكاة لوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله، ويبقى كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم في أمته، وهـذا تبديل للدين يشبـه ما عاب الله به النصارى في قوله: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) (التوبة: 31) .

ذلك أن توقف الاجتهاد وتجديد الفهم للنص بحسب متغيرات الواقع، والاكتفاء بالاجتهادات البشرية السابقة، التي جاءت وليدة لعصر غير عصرنا، بمشكلاته وقضاياه، هـو نقل للقدسية والعصمة من الوحي إلى العقل، ومن النص الإلهي إلى الفهم البشري لعصر معين، ومن [ ص: 14 ] نصوص الدين إلى أقدار التدين. ويخشى أن يقود هـذا إلى لون من الشرك والتأليه، وظهور الأرباب بشكل معلن أو خفي، ومن ثم التعطيل لخلود النص والمحاصرة لعطائه وامتداده، لذلك علل الشاطبي رحمه الله استمرار الاجتهاد والتجدد والتجديد، بما يعضده الشرع، ويشهد له فعل خير القرون، ويعززه التاريخ، ويؤكده الواقع الراهن بقوله:... فلأن الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلا بد من حدوث وقائع لا تكون منصوصا على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، وعند ذلك فإما أن يترك الناس فيها مع أهوائهم، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهو أيضا اتباع للهوى، وذلك كله فساد، فلا يكون بد من التوقف لا إلى غاية، وهو معنى تعطيل التكليف لزوما، وهو مؤد إلى تكليف ما لا يطاق، فإذن لا بد من الاجتهاد في كل زمان، لأن الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان. (الموافقات للشاطبي، كتاب الاجتهاد، 4-104، تحقيق الشيخ عبد الله دراز ) .

فمشكلة العجز والجمود والتوقف، ليست في قيم الدين ومقاصده، فخلود نصوصه يمنح تعاليمه وشرائعه الخصوبة والمرونة لمعالجة قضايا الناس ومتطلبات العصور، وإنما المشكلة في الذهن العاجز عن التدبر والاجتهاد المتجدد في فهم النص والتعامل معه، والاجتهاد في تنزيله على الواقع في ضوء قضايا ومشكلات العصر.. كما أن المشكلة ليست في العجز فقط، [ ص: 15 ] وإنما في حاجز الخوف من الإقدام على الاجتهاد الذي يعني تجريد النص من ظرفه وتعديته، وتوليد الأحكام الشرعية في واقع الناس.

هذا الخوف الذي تولد باسم التقوى وقدسية النص، هـو الذي كرس العجز، وعطل العطاء والامتداد، وما تنزل النص أصلا إلا ليتعامل مع طبائع الناس، في جميع حالاتهم وأحوال تدينهم، زيادة ونقصا، وصعودا وهبوطا، ويقوم واقعهم ويعالج قضاياهم. والصحابـي الجليـل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، كان أحد أولئك الذين حاولوا إزالة حاجز الخوف من الإقدام علـى الاجتهاد وتبديـده، " فقـال: قد أتـى علينـا زمان وما نسأل، وما نحن هـناك، وإن الله قدر ما ترون، فإذا سئلتم عن شيء فانظروا في كتاب الله، فإن لم تجدوه في كتاب الله، ففي سنة رسول الله، فـإن لم تجدوه في سنة رسول الله، فما أجمع عليه المسلمون، فإن لم يكن فيما أجمع عليه المسلمون، فاجتهد رأيك، ولا تقل: إني أخاف وأخشى، فإن الحـلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمـور مشتبهـة، فـدع ما يريبك إلـى ما لا يريبك " (رواه الدارمي في سننه، في المقدمة) .

هذا هـو المفهوم الرئيس الذي يضمن خلود الإسلام، ذلك أن هـذا المفهوم يعني بشكل واضح لا لبس فيه، أن يأخذ المسلمون في كل عصر نصيبهم من فهم الإسلام، لذلك فالاجتهاد والتجديد ليس تحريفا للدين ولا انتحالا ومروقا منه، وإنما ولاء لقيمه، وتعميق وإنماء لفهم عقيدته، وامتداد بشرعه، وتعبيد للواقع بمعاييره، وصبغ مسالك الناس بصبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة. [ ص: 16 ]

لذلك كان من الطبيعي والشرعي والمشروع، أن رفع الإسلام الحرج والعسر، وأزال حاجز الخوف من أمام العقل المسلم، ودفعه للنمو والنظر والتدبـر والملاحظـة والمقايسـة والاكتشـاف، حتى إننا لنقـول: بأنـه لو لم يكن في هـذا الدين إلا صفة الخلود التي تدفع المؤمن به إلى فقه النص والإحاطة بفهم الواقع، الموصل إلى الاجتهاد في تنزيل النص على الوقائع المتجددة، واعتبار الاجتهاد والتجديد مصدرا للأحكام، لارتكازه إلى نصوص الكتاب والسنة، لكفى العقل المسلم تطورا ونموا وارتقاء.

لقد حض الإسلام على الاجتهاد والتجدد والتجديد والتقويم والمراجعة، وعلى الأخص كلما طال الأمد، وكاد الركود والتقليد الجماعي، والاستنقاع الذي يورثه التقليد وإلف العادات، أن يسيطر على المجتمع، لحماية الأمة ومتابعة النهوض، ( فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) . (رواه أبو داود عن أبي هـريرة ) . وفي اعتقادي أن هـذا الحديث لا يجوز أن يقتصر فهمه كما هـو حال الذين يعيشون في غرفة الانتظار على الإخبار بما سيكون فقط، وإنما له أبعاد أخرى متعددة، يأتي في مقدمتها وعلى رأسها بعد تكليفي أيضا، يتضمن حمل الأمانة واستشعار المسئولية عن هـذا الدين، وحراسة النصوص، والاجتهاد لاستمرار عطائها وتحقيق الانفعال بها في حياة الناس، ذلك أن من لوازم الخاتمية استمرار سلامة النص الإلهي في الكتاب والسنة، ليصح التكليف في حياة الناس من جانب، وامتلاك المقدرة على [ ص: 17 ] تحقيق خلوده بالاجتهاد في تنزيل أحكامه على واقع الناس، وإنتاج النماذج الإسلامية على الأصعدة المتعددة من جانب آخر.

فالحديث يطمئن ويؤكد ويكلف في الوقت نفسه بديمومة الاجتهاد وتجديد الدين في كل قرن، وبدهي أن التجديد لا يعني الإلغاء والتبديل لآيات القرآن، ولا تبديل نصوص السنة، وإنما يعني العودة إلى التلقي من الينابيع الأولى والعودة إلى الجادة المستقيمة، ونفي ما يمكن أن يلحق بالتدين من علل وإصابات، ناشئة من طبيعة الإنسان وغفلته وجهله واتباعه للهوى، وإلفه للتقليد، ونسيانه وانحلال عزمه وضعف عزيمته، وتجمده على فهوم واجتهادات بشرية جاءت لمعالجة مشكلات عصر معين، ذلك أن من المسلم به أن صوابية الاجتهاد لعصر معين لا تعني بالضرورة صوابيته لكل عصر.

نعود إلى التأكيد أنه: ليس المراد بالاجتهاد والتجديد الإلغاء والتبديل وتجاوز النص، وإنما المراد هـو الفهم الجديد القويم للنص، فهما يهدي المسلم لمعالجة مشكلاته وقضايا واقعه في كل عصر يعيشه، معالجة نابعة من هـدي الوحي.

ونستطيع القول: إن النزوع إلى الاجتهاد، وإعمال العقل في ضوء هـدايات الوحي، الذي يعتبر سبيل تحقيق الخلود للرسالة الإسلامية، والامتداد بالإسلام في جوانب الحياة وشعب المعرفة جميعها، هـو سمة المجتمع المسلم والفرد المسلم على سواء، وهو وإن كان في محصلته [ ص: 18 ] النهائية يقع ضمن إطار فروض وتكاليف الكفاية، وعلى الأخص في القضايا الكبرى، إلا أنه مطلوب من كل إنسان بمقدار إمكاناته وكسبه الشرعي واستطاعته العقلية، ولا بد أن يكون لكل مسلم منه نصيب ما، وهو سبيل النمو والتنمية الفردية والاجتماعية، وقد أغرى الله سبحانه وتعالى به، وشجع عليه سائر المؤمنين، ليبقى التفكير والتفاكر مرتكزا للحياة الإسلامية، ( فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ) . (متفق عليه من حديث عمرو بن العاص) ، وفي تقديري أن الحاكم هـنا هـو كل من نيط به الحكم على شيء، أو النظر في أمر، أو الاجتهاد في قضية، فهذا الحديث يصدق على كل الأفراد، الذي يملكون كسبا في القضية المطروحة، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. ولعل ملمح الإغراء بالاجتهاد إنما يتحقق من وجهتين:

الوجهة الأولى: أن الله سبحانه وتعالى لم يقصد أن ينيطه بأناس بأعيانهم تكون لهم مراكز ومواقع اجتماعية، وبذلك تتشكل طبقة من رجال الدين أو حملة الكتاب المقدس، على غرار ما أصاب الأمم السابقة، الذين يحتكرون فهمه وتفسيره، وإنما فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، وجعله عاما يلجه كل قادر عليه.

والوجهة الثانية: أن الله سبحانه وتعالى لم يثب على الخطأ في أي عمل من أعمال الإنسان فيما أعلم إلا في مجال الاجتهاد والتفكير وإعمال العقل، ذلك أنه من المعروف أن الله تجاوز للأمة المسلمة عن الخطأ [ ص: 19 ] والنسيان وما استكرهت عليه، ( قال الرسول صلى الله عليه وسلم : إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) ( رواه ابن ماجه عن أبي ذر الغفاري ) ، وكان ذلك من أعظم نعم الله على عباده، ويسر شرعه وتيسير تكاليفه، لأن المحاسبة على الخطأ تتجاوز الاستطاعة، خاصة إذا بذل الجهد وتوفر إخلاص النية، وهنا قد يصح معنى الحديث، رغم ضعف إسناده: ( نية المرء خير من عمله ) . (رواه البيهقـي والطبـراني ، وقـال الحـافظ ابن حجر في الفتح: والحديث ضعيف، وهو في مسند الشهاب) . أما في مجال إعمال العقل وممارسـة التفكير والاجتهـاد، فإن الخطـأ لا يقع ضمن دائرة التجاوز والعفو وإنما يرقى إلى مستوى آخر، مستوى الأجر والثواب، وفي ذلك ما فيه من كسر حاجز الخوف والدعوة إلى النزوع للتفكير، لأن الخطأ في العمليات الفكرية والعقلية هـو أحد السبل للوصول إلى الصواب، فهو من طبيعة البشر ومقتضى حريتهم، وهو في الحقيقة طريق الوصول إلى الصواب. أما التعطيل والإلغاء فهو إهدار لكرامة الإنسان، وتكبيل لعقله، ومحاصرة لإرادته واختياره.

ويرد هـنا محذور قد يكون من المفيد التوقف عنده بمقدار ما يتسع له المجال، وهو أننا لو فتحنا باب الاجتهاد لكل إنسان مهما كان كسبه الشرعي وقدرته العقلية، فسيدخل من هـذا الباب من يحسن ذلك ومن لا يحسنه، الأمر الذي يؤدي إلى الاستخفاف والعبث بالأحكام الشرعية. والذي يبدو لي في هـذه القضية والله أعلم أن هـذا المحذور مقبول من جانب، وعليه بعض التحفظات من جانب آخر. [ ص: 20 ]

أما أنه مقبول، فلأن التخصص والاقتدار واستجماع المؤهلات المطلوبة، والإحاطة بعلم القضية المطروحة، هـو الوضع الطبيعي لكل من يفكر في اقتحام هـذا المجال، وغيره من المجالات الفكرية، حتى لا يفتي الناس بلا علم، فيضل ويضل، وأما بعض التحفظات والتخوفات التي ترد على الموضوع: من إقدام غير المؤهلين، وهذا أمر وارد على كل أمور الحياة الفكرية والعملية، ولا يمكن منعه، لكن في الغالب سوف يحجم من لا أهلية له عن اقتحـام هـذا الموضـوع الذي لا علم له فيه، ولا تصور له عنه، ولو حاول مباشرة الموضوع لعرض نفسه للون من الزرايـة والسخريـة والتجريح.

وفي تقديري أن ذلك المحـذور أو الحالة الاستثنائية غير الطبيعية أو الخاصة، وهي واردة، لا يجوز أن تلغي عموم الدعوة إلى الاجتهاد ( بقوله عليه الصلاة والسلام : إذا حكم الحاكم... ) ، خاصة وأن النهي القرآني عن القول بغير علم: ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) (الإسراء: 36) ، إضافة إلى عصمة الأمة والوعي الإسلامي العام والثقافة الشرعية الإسلامية وموازين الضبط الاجتماعي، تشكل حواجز شرعية وواقعية أمام اقتحام العاجزين عن ولوج هـذا الباب، وإذا حاولوا الولوج فسوف تسقط فتاواهـم واجتهاداتهـم.. وإن سقط بسببها بعض الضحايـا، إلا أن ذلك لا يقارن بمخاطر توقف العقل المسلم عن الاجتهاد. وهذا التدافع في هـذا المجال من سنن الحياة أيضا. ولو سلمنا بذلك وألغينا الاجتهاد بسبب [ ص: 21 ] بعض الجهلة وأصحاب النوايا السيئة، لعطلنا الحياة الإسلامية، ودفعنا الناس إلى التفلت من شعائر الدين.

ونحن لا نستطيع عمليا أن نمنع أي إنسان من إبداء رأيه واجتهاده، لكن الأمة الواعية قادرة على إسقاط فتاوى الظلم والجهل والسلطان والهوى والانحراف، كما أنها قادرة على إسقاط ثقافة الظلم والجهل والعمالة. فكم من الفتاوى التي سقطت من حياة الأمة الفكرية والعملية، لأنها لم تقنع حتى صاحبها. وكم من الفتاوى كانت سببا في إنقاذ أمة وإيقاظ وعيها، ووسيلة حركتها، وكانت أحد عوامل نهوضها. فالأمـة بما تمتلك من الوعي العام تشكل ضبطا اجتماعيا يحاصر فتاوى السوء، لكن قد لا تلغيها، وسنن التدافع كفيلة بحماية الحق وإسقاط الباطل. والذي نخشاه أن إغلاق باب الاجتهاد سدا للذريعة المتوهمة، وبحسن نية، قد أوقع في مفاسد كثيرة وكبيرة، ليس أقلها الحكم على العقل المسلم بالعطالة الدائمة والعجز المستمر، ومحاصرة خلود الشريعة، وفتح الباب على مصراعيه لامتداد الآخر في كل مجالات الحياة وشعب المعرفة.

ولعلنا نقول: إن إغلاق باب الاجتهاد لم يؤد إلى محاصرة الفاسدين والمفسدين والمستشرقين والمنحرفين وعملاء الثقافات الضالة، فما زالوا يسرحون ويمرحون ويملأون بمفاسدهم وانحرافاتهم السوق الفكرية باسم التنوير والتحرير والعقلانية، وتحت شعار الألقاب الأكاديمية، وإنما فعل فعله فقط في الطيبين الصالحين الورعين الذين يتخوفون من الفتوى [ ص: 22 ] والاجتهاد، مما أحدث فراغا وأعطى فرصة للمتلاعبين والمتجرئين على شرع الله للعبث بالأحكام الشرعية، وخاصة في المجالات السياسية والاقتصادية، حيث تستخدم نصوص الدين لتسويغ المسالك المنحرفة ومحاولة إضفاء الشرعية عليها في المجتمع المسلم، ممن أجازوا لأنفسهم تسييس نصوص الدين، وحرموا على غيرهم تديين السياسة وتقويمها بشرع الله.

إن باب الاجتهاد لم يغلق كما هـو واقع الحال إلا على أصحاب الورع والتقوى، وكأننا بذلك حبسنا أنفسنا، وكسرنا أسلحتنا بأيدينا، وأتحنا التفكير والتنظيـر والـرأي لغيـرنا. وأعتقد أن أية ذريعـة مهمـا بلغت، لا تصمد أمام حقيقة أن الله الذي أنزل الشريعة وجعلها خاتمة وخالدة، هـو الأعلم بفساد العصور وتقلباتها ومعطياتها وأقدار التدين، وارتفاعها وهبوطها، فلا مجال لبشر كائنا من كان أن يحاصر الخلود ويعطل العقل ويلغي التفكير، ويحجر على فضل الله، خاصة وأن المفاسد التي ترتبت على إيقاف الاجتهاد عمليا، أكبر بكثير من المفاسد التي توهم سدها بإيقافه.

ويكفي أن نقول: بأن إغلاق باب الاجتهاد، وإلغاء عمليات التفكير، وتعطيل النظر في النصوص في ضوء الواقع، والاجتهاد في إيجاد الأوعية الشرعية لحركة الأمة، جعل (الآخر) يتقدم، شئنا أم أبينا، لملء الساحة القانونية والسياسية والاقتصادية والتربوية والإعلامية والثقافية، كما جعله ينمو ويمتد بشعب المعرفة على الأصعـدة المتعـددة [ ص: 23 ] ما جعل مجرد اللحاق به يكاد يكون مستحيلا، واستيعاب إنتاجه وتقويمه والحكم عليه في غاية الصعوبة، ذلك أن العقل المعطل المشلول هـو عاجز أيضا عن استيعاب إنتاج (الآخر) والحكم عليه وتقويمه، لأن هـذا الاستيعـاب هـو في الحقيقـة اجتهـاد، ويلجـه اليـوم من يحسنـه ومن لا يحسنه، سواء أسمينا ذلك اجتهادا أم لم نسمه.

وقضية أخرى: ذلك أن إغلاق باب الاجتهاد هـو في حقيقة الأمر خروج من الواقع والمجتمع، والحاضر والمستقبل معا، والانزواء في بعض الزوايا والتكايا التي تعاني من غربة الزمان والمكان، وترك المجتمع (للآخر) يملأه بما يشاء.. وأخشى أن أقول: إن ذلك هـو لون من الوقوع في فصل الدين عن الحياة أو فصل الحياة عن الدين، الذي نتنكر له كشعار، ونمارسه كواقع.

ولعل قصر الاجتهاد والتقليد معا على بعض أحكام العبادات بالمعنى التقليدي أو اقتصاره في مجمله على الفروض العينية، دون الفروض الكفائية الفروض الاجتماعية التي تعنى بقضايا الأمة في كل مجالات حياتها، وقصر الاجتهاد على المجال الفقهي التشريعي في قضايا الحلال والحرام دون التقدم إلى التخصص والاجتهاد في شعب المعرفة ومجالات الحياة، ووضع نظريات وأفكار ونظم معرفية منطلقة من مرجعية شرعية، أدى إلى انزواء الإسلام عن المجتمع وما يتطلبه من رؤى وخطط وبرامج وأحكام، وتراجعه إلى دور العبادة، وهذا كما لا يخفى لون من علمنة التدين الفعلية، سواء جاء ذلك بحسن نية أو بسوء طوية، [ ص: 24 ] وسواء اعترفنا به أم لم نعترف، فهو واقع أصبح يحكمنا مهما حاولنا البرهنة على شمولية القيم الإسلامية، واغترفنا الأدلة من النصوص ومن حياة الصحابة، فواقعنا وعطاؤنا أكبر شاهد إدانة على ما ندعيه، ومن كان قوله يخالف فعله كأنما يوبخ نفسه.

وقد يكون بعض وجوه المشكلة هـنا، أن باب الاجتهاد أو مجاله ضيق كثيرا قبل أن يغلق، فاقتصر على توليد الأحكام الشرعية من بعض نصوص القرآن والسنة، بما اصطلح على تسميته بآيات الأحكام وأحاديث الأحكام التي اختلف في كميتها وعددها، وفي كل الأحوال لم تتجاوز الخمسمائة آية، وكأن بقية آيات القرآن الكريم التي شكلت خير أمة أخرجت للناس لا أحكام فيها، وأنها نزلت للتبرك بتلاوتها فقط. ولعل هـذا العدد أو هـذا التوجه إنما جاء بسبب معيار الاختيار الذي وضع، ولأن المجتمـع الإسلامي كـان ممتـدا بالإسـلام في جميـع شعب الحيـاة، وكان لا يلزمه إلا الاجتهاد التشريعي بالمعنى الفقهي القانوني دون الاجتهاد في سائر المجالات المعرفية والعملية الأخرى، حتى أصبح مدلول لفظ الفقه إذا ما أطلق ينصرف أول ما ينصرف إلى الفقه التشريعي، وأصبح ينظر من خلال هـذا المدلول الاصطلاحي إلى كل قيم الإسلام وميراثه الثقافي، كما أصبح ذلك المعيار الذي يكاد يكون وحيدا لتدين الأمة وتطبيق الشريعة، بعيدا عن شعب المعرفة ومجالات الحياة الأخرى.

لقد أدى هـذا التضييق والانكماش في المجال الاجتهادي إلى أن يسير الاجتهاد والفتوى أو الفقه الإسلامي خلف المجتمع، وبعيدا عنه في معظم [ ص: 25 ] الأحيان، ليحكم على تصرفاته بالحل والحرمة، دون أن يمتلك القدرة على السير أمام تقدم المجتمع، ليضع الخطط والأوعية الشرعية لحركته، ويبتكر النظم المعرفية والمناهج التربوية لتنشئته. أو بمعنى آخر، لم يتقدم الاجتهاد المجتمع لبيان الحلال وفعله وإثارة الاقتداء به، وحمايته من فعل الحرام، بدل السير خلفه، وترك تلك المجالات الخطيرة والمهمة لعبث العابثين، الذين يحاولون جاهدين تغريب المجتمع والعمل على استلابه الحضاري.

وجانب آخر في هـذه القضية لا يقل خطورة عما سبق، وهو الإقدام على ممارسة الاجتهاد الفكري والفقهي لقيم الإسلام وميراثه الثقافي والسياسي، أو ما يسمى التفسير التاريخي لحركة مجتمعه، في ضوء النظريات والمعايير التي شاعت في مجتمعات أخرى، من قبل أعداء الإسلام وصنائعهم في الداخل الإسلامي، ممن أتقنوا فن العمالة الثقافية، وهي الأخطر من العمالة السياسية على المدى البعيد، حيث بدأوا يخرجون على أبناء المسلمين في المدارس والمعاهد والنوادي والصحافة وأجهزة الإعلام باجتهادات ونظريات، يحاولون الارتكاز فيها إلى القيم الإسلامية، ليوجدوا لأنفسهم وأفكارهم المشروعية في أوساط المسلمين.

وهنا ومن خلال رد الفعل الطبيعي، كان لا بد أن يتحرك أصحاب الغيرة على الإسلام وحماية نصوصه وتاريخه من العبث، ليجتهدوا في الرد والتفنيد لهذا العبث، وبذلك اقتصر الاجتهاد الفكري والفقهي معا على مجال الفكر الدفاعي، الذي حوصر واستنزف في جانب الحماية [ ص: 26 ] والدفاع عن الإسلام، ولم يكن له عطاء في مجال التنمية والتطوير وسائر المجالات الأخرى، حيث لم يعد هـمنا إلا الرد على زيد وعمرو، ممن استنبتوا في المعاهد والجامعات العربية والأجنبية، هـذا عدا عدد من المنابر الفكرية، والإعلامية الأخرى.

ولعل هـذه الإصابة، وغيرها كثير، إنما لحقت بنا بسبب تضييق مجال الاجتهاد وقصره على المجال التشريعي، أو بسبب إغلاق باب الاجتهاد ابتداء بذريعة الخوف من العبث والفساد.

إضافة إلى استصدار حكام الظلم والاستبداد السياسي فتاوى مفصلة على مقاسهم، لإعطاء تصرفاتهم المشروعية الاجتماعية والتغرير بالجمهور المسلم، الأمر الذي أدى أيضا إلى انسحاب الكثير من العلماء العاملين من الساحة، حماية لدينهم وعرضهم، حتى لا يفتنوا في دينهم، وشاعت في الساحة الثقافية والفقهية النصوص التي تدعو إلى العزلة تجنبا للفتنة.

ولقـد ساهـم بصناعـة هـذا التخـوف فـي رأيي أيضا تلك الشـروط التعجيزية، التـي يمكن أن يصل أمر توفرها إلى درجة الاستحالة بالنسبة لأهلية الاجتهاد. وعلى الرغم من أن إغلاق باب الاجتهاد هـو اجتهاد، ووضع شروط لأهلية الاجتهاد هـو اجتهاد أيضا قابل للنظر والتعديل والمراجعة في ضوء الظروف والحاجات، فإن هـذا الاجتهاد في إغلاق باب الاجتهاد صار أكثر قدسية من النصوص الداعية للاجتهاد والتجديد في الكتاب والسنة، ذلك أن النص ينظر فيه بفهم جديد قويم [ ص: 27 ] في ضوء الظروف والمتغيرات، ويجتهد في محل تطبيقه وتنزيله ومدى الاستطاعات والإمكانية لذلك.

ولعل من المفارقات العجيبة حقا أن تأخذ القضية صفة القدسية والعصمة، والتي لا يجوز أن تمس، علما بأن الأدوات المعرفية والتعليمية والتقنية والمعلوماتية التي تتطلب إعادة النظر في شروط أهلية الاجتهاد، قد وفرت للإنسان إمكانات هـائلة في مجال توفير المراجع والمصـادر واستدعـاء المعلومـة والحفظ المنضبط، مما جعل هـذه الأمور متقدمة على الارتكاز على الحفظ والرواية، الذي اقتضاه منهج النقل والمشافهة، هـذا بالإضافة إلى أنه أصبح من المستحيل على أي إنسان كائنا من كان في عصر تدفق المعلومات وتبحرها أن يحيط بشعبة واحدة فقط من شعب المعرفة، حيث لا يتسع لا علمه ولا عمره لذلك، ونحن ما نزال نحاول ونصر على التعامل مع كل المشكلات والمتغيرات بالشروط نفسها والوسائل نفسها.

إن أهل الخبرة والاختصاص في كل مجال يقدمون للإنسان المجتهد خلاصة معارفهم، فما عليه إلا أن يتمتع بأهلية النظر الشرعي، ويتعامل مع هـذه المعطيـات، للوصـول إلى ما يظن أنه حكم الإسلام في القضية.

وعندي أنه بالإمكان التفكير في تقسيم الاجتهاد إلى اجتهاد فكري واجتهاد فقهي تشريعي. وعلى الرغم من أن الاجتهاد بأشكاله هـو فقهي بالمصطلح العام للفقه، وفكري أيضا لأنه جاء ثمرة للتفكير وإعمال [ ص: 28 ] النظر، فإن هـذا التقسيم الفني فقط يمكن أن يساهم بتحريك قضية الاجتهاد ويخفف من عقدة الخوف التي تحتل نفوسنا وتشل حركتنا الذهنية.

فالاجتهاد الفقهي هـو استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية في الكتاب والسنة، في ضوء مراتب الحكم الشرعي، بالكيفية المعروفة عند أهل الاختصاص، مع ضرورة إعادة النظر في الشروط التي وضعت لأهلية الاجتهاد، في ضوء ما توفر من تقنيات ومعلومات ووسائل حفظ واسترجاع.

أما الاجتهاد الفكري فهو الساحة التي تسع المسلمين جميعا، وذلك بعد أن تتوفر لكل واحد منهم مرجعية شرعية أو ثقافة شرعية، ورؤية إسلامية شاملة للحياة بشعبها وميادينها المختلفة، تشكل قدرا مشتركا لكل الاختصاصات المعرفية هـي أشبه بضوابط منهجية للامتداد بالاجتهاد، والنظر لكل اختصاص في ضوء القيم الإسلامية، وإطلاق العقل المسلم من عقاله ليتعامل مع النص بحرية وطلاقة، حتى يصبح قادرا على إنتاج فلسفة إسلامية تربوية واقتصادية وسياسية وإعلامية وإدارية وتنموية... الخ، في جميع العلوم الإسلامية والإنسانية، ويصبح هـذا الاجتهاد الفكري ساحة للتفاعل والتفاكر والحوار، يتم فيها التخطيء والتصويب والمراجعة، بدون عقد خوف، وعندها تصمد السنة وتهزم البدعة، ويتقدم العقل وتهزم الخرافة، ويبادر بالعمل وتحاصر الفتن، وتتبلور رؤى فكرية ميدانية ذات مرجعية إسلامية تخصب العقل [ ص: 29 ] وتنميه، وتمتد إلى مجالات التخصص جميعا، وترتقي بالأمة المسلمة وتمكنها من حمل رسالتها وإلحاق الرحمة بالناس.

ولنا في ذلك تجربة تاريخية غنية عندما تبلور الفكر الإسلامي في عصر تأسيسه وازدهاره، وجاء من ثمرات النظر العقلي في كتاب الوحي والوجود، فكانت المرة الأولى في تاريخ الحضارة الإنسانية أن تبلورت علوم الدنيا متدينة بالدين، ونشأت حول الوحي وعلومه مجالات معرفية وفكرية تمثلت فيها إبداعات الإنسان المسلم في مختلف العلوم النظرية والتطبيقية، محققة فريضة النظر والتفكير والتدبر، إثراء لوجدان المسلم، وارتقاء بعقله، وتحقيقا لأسباب تمكينه وخلافته في عمران الكون، وفقا لمقاصد الشريعة وضوابطها المنهجية.

والسبيل إلى ذلك اليوم، يتمثل في تأسيس وإنشاء أعمال مؤسسية في المجالات المتعددة، بإقامة مراكز البحوث والدراسات والأندية الفكرية والثقافية، ومراكز المعلومات، وتشكيل حلقات للبحث والحوار والتفاكر والتشاور، ولا بد أن تتوفر هـذه المراكز على بعض المشاركين المتخصصين بالقضايا الشرعية إلى جانب شعب المعرفة الأخرى، لأن اتخاذ القرار والصناعة الفكرية والتقنية والقرارات المصيرية والخطط الاستراتيجية، أصبح يشارك فيها اليوم أكثر من تخصص لتأتي الرؤى والمناهج نضيجة ومدروسة من أهل ذكرها، قال تعالى: ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) (الأنبياء: 7)

وقال: ( ولا ينبئك مثل خبير ) (فاطر: 14)

وقال: ( فاسأل به خبيرا ) (الفرقان: 59) . [ ص: 30 ]

إن قيام العمل المؤسسي الذي يتوفر على شعب المعرفة جميعها، هـو الذي يمكن من رؤية الواقع واستيعابه بشكل علمي وموضوعي، أي يحقق فهم الواقع، ذلك أن من أهم مظاهر أزمة الاجتهاد اليوم أيضا، أن التركيز في شروط أهلية الاجتهاد انصرف في معظمه إلى معرفة وفقه النص في الكتاب والسنة، أو إلى تحريـر النص وبيان صحته، وهذا المطلب أو هـذا الفقه لا شك أنه من الأبجديات التي لا تتحقق القـراءة والكسب إلا بهـا، ولا تتوفر المعيارية والموازين للأشياء إلا فيها، ولكن هـناك جانبا آخر على قدر من الأهمية، وهو يعتبر أحد طرفي المعادلة الغائبة في عملية الاجتهاد بشكل عام، وهو فهم أو فقه محل النص وموطن تنزيله، إلى جانب فقه النص، أي لا بد من فقه النص وفهم الواقع الذي يراد للنص أن يقومه وينزل عليه، وفي هـذا لا يكفي حفظ النصوص، بل لعلنا نقول: إن فقه النص لا يتوفر على حقيقته إلا بفهم الواقع. وإذا كانت ساحة الاجتهاد تتسع لما لا نص فيه، فإن الاجتهاد في مورد النص ومحله والنظر في توفر أسباب تطبيقه قد يكون آكد، وهذا أمر غفل عنه كثير من المسلمين، لذلك انكفئوا عن استدراك بعض العلوم الاجتماعية، والاختصاصات المتعددة، التي تشكل مفاتيح فهم المجتمعات واستطاعاتها ووضع الخطط التربوية لتأهيلها بالنص، لتصبح جاهزة لتطبيقه.

ولعل النظر في قوله تعالى: ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (التوبة: 122) ،

يعطي ملمحا لهذا الأمر، ويشير إلى بعض الأبعاد [ ص: 31 ] المطلوبة لتوفر أهلية الاجتهاد وتكاملها، فالنفرة كما هـو معلوم وشائع عرفا أكثر ما استعملت في الاستجابة السريعة للجهاد القتالي، علما بأن ميدان المعركة غير مقتصر على مجال بعينه، أو على الجهاد بمعناه الخاص الجهاد القتالي وإنما يتعدى إلى ميدان المجاهدة في جميع مجالات الحياة. فالنزول إلى الميدان وإبصار الواقع الذي عليه الناس، ومعرفة مشكلاتهم ومعاناتهم واستطاعاتهم وما يعرض لهم، وما هـي النصوص التي تنزل على واقعهم في مرحلة معينة، وما يؤجل من التكاليف لتوفير الاستطاعة، إنما هـو فقه الواقع، وفهم الواقع إلى جانب فقه النص.. فالاهتداء إلى السبيل الصحيحة لا يتحقق للقاعدين والمنعزلين عن الواقع والميدان، وإنما يتوفر للعاملين في ميادين الحياة كلها،

مصداقا لقوله تعالى: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) (العنكبوت: 69) ،

فالاهتـداء إلى السبيـل وفقـه المقاصـد والمخـارج، إنما يتحقق بالنزول إلى ساحة الحياة بميادينها المختلفة، والمجاهدة بكل أنواعها وأشكالها.

لذلك يمكن القول: بأن الله سبحانه وتعالى ناط تحصيل الفقه بالنفرة، واستيعاب واقع المجتمعات، ومعرفة طبيعة التحديات، والاهتداء إلى سبيل التعامل معها، أما القعود والانعزال والاقتصار على حفظ النصوص وتفسيرها بالفراغ، فلا يمنح فقها ولا يبني مجتمعا. [ ص: 32 ]

ويمكن أن يتحقق هـذا الملمح أيضا ولو من بعض الوجوه بالنظر في ( دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس بقوله: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل ) . (رواه أحمد عن ابن عباس ) ، ذلك أن من أهم معاني علم التأويل: معرفة المآلات والعواقب وفقه السنن الاجتماعية والنفسية التي توصل إليها، والتي لا تقل أهمية للعالم عن فقه نصوص الدين. إن علم المآلات والعواقب، أو فقه قيام وسقوط المجتمعات، وكيفية تحقيق الشورى والاستخلاف وإقامة العمران والعدل، هـو فقه ترشد إليه النصوص وتحض عليه، ويحققه ميدان الحياة.. وليس التأويل الوارد في دعائه عليه الصلاة والسلام، مقتصرا على معرفة المعاني والتفسير، وإنما الإدراك لأبعاد التنزيل كلها، وتصور العواقب المترتبة عليه، التي سوف تعود بلا شك على كيفية التعامل مع النص بما يمكن أن نطلق عليه: فقه التنزيل أو اجتهاد التنزيل، أو فقه المحل ورؤية مستقبل التطبيق، فالعزلة عن ميادين الحياة والخروج من الواقع لا يمنح فقها، ولا يهدي إلى سبيل، ولا يكتشف سنة، ولا يرى آية، لا في الأنفس ولا في الآفاق.

وقد يكون من المفارقات الغريبة والعجيبة حقا بين الواقع الذي نحن عليه والواجب أو الهدف الذي نسعى إليه، تلك المساحة التعبيرية الكبيرة التي أفردها القرآن لبناء العقل المسلم، ووظف لها دراسة الفعل التاريخي كله، ودعاه من خلال ذلك إلى التفقه والتعلم والتدبر والنظر والبحث والاعتبار والاستدلال والملاحظة والبرهان، وقدم له نماذج من المناظرة والمفاكرة والمشاورة والمباهلة، وكل ذلك من الأمور التي تعتبر [ ص: 33 ] محرضات حضارية وثقافية، ودافعة للارتقاء والكشف والإفادة من عبرة الماضي، ولفت النظر إلى بصارة المستقبل.

ولم يكتف القرآن بذلك، بل حماه في رحلة التفكير من المجازفة، وحصنه من الإصابات، وضبطه بضوابط الوحي المعصوم، ووفر طاقاته وجهده، ومع ذلك أصابه الجمود والتحجر والانطفاء والتوقف عن الاجتهاد، ومرت حقب ثقافية يمكن أن نطلق عليها: (ثقافة التخلف والارتماء على الآخر) ، أوقعت أدبياتها المسلمين في الثنائية والانشطار الثقافي، وذلك عندما وضعت العقل مقابل الوحي، وجعلت المسلم أمام هـذا الخيـار الصعب، مما أنتج نماذج مشوهة تدعي اعتماد الوحي بلا عقل، أو بسبب من رد الفعل تعتمد العقل بلا وحي، فكان الضلال وكان الضياع، وكأن العقل والعطاء العقلي أصبح تهمة أو جريمة، عند بعض السذج والبسطاء من أصحاب الثقافة الشرعية الهشة، حتى أصبح يطلق على بعض الباحثين: بالعقليين كوصمة عار، وكأن أهل الدين والوحي لا عقل لهم، وإنما من أبرز سماتهم تعطيل عقولهم، وأصبح بعض من يلهثون وراء الفلسفة وجدلياتها بعيدا عن هـدايات الوحي ومعرفته يتهمون أصحاب التدين والوحي بالتخريف والحشوية والجبرية وفقدان الإرادة والفاعلية!!

وأعتقد أن المعادلة الصعبة هـي في استمرار هـذه الثنائية، التي ما تزال تفعل فعلها في الساحة الثقافية، مع العلم أن أول ما بدأ الإسلام بعلاجه هـو قضية التوحيد والوحدانية وإزالة الثنائية بين العلم والدين، بين الوحي [ ص: 34 ] والعقـل، فلا عقل سليم معطاء بلا وحي موجه وهاد، ولا وحي مؤثر وبان بلا عقل متلق ومجتهد وممتد بأحكام الوحي، ذلك أن العقل مناط التكليف، وهو أداة الاجتهاد والمجاهدة. ولا أدري بأي مسوغ يجوز أن يوقف ويعطل ويجمد ويرفع العلم بمحاصرة العقل في الواقع الثقافي الإسلامي؟!

وعندما ندعو إلى تحقيق خلود الإسلام، والاجتهاد والتجديد في تنزيله على الواقع، فإن ذلك ليس تبديلا لآيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإنما يعتبر فهما جديدا للآيات في ضوء الواقع، وعودة إلى الينابيع الأولى ومعايير الكتاب والسنة المعصومة، وعدم التوقف عند فهوم البشر المظنونة، التي جاءت استجابات لواقع معين.

والتجديد الذي ندعو له، لا يعني القفز من فوق الاجتهادات في مختلف العصور، أو التقليل من قيمتها كثروة ثقافية، لأن ذلك ليس من العقل ولا النقل ولا المنهج العلمي الصحيح، خاصة وأن كثيرا من الاجتهادات خضعت لاختبار الزمن والواقع التطبيقي، وصقلتها الأيام، وأثبتت جدارتها وصوابها. لذلك لا بد منهجيا من استيعابها واستصحابها في رحلة العودة إلى النصوص، حيث إن القفز من فوقها وإسقاطها من رحلة الاجتهاد، فيه من الخطورة ما يعدل فعل من نقل القدسية إليها والاكتفاء بها عن قيم الكتاب والسنة، وطبيعة خلودها الممتد على الزمن. [ ص: 35 ]

وما أعتقد أن الله أذن للعقول أن تعمل في عصر وتجمد في عصر، ولو كان ذلك كذلك لما كان الإسلام خالدا، ولوقعنا بما نأخذ على (الآخر) ، من ادعائه بأن الإسلام ماضيا انتهت صلاحيته لظرفه التاريخي ومكانه الجغرافي.

وقضية أخرى قد ترد في هـذا السياق، وهي أن كثيرا من الاجتهادات في تاريخنا الفقهي والثقافي، بنيت على أدوات ووسائل معرفية جاءت نتيجة الملاحظة واستقراء الوقائع والظواهر في ضوء الإمكانات والوسائل المتوفرة، حيث كانت وسائل المعرفة التي أنتجت تلك الاجتهادات هـي المتاحة في ذلك الوقت، ومن ثم تطورت أدوات البحث ووسائل المعرفة بدرجات هـائلة، حتى أصبحت نتائجها المعرفية والعلمية يقينية في مجالات متعددة، من مثل مجالات البيئة والغذاء وأنواع الطعام والشراب، والحمل والولادة، والحيض والنفاس، والتقويم وحساب الوقت بدقة، حتى أصبح التقدير ممكنا ويقينيا إلى سنوات كثيرة قادمة، وفي مجال الحفظ والاسترجاع، والإحصاء والاحتمالات، والنفع والضرر للقضايا الإنسانية.

لذلك أصبح من الضروري العدول عن هـذه الاجتهادات الظنية القائمة على المقايسة والاستنتاج والاستقراء والملاحظة ودلالاتها الظنية إلى ما أصبح متيقنا وقطعيا من الناحية العلمية، حيث لا يجوز العدول عن القطعي المتيقن إلى الظني المرجوح. [ ص: 36 ]

وبعـد:

فالكتاب الذي نقدمه اليوم في السلسلة، يعتبر محاولة جادة ومدروسة، وحسا متقدما بأهمية وضرورة العمل المؤسسي الذي ما يزال غائبا عن الواقع الإسلامي بالشكل المطلوب، وتنمية الشعور به والمسئولية تجاهه، والتنبه إلى بعض المخاطر والمعوقات التي يمكن أن تلحق به. فالعمل المؤسسي أصبح سمة العصر الذي لم تعد تنفع به الجهود والاجتهادات الفردية غير المتكاملة والمتناسقة، ولم تعد تنفع معه الحسابات الإقليمية أيضا.. فهو في الحقيقة محاولة للإفادة من كل الخبرات، وتأكيد مبدأ الشورى والتدريب عليه، والحد من النزوع الفـردي الذي لا يؤدي فـي عمومـه إلا إلى نمو ظاهرة الفردية والتبعثر، وتفويت الكثير من الخير.

لقد آن الأوان للتحول من بعض قضايا فقه الفرد التي أنضجت حتى كادت تحترق، إلى الاهتمام بفقه الأمة الغائب، بالأقدار المطلوبة. من فقه الفروض العينية إلى فقه الفروض الكفائية، في مجال التنمية والبيئة والسياسة والاقتصاد والإعلام والتربية والإدارة والعمران، والسنن الفاعلة في الحياة، وعوامل السقوط والنهوض والوحدة والوحدانية.. ذلك أن المطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى، الاجتهاد في فقه الأمة والدولة والمؤسسة والشركة، والقانون العام والقانون الخاص، والعلاقات الدولية، ومعاهدات السلم والحرب... الخ.

إن المطلوب حقيقة: الاجتهاد في بناء الرؤية الإسلامية، في النظر للقضايا الدولية والمحلية، وكيفية التعامل معها، وبناء المرجعية الشرعية التي تشكل الضابط المنهجي على مستوى الفرد والجماعة، والتحول من [ ص: 37 ] الإحساس بأهمية العمل المؤسسي والاجتهاد الجماعي إلى الإدراك الكامل لأبعاده المتعددة، وإقامة المؤسسات ومراكز البحوث والمعلومات والدراسات وتشكيل اللجان المصاحبة، التي تتوفر على الاختصاصات المتعددة، بحيث تكون موازية للمجامع الفقهية التشريعية، وتوسيع مجال الفقه من الفقه التشريعي إلى الفقه الحضاري بشكل أعم، والإفادة من التقنيات الحديثة والمعلومات التقنية في النظر للأمور، والإفادة من التقدم في وسائل الاتصال والإعلام لاستطلاع جميع الآراء، ولتحقيق الإحاطة بالأمور، والخروج بالأمة من البلبلة الفكرية، وحالة التخاذل الثقافي التي تعاني منها.

وقد لا تكون المشكلة كلها في كيفية تشكيل مجامع الفقه أو مؤسسات الاجتهاد الجماعي، ووضع معايير اختيار الأعضاء، وإحكام الضوابط لاستقلاليتها، وآلية تحييدها وحمايتها من عوامل التأثير عليها وتوجيه قراراتها، وإنما المشكلة الأهم أيضا، في طبيعة الموضوعات التي تعرض لها وتناقشها، ومدى أهميتها وعلاقتها بنمو المجتمع وتقدمه وحمايته في المجالات المتعددة.

ولعل أولى المهام المطلوبة، لاسترداد فاعلية العقل المسلم، تكمن في التخلص من عقدة الخوف من الاجتهاد، والإلقاء بالتبعية في الركود على الدولة أو العدو الخارجي، ذلك أن الإنتاج الجيد يطرد الإنتاج الرديء من الساحة، وهو الأقدر على البقاء والثبات في الأرض من الثقافات الغثائية الهشة المنفصلة عن الوحي أو المحاصرة له، ذلك أن المؤسسات الفكرية والفقهية والثقافية هـي التي تشكل الارتكاز الحضاري والعمق الثقافي والرؤية المستقبلية للأمة.

والله المستعان والهادي إلى سواء السبيل. [ ص: 38 ]

التالي


الخدمات العلمية