الاجتهاد المقاصدي (حجيته .. ضوابطه .. مجالاته) [الجزء الثاني]

الدكتور / نور الدين بن مختار الخادمي

صفحة جزء
المبحث الأول: دواعي العمل بالضوابط ومبرراته

* العمل بضوابط المقاصد هو العمل بالمقاصد نفسها، والتفويت فيها أو في ضابط منها هو عينه التفويت في ما جعله الشارع مرادا لشرعه ودينه، بناء على أن المصالح المحددة شرعا قد روعي فيها لزوم انسجامها وتطابقها مع ما جعله واضع تلك المصالح من قيود وأمارات وأدلة على وجودها وشرعيتها والتعويل عليها . فالمصالح والضوابط متلازمان مترابطان، لا يجوز عقلا ولا شرعا الفصل بينهما، أو إهدار واحد منهما .

* المقاصد الشرعية مرادة للشارع الحكيم، والكشف عنها وتحقيقها لا يكون إلا ضمن مشيئته وعلمه ومراده، ومن خلال وحيه وهديه وتعليماته، فهو العليم بما يصلح خلقه، والخبير بما يبعد الهلاك عنهم، وليست أوامره ونواهيه إلا هادفة لما فيه السعادة في الدارين، [ ص: 20 ] فاعتبار المقاصد وعدمه ثابت بمقتضى مقياس الشرع وميزانه، وليس بأمزجة الأهواء والطباع والشهوات





>[1] ، لذلك فإن المقصد المقرر شرعا إنما هو الموضوع وفق تعليماته وقيوده وعلاماته، والتي اصطلح على تسميتها بضوابطه وحدوده وشروطه، ومن ثم فإن مراعاة ضوابط المقاصد، من مسلمات البعد العقدي الإسلامي، ومن علامات الانخراط في خطاب الشرع تكليفا ووضعا، أي تكليفا بالأحكام ومقاصدها، وبما وضعه الشارع أمارات وعلامات دالة على ذلك .

* الضوابط في علاقتها مع المقاصد كالشرط مع المشروط والدليل مع المدلول، ويعلم بداهة وعقلا أن المشروط متوقف على شرطه، وأن المدلول مبني على دليله، لذلك فإن المقصد متوقف على ضوابطه وجودا وعدما، على أساس أن المقصد الذي أراده الشارع إنما قد اعتبره بوجه ما، وعلى وفق أمر ما، وذلك هو عين الضابط ونفس القيد في اعتبار المقصد من قبل الشارع الحكيم .

* العقل الإنساني ولئن كان دوره يتمثل في استيعاب الأحكام [ ص: 21 ] وكشف مقاصدها، وإجراء بعض الأعمال العقلية والمنطقية، على نحو ضبط العلل والتسوية بين المتماثلات والربط بين الوصف المناسب لحكمه وإدراج النوع بجنسه، وغير ذلك، فإن ذلك العقل ولئن كان كذلك، فإنه يظل قاصرا في ضبط جوهر المصالح وحقيقتها وكليتها وعمومها وضرورتها وتعارضها، ودليل ذلك اختلاف الأمم والجماعات والأفراد في كون هذا الأمر صالحا أو غير صالح، وحتى إذا اتفقوا على أنه صالح نافع فإنهم اختلفوا في درجات صلاحه ومسالكه وتباينوا تباينا كبيرا .

وحتى الأعمال العقلية التي يجوز للعقل تنفيذها فإنها ليست على إطلاقها، بل هي منضبطة بقيودها وضوابطها حتى تؤدي غرضها المطلوب .. فالتسوية بين المتماثلات تقع بناء على وصف أو علة جامعة معتبرة بحسب نظرة الشرع ومراده، وكذلك المناسبة بين الوصف وحكمه تحددت بموجب البيان الشرعي وليس بمقتضى العقل الإنسـاني، الذي لا يبـدأ دوره في عمـلية الإلحاق والقياس والتسوية إلا بعد علمه بأن العلة هي كذا بحسب موقف الشرع .

والعقول كذلك بينها تفاوت ملحوظ من حيث درجات الأداء ومراتبه، ومن حيث ذلك الأداء نفسه، فمعلوم حسا وبداهة تفاوت أولي الألباب في فهومهم واستيعابهم ورسوخ علمهم وعمق خبرتهم وذكاء سليقتهم، وغير ذلك مما أكد اختلاف العقول وتباين مواقفها [ ص: 22 ] وتقييمها للأشياء، هذا فضلا عن ذوي العقول المعطلة كليا أو جزئيا كالمجانين والبله وغير البالغين والمدمنين ومن في حكمهم ممن ليس لهم أداء عقلي أصلا، فضلا عن حشرهم ضمن من تفاوتت درجات عملهم العقلي .

فإذا كان العقل هذا شأنه فإنه يلزم عندئذ بيان مقاصد ومصالح تتسم بالثبات والاطراد والانضباط والدوام، لنفي مواطن التغير والاضطراب والاهتراء، المتأتية بسبب اختلاف العقول وتباين النفوس وتعارض الميول والأمزجة والأهواء، ولعل ذلك هو الذي أوقع في فوضى الحياة وهرج الوجود أرباب الهوى والتشهي بسبب الاضطراب في بيان المصالح، وانفلاتها مما يضبطها ويحقق المقصود منها .

* الضوابط ثابتة باستقراء الأدلة والقرائن الشرعية، وإنكار الضوابط هو إنكار للاستقراء الذي ظل من العمليات المعرفية المنطقية، ومن المبادئ العلمية الإحصائية المعتبرة التي تلقاها العلماء والفلاسفة والخبراء على مر التاريخ البشري بالقبول والتأييد .

* إن المجتهدين يحتاجون إلى الضوابط لاستخدامها عند تعارض المصالح، فيقدمون القطعي على الظني والكلي على الجزئي، والحقيقي على الوهمي، ولن يكون ذلك حاصلا إلا بما أقره الشارع بصفة قطعية أو أولوية أو غير ذلك، فيعلم المجتهد أن درء المفاسد [ ص: 23 ] مقدم على جلب المصالح، وأن المصلحة المنتظرة لا قيمة لها إذا كانت مساوية للمصلحة الموجودة أو أقل منها، واختيار الضرر الأخف مقدم على الضرر الأثقل إذا تعلقا بأمر واحد، وأن مصلحة البدع في العبادة مصلحة متوهمة، وإن كان ادعاء صلاحها ظاهرا وملموسا إلا أنها في الحقيقة مخالفة للنصوص ومعارضة لمبدأ التعبد القائم على أن المعبود لا يعبد إلا بما شرع .

* العمل بالضوابط هو تأكيد لخاصية الوسطية الإسلامية، أي أنه توسط بين رأيين متناقضين متعارضين، بين :

- غلاة الظاهرية، الذين نفوا أن تكون الشريعة معقولة المعنى معللة بمقاصدها وعللها ومصالحها، وأن ظواهر النصوص كافية لمعرفة الأحكام، وأنه لا عبرة لما وراء ذلك من أقيسة واستصلاح وعرف واستحسان واعتبار المآل وغيره .

- وغلاة التأويل، الذين أفرطوا في العدول عن الظواهر، وبالغوا في التفسير المقاصدي، وعولوا كثيرا على ما وراء النصوص والأدلة من معان ومصالح من غير قيود وحدود، وبمنأى عن الشروط والضوابط، فشذوا عن منهج الاجتهاد الأصيل وأوقعوا أنفسهم في مزالق عقدية وفقهية جعلتهم محل قدح وذم ولوم .

فالتأكيد على الضوابط، هو وزن للمصالح بميزان الشرع [ ص: 24 ] ومعياره، الذي لا يتغير بتغير الأهواء وتعاقب الأزمان وتكاثر الأقضية، وتبصير لذوي الفقه والاجتهاد كي يتحلوا بأمانة النقل والعقل ويتشرفوا بحمل لواء الشريعة وتبليغها للأجيال صافية نقية دون إفراط أو تفريط، ينفون عنها انتحال المبطلين وتحريف الجاهلين وتأويل الغالين .

التالي السابق


الخدمات العلمية