الاجتهاد المقاصدي (حجيته .. ضوابطه .. مجالاته) [الجزء الثاني]

الدكتور / نور الدين بن مختار الخادمي

صفحة جزء
المبحث الثاني : المشكلات الطبية في ضوء الاجتهاد المقاصدي

الاستنساخ

أجمعت كل الآراء والموقف الفكرية والسياسية والقانونية على منع الاستنساخ البشري >[1] ، وعلى اعتباره من أخطر الكوارث العلمية وأفزع منتجات الحضارة والتقدم والنماء المعرفي التكنولوجي، وذلك لما سيئول إليه من نتائج مروعة وعواقب وخيمة على مستوى النظام الكوني ومنظومة الأخلاق والقوانين والأعراف الإنسانية العامة والخاصة. [ ص: 122 ]

فهو مميت للمؤسسة الزوجية وقاتل للمجتمع الإنساني، لإحداثه لأسلوب غريب في عملية التناسل والإنجاب، ولمعارضته الصريحة لمعاني المودة والسكن، والرحمة والتآلف، والإعمار والتنمية، وغير ذلك من المعاني والقيم التي تتربى لدى الناشئة، بموجب البناء الأسري والتماسك الاجتماعي، وليس بمقتضى آلية الاستنساخ وطريقة إخراج الناس في شكل علب ومصنوعات معملية مخبرية.

وهو موقع في إبادة مقصد حفظ النسب والعرض، ومفض إلى الفوضى الأسرية، والطوفان الاجتماعي، ومضيع لقيمة الأمومة والبنوة والزوجية وسائر القرابة الدموية والعلاقة الصهرية، التي بني نظام الكون وسنن الحياة على وفقها، ففي نظام الاستنساخ لا تقدر على معرفة علاقة المستنسخ بغيره لا على سبيل القطع ولا الظن، فكيف تقدر على فهم ما ترتب على ذلك من حقوق وواجبات وآثار قانونية وأدبية لازمة.

إن الاستنساخ مناف لقيمة التنوع الإنساني واختلاف الألوان والأشكال والألسنة،

قال تعالى : ( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ) (الروم:22) . وقد كان من أغراض التنوع المذكور تحقيق التمايز، وتحديد نوعية الأواصر الأسرية [ ص: 123 ] والاجتماعية والكونية، وإثبات الحقوق والواجبات، وإقامة العدل والأمن، والتفريق بين المتهم الحقيقي والمتهم الوهمي الذي قد يحمل نفس العلامات والشبه الذي يحمله المتهم الحقيقي، فماذا تنتظر من الأشخاص المستنسخين سوى التشابه والتماثل المضيعين للحقوق، الموقعين في الفساد والهلاك؟

إن الاستنساخ معارض لقيمة حقوق الإنسان وكرامته ومكانته بين سائر الكائنات والمخلوقات، فالإنسان الذي كرمه الله تعالى وشرفه بنعم الإيمان والإسلام، والحياة والعقل، سيستوي مع الفئران والضفادع والقردة الموضوعة في المختبرات والمعامل، لإجراء الاختبارات والتجارب عليها، ثم عرض نتائج ذلك لعامة الناس، لإدخالها في سوق المساومات والمزايدات، وفي دور السمسرة والمتاجرة، كما أنه سيتعرض إلى أبشع مذبحة في التاريخ وأرذل مجزرة، من خلال إماتة شخصه وعواطفه وأحاسيسه، وتدمير خصائص كيانه وسماته، وجعله كتلة من اللحم جامدة، ونسخة مطابقة للأصل، ليس لها من الفعل والكدح والمجاهدة والتعبد والتحرر والتوجه نحو قيم الله الخالدة سوى ألقاب جوفاء وشعارات خاوية وفارغة.

إن الاستنساخ موقع في توهم مضاهاة خلق الله تبارك اسمه، وفي ادعاء درجة مهمة من التخليق، كما سولت لهم نفوسهم تسمية [ ص: 124 ] الاستنساخ بالتخليق للدلالة على أنه قريب من الخلق - تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا - فأين هم من الخلق أو من بعض الخلق الذي تفرد الله ذو العزة والجبروت به، وأين هم مما أوهموا به ضعاف النفوس، ومغفلي العوام، ومرضى القلوب، ولعلهم يدركون ذلك جيدا ويقينا، إذ لم يسعفهم حظ النجاح بنسبة واحد في البليون، ولم يكن عملهم في الاستنساخ إلا باعتماد مواد مخلوقة وموجودة قبل خلقهم هم أنفسهم، والانطلاق منها بالتنسيق بينها وفق سنن الله وقوانينه، التي دعا الناس إلى إعمالها ومراعاتها، فهم مطبقون لأحكام الله، ومنفذون لأوامره اختيارا واضطرارا، ومقيدون بما فوضهم فيه خالق السماوات والأرض،

وصدق الله حين قال : ( والله خلقكم وما تعملون ) (الصافات:69) .

الاستنساخ النباتي والحيواني

نظر إلى الاستنساخ في دائرة النبات والحيوان على أنه ذو فوائد ومنافع مختلفة، على نحو الإكثار من المنتوج، وتحسين النوعية بأيسر الجهود وأقل التكاليف، وتحسين الأدوية كما ونوعا . إلا أنه وعلى الرغم من ذلك فإنه يظل محل حيطة وحذر وتريث في الحكم عليه وعلى آثاره ونتائجه، لتجنب ما قد يحدثه من أخطار خفية ومفاسد محتملة لا تظهر إلا بعد التجارب المتواصلة والمدد المتعاقبة، كما هو الحال في [ ص: 125 ] آفة جنون البقر، التي لم تعرف إلا بعد أن (وقع الفأس في الرأس ) .

فواجب العلماء والخبراء تحقيق أمر الاستنساخ النباتي والحيواني، وتدقيق وضعه وطبيعته، وبذل الجهد الأقصى لاستشراف آثاره ومآلاته، حتى لا يعود على الإنسان بوبال أعظم وخطر أعم مما ينتظر من فوائد ومنافع اقتصادية وصحية وبيئية، وأصل ذلك مقرر معلوم، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ويرتكب الضرر الأخف لدرء الضرر الأشد، وغير ذلك كثير.

قتل المريض الميئوس من شفائه

حكم العلماء قديما وحديثا بمنع وتحريم قتل المريض الميئوس من شفائه مهما كانت جسامة مرضه، ومهما تقدمت درجة إشرافه على الموت المحقق والهلاك الواضح والظاهر، وقد نظر في ذلك الحكم إلى جملة من المعطيات الشرعية والأسرار المقاصدية التي نوردها بإيجاز فيما يلي :

- إن أجلى حكمة لمنع القتل هو المحافظة على حق الحياة، الذي هو هبة إلهية عظمى لا يجوز لأي مخلوق أن يضعه تحت تأثير التلاعب والأمزجة والعواطف، فقد جعل الخلاق العليم الحياة حقا شرعيا وإنسانيا، يتصرف فيه وحده، بداية ونهاية، صحة ومرضا، وأمرا [ ص: 126 ] مقدسا لا يخضع للاستخفاف واللامبالاة، لذلك اعتبر قاتل النفس الواحدة كقاتل الناس جميعا .

- إن الآجال بيد الله تعالى، وإن دور الأطباء يتمثل في اتخاذ الأسباب والسنن التي توصل في الغالب إلى نتائجها ومسبباتها بحسب مشيئة الله تبارك وتعالى، وإن حكم الطبيب على صحة هذا المريض أو موته هو كذلك بحسب الظاهر والظن الغالب، وقد يكون بعض المرضى الذين يئس من شفائهم وحكم عليهم بالموت ممن لا ينطبق عليهم ذلك الحكم، فيكونون عرضة للتلاعب والإجحاف والتعسف والحرمان من فرصة الحياة، بموجب قرار إنساني قاصر ومتعجل وعام وأغلبي، وبمقتضى ادعاء وهمي لا فائدة فيه .

- إن تشريع هذا القتل ذريعة إلى الاستخفاف بصحة المريض، وطريق مفض إلى عدة أعمال وممارسات قد تتناقض مع شرف مهنة الطبيب وأخلاقياته الإنسانية النبيلة، ومع أيمانه المغلظة بأن لا يبيح سرا للمريض ولا يعطيه دواء قاتلا، ولا يؤذيه بأي نوع من أنواع الأذية، ماديا أو معنويا، بل إن قصد قتله ليعد من أكبر الكبائر في عالم الجنايات والجرائم، هذا فضلا عن تنفيذ ذلك وفعله .

- إن تمكين المريض الميئوس من شفائه من أخذ حقه في العلاج [ ص: 127 ] حتى في الفترات المستعصية دون تدخل لوضع حد لحياته وآلامه، إن تمكينه من ذلك فيه فوائد كثيرة، منها :

- تعميق البـحوث والخبـرات والتجـارب الطبية التي ستحقق بلا شك التطور الطبي المنشود، إذ إن البقاء مع المريض ومعاشرته وبذل الجهد لإنقاذه حتى في الحالات التي يظن أنها مستحيلة الشفاء والآمال، كل ذلك قد يخدم المجال الطبي، وقد يجعل من قطعيات اليوم ظنيات الغد، فيصير المرض الذي اعتبر اليوم هلاكا محققا مفضيا إلى الموت داء عاديا سهل العلاج غدا .

_ تعميق معاني المواساة والتضـحية والصبر والوفاء والتضامن بين أهل المريض وأبناء المجتمع، فيتماسك المجتمع وتتكامل جهوده وتزدهر حضارته.

أما إذا شرع هذا النوع من القتـل ذاته، فإنه سيكون طريقا سهلا للفرار من الواجب الإسـلامي والأدبي إزاء المريـض من قبل أهله وذويه، وهو في حاجة ماسة إلى عطفهم ومعاناتهم، هذا فضلا عما سيكتب لهم من الأجر والثواب والجزاء الحسن عند الله تعالى نظير صبرهم وتضحياتهم.

_ إعطاء المريض فرصة للخروج من الدنيا بأقل الذنوب [ ص: 128 ] والأوزار، وذلك بما يعانيه من الآلام المخففة للذنوب والعذاب، فقد ورد أن المريض أو المحتضر الذي يصارع آلام السقم أو النزع، له من الأجر والخير العظيمين في الدنيا والآخرة، لكن لا ينبغي أن يفهم هذا على أنه تنويه بالعذاب وحث عليه، ولكنه واقع لا محالة.

زرع الأعضاء

التبرع بالعضو والتوصية به قبل الموت قصد الانتفاع به، بزرعه بدل عضو معطل، أو التعلم به، أمر اختلفت فيه أنظار الفقهاء، فمنهم من أجازه لما فيه من المصالح الشرعية المقررة، ومنافع الاستفادة من العضو تعلما أو استعمالا، مع وجوب استيفاء الشروط الضرورية الشرعية لذلك، والتي منها : أن لا يؤخذ العضو من الميت إلا بعد تحقق وفاته، ولا من الحي إلا بعد التأكد من عدم ضرره عليه، ويرجى يقينا نفعه لمن سيزرع له هذا العضو >[2] ومنهم من منعه محافظة على حرمة الميت وكرامته، وبناء على أن الجسم ملك تعالى لا يجوز التصرف فيه بالبيع أو التبرع أو غير ذلك العضو >[3] وعلى أي حال، فإن القول بجوازه أو منعه مبني في جزء [ ص: 129 ] كبير منه على مراعاة المقاصد والالتفات إليها والتعويل عليها في الجواز أو المنع.

نقل الدم

وهو نقل الدم على سبيل التبرع من شخص صحيح إلى من يحتاجه لإجراء عملية جراحية أو تعويض الفقر الدموي ونحوه، فهو جائز ومرغب فيه لما فيه من التعاون على البر والتقوى، وإدامة المعروف والإحسان، وإسهاما في إنقاذ النفوس من الهلاك والموت بسبب الحوادث والأمراض، فهو بهذا الاعتبار محقق لمقصد حفظ النفوس، ومقصد حفظ الدين من ناحية تربية الناس على معاني التعاون والمواساة والتضحية ودرء الأنانية والجشع، وتحبيبهم في أحكام الله ورسوله الداعية إلى فعل المعروف وإدامته.

بيع الدم

وهو الأمر الذي اختلف في حكمه، فمنهم من منعه لأن الدم المسفوح نجس، ولأنه جزء من أجزاء الإنسان التي يمنع بيعها لحرمتها وكرامتها، ومنهم من أجازه لما فيه من المنفعة المشروعة، وحتى لو كان نجسا فإنه لا يمنع بيعه بناء على جواز بيع النجاسات، إذا تعلقت بها مصالح ومنافع، على نحو بيع الزبل وسائر النجاسات التي تتخذ [ ص: 130 ] سمادا للأرض بغرض إخصابها، وكذلك يمكن أن يقاس على بيع لبن الآدمية في أصح الأقوال، وعلى أخذ الأجرة في العبادات كالإمامة والأذان ورعاية المساجد وغيرها، أضف إلى ذلك الضرورة القاهرة التي تحتم بيعه حفظا لمصالح الناس وإحياء النفوس، ولا سيما عند عزوف الناس عن التبرع والتطوع >[4] وهذا لا يغني عن حث الناس على فعل المعروف، وإدامة التطوع والإحسان، عوضا عن بيع الدم وأخذ عوض عنه.

الإجهاض في حالة الاغتصاب >[5]

من أبشع الجرائم والمنكرات الاغتصاب والتعدي على العرض الذي أقره الله تعالى أصلا مقطوعا به في كل الملل والنحل.

وقد تتعرض المرأة إلى تلك الجريمة البشعة ويتكون في بطنها جنين بسبب ذلك، فتبقى في حيرة لا نهاية لها وتظل في تردد بين إسقاطه وما يستـتبع ذلك من شعـور بإثم الجنـاية على مخلوق، وبين إبقائه وما يستتبع ذلك من شعور بالخزي، وحصول أمراض نفسية وجسمية

وحكم الإسقاط يختلف باختلاف مدة الحمل، فإذا كانت مدة الحمل أقل من أربعة أشهر يجوز الإسقاط على أساس أنه لم يتخلق، [ ص: 131 ] والمقصد من ذلك هو درء المشكلات النفسية والحالات المرضية للمعتدى عليها، وتمكينها من التخلص من آثار الجريمة البشعة.

أما إذا كانت مدة الحمل قد تجاوزت أربعة أشهر، فإن المرأة عليها أولا أن تتأكد طبيا قبل مرور هذه المدة من حملها مباشرة إثر اغتصابها، وعليها الإسقاط إذا تأكدت من ذلك الحمل قبل مرور الأشهر الأربعة، وإذا لم تتمكن من ذلك لعذر شرعي كحالة قيام الحروب، كما وقع في حرب البوسنة والهرسك ، وبلغ الجنين مائة وعشرين يوما، (فإن قواعد الشريعة تتسع لجواز الإسقاط كحالة من حالات الضرورة مع دفع الكفارة، والضرورة لها أحكامها >[6] "

وتدرك الضرورة في حالة الاغتصاب بأن المعتدى عليها تصاب - في الغالب والأعم - بمرض نفسي يؤدي إلى مرض جسماني قد يودي بحياتها، فإسقاط الجنين في هذه الحالة أخف ضررا من موتها .. وتدرك الضرورة أيضا من وجود طفل غير شرعي يحتاج إلى نفقة وإلى من يقوم بتربيته، ناهيك بأن المجتمـع المحافظ كمـا هو الحـال في المجتمعـات الإسلاميـة لا يقبل في الغالب وجود أطفال غير شرعيين، الأمر الذي قد ينتج عنه أضرار لهم أنفسهم وللمجتمع الذي يعيشون فيه >[7] [ ص: 132 ]

وإذا أرادت المعتدى عليها إبقاء جنينها ولم توجد ضرورة قاهرة وحرج أقصى، وجب عليها عندئذ المحافظة عليه ورعايته، وإخراجه إنسانا صالحا، (فالمسألة ليست مجرد رغبة جامحة أو استخفاف بمخلوق من مخلوقات الله، ولكنها مسألة ضرورة إذا وجدت جاز ارتكاب المحظور لدفع ما هو أكبر منه، وإلا فلا) >[8]

التالي السابق


الخدمات العلمية