القيم الإسلامية التربوية والمجتمع المعاصر

عبد المجيد بن مسعود

صفحة جزء
الفصل الخامس: أزمة القيم وإشكالية التخلف الحضاري

أسباب ومظاهر الأزمة

ظلت الأمة العربية الإسلامية متماسكة البناء الحضاري، متألقة في سماء الإبداع والعطاء، ممثلة نموذجا فذا للنظام الذي يحقق للإنسان إنسانيته ويحفظ له كرامته ويضمن له فعالية مطردة في مجالات التقدم، ولم يتحقق هذا إلا بفضل ذلك المنهج الحضاري الشامل، الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة مما يحتاجه الإنسان في مسيرته الحضارية إلا هيأه ووفره. وما هو قابل للاجتهاد بواسطة العقل، وضع له الضوابط الدقيقة التي تعصم العقل من الزيغ في حركته الاجتهادية، وبذلك وصلت الأمة الإسلامية قمة الازدهار وقمة العطاء... ولكن أتى عليها حين من الدهر، وجدت نفسها وقد ولى عنها ذلك المجد الزاهي، فرجعت القهقرى، وبتعبير آخر تخلفت وتأخرت، وحلت بها الأزمة.. فما هي الأسباب التي كانت وراء التخلف؟ وكيف السبيل إلى البعث الحضاري من جديد؟

أشير منذ البداية إلى أن هدف هذا الفصل ليس هو استعراض النظريات أو النماذج النظرية التي عالجت مشكلة التخلف -وهي كثيرة- والحلـول المقترحة من قبلها، فليـست طبيعة البحث وحجمه مما يتسع لذلك، بل كل ما سأحاول القيام به هو الإشارة إلى بعض [ ص: 142 ] الأسباب والآليات التي تحكمت في مسلسل التخلف حتى أحكم طوقه على العالم الإسلامي، وسأبدأ بتحديد بعض المفاهيم الأساس المستعملة في هذا الفصل:

مفهوم التخلف:

جاء في لسان العرب لابن منظور (مادة تخلف) ما يلي: (خلف الليث: الخلف ضد قدام (...) وجلست خلف فلان أي بعده (...) والتخلف: التأخر. وفي حديث سـعد: فخلفنا فكنا آخر الأربع أي أخرنا ولم يقدمنا، والحـديث الآخر: حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلفهم أي يتقدم عليهم ويتركهم وراءه، ومنه الحديث: ( استـووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ) (أخرجه مسلم ) ، أي إذا تقدم بعضهم على بعض في الصفوف تأثرت قلوبهم، ونشأ بينهم الخلف، وفي الحديث: ( لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) (متفق عليه) ، يريد أن كلا منهم يصرف وجهه عن الآخر ويوقع بينهم التباغض، فإن إقبال الوجه على الوجه من أثر المودة والإلفة.

إن مفهوم التخلف يتضمن أو يفترض وجود نموذج يجسد التقدم وآخر متخلف عنه، فمشيت خلف فلان يعني أنني تخلفت عنه، وتخلفت عن الركب يعني أن تخلفي يقاس بالموقع الذي يحتله ذلك الركب في المسار الذي يفترض السير فيه. ومن هذا المنطلق نجد كثيرا من الكتاب والباحثين الذين أثاروا قضية تخلف المجتمع العربي المسلم، يرون أن هذا المجتمع متخلف بالنسبة للمجتمع الغربي وقد خضعوا في [ ص: 143 ] نظرتهم تلك، للمقياس الذي أشاعه الغرب للتقدم والتخلف، وهو (اعتبار نموذجه ممثلا للتقدم، واعتبار نماذج بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية نماذج التخلف، ولم يقصر ذلك على الجوانب التقنية والعلمية والصناعية ومستويات المعيشة، وإنما مدها إلى القيم والأخلاق ومكونات الشخصية، فاعتبر نموذجه معيار التقدم وأخذ يقيس عليه النماذج الأخرى، التي ستعتبر متخلفة بالضرورة ما دامت وحدة القياس هي النموذج الغربي) >[1]

والواقع أننا عندما نحكم على أمة بالتخلف، لا بد لنا من مقياس نستند إليه في ذلك الحكم، ولكن الذي ينبغي أن ينعقد عليه يقيننا، أن ذلك المقياس ليس هو إطلاقا نموذج الغرب وحضارته المادية، وإنما هو النموذج الإسلامي المتكامل الذي تجسد على أرض الواقع ردحا من الزمان وأشع بأنواره على البشرية كلها، ولا يزال إلى الآن وإلى الأبد مثالا ترنو إليه الأبصار والعقول، التي تدرك المعنى الحق للحضارة والتقدم.. والسبب في ذلك واضح، وهو أن النموذج الغربي قد قام على أساس مادي صرف وعلى رؤية مبتورة لمفهوم التقدم مشتقة من رؤيته للكون والحياة والإنسان... وهي رؤية لا تحتل منها القيم الأخلاقية والفضائل التي تسمو بحياة الإنسان وتميزه عن الحيوان حيزا يذكر.

ومن هنا، وجب تحرير عقول المسلمين من ذلك الاقتران الخطير الذي درجت على استساغته، وهو الاقتران بين التقدم ومجتمع الغرب، [ ص: 144 ] غافلين كل الغفلة، عن أن ذلك الطراز من التقدم إذا وضع في ميزان الإسلام، سيكون مصيره الرفض، لأنه يهتم بإشباع حاجات الإنسان المادية، ويخنق فيه حاجاته الروحية، وهو في النتيجة والمآل سينعكف على منتوجاته المادية ويدمرها تدميرا، في غياب الحصن الأخلاقي الذي يحمي مكاسب الإنسان الحضارية ويصونها من الفساد.

إننا عندما نحلل مكونات الحضارة الغربية في ضوء ما سبق، ننتهي إلى وضعها في قفص الاتهام، بل إننا لا نتردد لحظة في وصمها بوصمة التخلف، لأنها بعيدة بأوضاعها وأجوائها عن الوضع الذي ينبغي أن يكون عليه الإنسان. فبينما وتائر الإنتاج المادي في تصاعد، إذ بالإنسان يمعن في الارتكاس حتى وصل إلى هذه الصورة البائسة التي نراه عليها اليوم من تمزق وانحلال وعبثية عمياء. ومن هنا فإننا عندما نتحدث عن التخلـف الحضـاري للأمـة العربـيـة الإسلامـية فلا يخطرن ببال أصحاب العقول الراجحة أننا نقيس الأمة الإسلامية على الحضارة الغربية، بل إننا نصف الأمة الإسلامية بالتخلف ونحن على يقين أن من أهم أسباب تخلفها الجري وراء نموذج الغرب، ومحاولة الاقتداء به والسير في ركابه ورؤية الحياة كما يراها هو، والاصطباغ بصبغته المادية التي حولت الإنسان إلى بهيمة سائمة، بل أضل سبيلا. إن في (مجتمعنا العربي (الإسلامي) أزمة، لا بل أزمات (....) يعبر عنها في الممارسات السياسية والاجتماعية، والاقتصادية والتربوية والخلقية، وتأخذ طابع الازدواجية في السلوك، والانحراف [ ص: 145 ] شبه الكلي عن أصالة المبادئ والقيم التي تنتمي إليها الأمة. والأزمة تلح علينا بصور عدة من زمن، ونراها تقعد وتهبط تبعا لمؤثرات كثيرة وأحداث متلاحقة، إلا أن حدتها قد اشتدت وأصبحت تنذر بشر مستطير (....) منه تدهور الأمة وانحلالها وانعدام أثرها وفاعليتها، واختزال دورها إلى مستوى هامشي لا يعتد به) >[2]

فهذه العناصر التي يتضمنها النص السابق، هي التي تشكل مظاهر الأزمة وبعض أسبابها الجوهرية.. وإذا كانت الحضارة تعرف بأنها: (ثمرة التفاعل بين الإنسان والكون والحياة) >[3] ، فإن سبب أزمة الحضارة لا بد أن يتمثل في الخلل الذي يحدث في العلاقة بين الإنسان والكون والحياة، تلك العلاقة التي تعود قواعدها وضوابطها إلى المنظور الذي ينظر من خلاله الإنسان إلى الأشياء. وفي الحالة التي نعالج الآن، وهي حالة المجتمع الإسلامي، يمكن أن نلاحظ، لدى تأملنا جيدا، أن انفصال ذلك المجتمع عن المحرك الذي أمده بقوة الدفع، فحقق ذلك النموذج الفريد وصاغ تلك التجربة الرائعة، هو سبب هذا الركود والهمود الذي أصاب الأمة الإسلامية. وهنا أحاول أن ألمح بعض الأسباب التي انتهت بالأمة الإسلامية إلى هذا التخلف الحضاري، بعد أن عاشت مرحلة من التماسك والقوة والمنعة، أخضعت فيها العالم وانتزعت منه الإعجاب. [ ص: 146 ]

رغم الضعف الذي بدأ في أوصال الأمة الإسلامية بعد سقوط بغداد وأفول نجم الدولة العباسية، إلا أنه بفضل قدرة الإسلام على الانبعاث والتجدد، وبفضل خزان المشاعر الإيمانية والحس الإسلامي الذي كانت تنضح به قلوب المسلمين، نهضت ممالك إسلامية ردت للإسلام هيبته وأعادت له صولته من جديد... وكان آخر معقل من تلك المعاقل متمثلا في الإمبراطورية العثمانية، التي (وقفت سورا منيعا في وجه أطماع الاستعمار في السيطرة على العالم طوال أربعة قرون تقريبا، ووحدت مناطق شاسعة من بلاد المسلمين، مما أعطى زخما في مقاومة الغزاة، كما كانت تشكل قوة في إبقاء راية الإسلام مرفوعة، على الرغم مما فيها من نواقص من وجهة النظر الإسلامية) >[4]

إلا أن هذه الإمبراطورية العنيدة أصابها الوهن ودخلها الضعف وانحرفت عن مسارها الصحيح منذ (عهد جمعية (الاتحاد والترقي) التي حكمت من 1908 وما بعد) >[5]

فانتهى بها الأمر إلى الهرم والسقوط من جراء الانحراف المذكور والمخطط الصهيوني الذي كان يحفر فيها بمعاوله الرهيبة، مستثمرا الحركة الطورانية الداعية إلى القومية التركية وانفصالها عن العرب.. وبعد سقوط الدولة العثمانية، وقعت الأقاليم التي كانت تنطوي تحتها، نهبا للاستعمار، الذي اغتنم ما سمي بتركة الرجل المريض.. لقد نهض الغرب واستخدم خيرات [ ص: 147 ] الأمة الإسلامية وقودا لنهضته، وحقق مكاسب وأنتج حضارة مادية براقة انبهرت لها العيون المعشاة، فكان من آثار ذلك الانبهار السقوط في مغبة التقليد والمحاكاة... فماذا كانت النتيجة بعد التجربة المريرة؟

(لقد أثبتت الوقائع أن الأرضية الغربية التي سادت في بلادنا تحت شعار (الحداثة) لم تأت لتحقق تقدما وتطويرا، لا على المستوى المادي، ولا على المستوى الثقافي والفكري، بل دمرت عوامل التقدم والتطوير حين حطمت مصادر الاستقلالية، وحولت الوطن الواحد إلى أوصال مقطعة وملحقة وتابعة. ورغم ذلك يقال للشعب: عليكم أن تتبعوا النمط الغربي، وتروا العالم ضمن رؤاه، وتتطوروا وفق مساره وسياقه) >[6]

والنتيجة الحتمية التي كان لا بد أن نحصدها من جراء هذا الدوران في فلك الغرب، هي التأرجح والمراوحة، (فلا نحن أبقينا صلاتنا المختلفة المنسجمة مع الماضي، تحت مظلة السنن الكونية للتطوير، وفي ميزان المنطق والعلم، ولا نحن حققنا شيئا من أمنيات اللحاق بنهضة تشبه نهضة الآخرين، بل بقينا... نتهارج ونتخاصم في سجن هذا المنعطف الثقيل...) >[7]

إن ما أصاب الأمة الإسلامية، فعطل طاقاتها، هو فقدانها (للجو الثقافي) -على حد تعبير مالك بن نبي- المثالي، الذي لا تتفتح الإمكانات إلا في ظله، ولا تزدهر البذور وتثمر إلا في تربته، تلك البذور [ ص: 148 ] هي عناصر الثقافة.. يقول مالك بن نبي، موضحا ضرورة ذلك الجو لقيام البناء أو المنهج التربوي اللازم لقيام الحضارة: (إن عناصر الثقافة تذوب في كيان كل من المجتمع والفرد، لتطبع أسلوب حياة الأول وسلوك الثاني، اللذين يجري التفاعل فيما بينهما بحيث لا يسمح المجتمع للفرد بالنشوز ولا الفرد للمجتمع بالانحراف، وهو ما يسمى بعملية النقد الذاتي، التي يعبر عنها الإسلام بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا الوضع عندما يزول، نصبح أمام أزمة ثقافية، تعبر عن نفسها في تعذر تركيب العناصر الثقافية في منهج تربوي) >[8]

إن هذا التعذر في تركيب العناصر الثقافية يقع ولا شك في المرحلة الثالثة من المراحل التي يمر بها المجتمع، والتي يرى مالك بن نبي أنها تتميز بتفكك في الغرائز يعوق هذه الأخيرة عن العمل في توافق وانسجام، ويسقطها في النزعة الفردية بحيث إن كل فرد يعمل لحسابه الخاص، مما يؤول بنظام الطاقة الحيوية إلى الاختلال وفقدان قيمته الاجتماعية، ويكون ذلك علامة على انسلاخه من مراقبة نظام الأفعال المنعكسة الناشئ عن عملية التكيف. وهذا ما يؤدي إلى تفسخ شبكة العلاقات الاجتماعية نهائيا (وهو ما يطلق عليه في التاريخ، عصر الانحطاط، كذلك العصر الذي هيئ في المجتمع المسلم في ظروف القابلية للاستعمار، والاستعمار) >[9] [ ص: 149 ]

لقد استطاع الاستعمار بمكره - واستفادته من قابلية المسلمين للاستعمار- أن يفتت بنية الشبكة الاجتماعية التي تحدث عنها مالك بن نبي من خلال مجموعة من المعاول التي أعطت أكلها المسموم، من قبيل العلمانية التي أضعفت سلطان القيم الإسلامية على نفوس أفراد المسلمين، فأصبحوا يسلكون في حياتهم اليومية منسلخين من تلك القيم التي تصنع التماسك في جسم المجتمع المسلم، (فكلما ظهر الوضع المدني أو العلماني في المجتمع، كلما ضعفت روح الأصالة في نفوس أصحاب الثقافة الوطنية أو الدينية، وكلما قوي الميل لديهم إلى تقليد من عداهم. وبذلك خف وزن القيم والمبادئ الإسلامية في المجتمع، وأصبحت أمور الدنيا وحدها -وبالأخص التطلع إلى الوظائف منها -ذات الإغراء وذات التأثير عليهم، كما هي ذات تأثير على غيرهم) >[10]

إن فقدان الأخلاق سلطانها على النفوس في مجتمعنا الإسلامي، كانت هي قاصمة الظهر التي أحدثت شرخا مهولا في البناء الاجتماعي، أي أنها علة مباشرة في التخلف الذي نعاني منه. ونضيف -ونحن بصدد الحديث عن العلمانية- أن هذه الأخيرة كانت هي أصل الانشطار إلى طوائف، الذي ضرب المجتمع الإسلامي بعنف، بحيث أصبحنا أمام مجموعة جديدة تتألف من العاملين في الإدارات والشركات والبنوك وهم الذين يطلق عليهم (العصريون) ، ومجموعة قديمة تتألف من أصحاب الثقافة الدينية تربط نفسها وتقصر حياتها [ ص: 150 ] على العيش مع تراث الماضي بعيدا عن حركة الحياة العصرية، يضاف إلى هاتين المجموعتين جماعة أو طائفة ثالثة تتكون من خريجي المدارس الأجنبية المعادين للإسلام >[11]

إن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) وهو يتعلق بتسوية الصفوف في الصلاة، يمكن أن نستلهم منه معاني رائعة في هذا الباب الذي نتحدث فيه، وهو يتعلق بوضعية البناء الاجتماعي وما يعتريه من حالة التخلخل والضعف.. نستطيع أن نستلهم من ذلك الحديث النبوي الشريف، أن المجتمع المسلم ما لم تتوحد قلوب وأفكار أفراده حول محور واحد وقبلة واحدة، فسوف تكون قلوبهم شتى، ويحدث الله التباغض بينهم، فيضرب بعضهم وجوه بعض.

إن هذه الفرقة التي عصفت رياحها العاتية ببناء الأمة الإسلامية، تعود إلى غرس خبيث ألقى الاستعمار بذوره في تربة المجتمع المسلم. وهو غرس الأنانية وحب الذات، أي الاتجاه أو النزعة الفردية التي جعلت الفساد والتصدع والانفكاك يدب في أوصال المجتمع.

وإذا تساءلنا عن الوسائل والقنوات التي استخدمها الاستعمار لتمرير مفاهيمه وتنفيذ برنامجه التخريبي، فإن أول وسيلة أمامنا هي التعليم والإعلام، فقد عمل الاستعمار من خلال هاتين الأداتين [ ص: 151 ] الخطيرتين على غسل العقول وإفراغها تماما من شحناتها الإسلامية التي تربطها بالعقيدة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، وملئها بشحنات جديدة تقيم رباطا مشوها بينها وبين حضارة الغرب، يتمخض عن نماذج بشرية غريبة.

إن جهود الاستعمار في تغيير معالم النظام التعليمي، أنتجت نظاما تعليميا غريبا وعقيما في نفس الوقت، فعلى سبيل المثال نجد أن (النظام التعليمي السائد في مجتمعنا، في تركيبه لما يسمى (المواضيع المدرسية) ، تفسير ضمني للدين ولموقع الدين، ولدوره في تربية الإنسان وحياته، كما هو أيضا تفسير ضمني للمعرفة ولتجزئة المعرفة في عملية تحصيلها، وفي عمليات توظيفها في حياة الإنسان. فهذا النظام الذي يفصل بين الدين والعلم، ويجزئ المعرفة، نظام نشأ في حضارة تفصل بين العلم والدين، وتجزئ المعرفة.. حضارة لا يقتضي الدين فيها معرفة عالم الطبيعة (عالم الشهادة) ، أو معرفة النفس على حقيقتها كأساس لمعرفة الدين، ولا يقتضي الدين فيها توظيف هذه المعرفة كأساس للإيمان أو لترويض النفس. فالعلوم الطبيعية ليست شرطا من شروط الإيمان فيها. ولذلك كانت هذه الحضارة منطقية مع نفسها عندما فصلت الدين عن سائر العلوم والمعارف) >[12]

كما أن الدين في المجتمع الغربي لا يقوم على غير الحوافز العاطفية، ولذلك فمناهج التربية الدينية فيه، تكتفي بالإثارات [ ص: 152 ] الوجدانية المجردة. والإسلام خلافا لذلك، ينبني في جملة عقائده ومبادئه على أسس ومقتضيات عقلية ثابتة، (يستنهض لفهمها المنطق والفكر. فلو استعرت للتربية الدينية عندنا تلك المناهج العاطفية المجردة، لباءت بفشل ذريع ولما أورثت نتيجة تربوية سليمة. ومعلوم أن البنية العامة لمناهج التربية الدينية عندنا مأخوذة من تلك الأسس والطرق التربوية المتبعة في الغرب) >[13] وهكذا تمكن الاستعمار من خلال نظامه التعليمي، أن يطمس معالم الوعي الإسلامي ويبلد الحس الإسلامي في نفوس الأفراد من خلال ما يلي:

1 - إضعاف روح الاعتزاز لدى المسلم وإحلال محلها الشعور بالنقص إزاء الغرب والسعي إلى التغيير -إذا وجد هذا السعي- وفقا للمفهوم الغربي.

2 - بث النزعة الليبرالية التي تتنافى مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أعظم ضابط لحياة المجتمع.

3- محاولة الاستعمار إسقاط بعض القيادات الفكرية في شباكه، واتخاذها معاول لإحداث الخرق، بل لتعميقه، داخل البنيان الاجتماعي المسلم >[14]

إن هذا الشر المستطير الذي اكتسح الأجيال المسلمة نتيجة للنظام [ ص: 153 ] التعليمي المسموم، قد عزز أيما تعزيز من طرف وسائل الإعلام، التي تملك من أدوات السحر والإيحاء والاستقطاب ما هو كفيل باقتحام النفوس المهزوزة، وإحداث أثره الهدام وبث سمه الناقع، فالرواية والقصة والفيلم...إلخ، كلها أدوات وقنوات تتضافر لتلتف كالأفعى حول فكر المسلم ووجدانه، ولا تنفك عنه حتى تتركه كالحطام.

هذه بعض أسباب ونتائج ومظاهر أزمة التخلف الحضاري في المجتمع الإسلامي، وقد تبين لنا أن البناء الحضاري بدأ يتآكل، نتيجة لنسف أسسه العقدية وما يرتبط بها من قيم تربوية تقوم عليها الشبكة الاجتماعية المتماسكة. فما السبيل إلى إعادة نسج خيوط تلك الشبكة بما يضمن عودة الفرد المسلم والمجتمع المسلم أقوى ما يكونان وأصلب عودا.. وبما يضمن تحصينهما من كل قوى الهدم والإفلاس؟ هذا ما سأحاول أن أجيب عليه في المحور التالي بإذن الله.

التالي السابق


الخدمات العلمية