القيم الإسلامية التربوية والمجتمع المعاصر

عبد المجيد بن مسعود

صفحة جزء
نتائج البحث

بعد وضع اللمسات الأخيرة لهذا البحث المتواضع -بتوفيق من الله- يجدر بي أن أجمل النتائج التي انتهى إليها:

1- إن الإنسان -مطلق الإنسان- محكوم عليه بالخسران والإفلاس، ولن يخرج من هذا الحكم إلا من تشبع بروح الإيمان الحق، وأثمر لديه هذا الإيمان عملا صالحا تصلح به الحياة وترشد معالمها. وتعبر سورة العصر أبلغ تعبير عن هذه الحقيقة. بعبارة أخرى، لن تزكو النفس الإنسانية وتمتلئ باتجاهات الخير إلا بحملها لقيم الخير والصلاح المنبثقة من دين الله الحق، الذي هو الإسلام. وهذا هو الجواب الحاسم على المختلفين حول هوية الإنسان، أخير محض هو بفطرته أم هو شر صرف على العكس من ذلك؟

2- إن بذر القيم التربوية التي هي قوام منهج الإسلام الشامل في نفوس الأفراد، هي الضمان لتحقيق أهداف التربية الإسلامية. ومن هنا فتحديد الأهداف لا بد أن يراعي صفة الشمول التي تكتسبها تلك القيم، بحيث تتكامل فيها النواحي العقدية مع النواحي المنهجية، وهذه مع النواحي الأخلاقية.. وفي غياب هذا التكامل، تذهب الجهود المبذولة هدرا وتنتهي إلى بناء مهزوز، وطريق مسدود.

3- ترتبط القيم التربوية في أمة من الأمم، ارتباطا صميما بثقافتها، وعليه فإن فصل القيم التربوية الإسلامية عن إطارها الثقافي السليم، ودمجها في مناخ من الازدواجية الثقافية، أو تركها تحت طائلة الغزو الثقافي، يعرضها للذوبان، وينزع منها الفعالية في صياغة الشخصية الإسلامية القوية وصنع الواقع الحضاري السليم. [ ص: 165 ]

4- إن الصراع بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية (بمفهومها الحضاري الشامل) ، لا بد أن يحتدم في الاتجاه الإيجابي الفعال الذي ينتهي إلى تحرير الثقافة الإسلامية والقيم المنبثقة منها، من أجواء الثقافة الغربية القائمة على أسس ومقومات مناقضة لأسس الإسلام ومقوماته، التي منها الربانية والثبات. فالثقافة الإسلامية تعبر عن قيم قائمة (على القيم الدينية والأخلاقية المستمدة من كتاب الله، ومن ثم فإن الهدف من مثل هذا اللون من ألوان التعليم هو بناء الإنسان المسلم، الراسخ الإيمان بالله، الذي لا يتعدى حدود الله، بل يحاول أن يفهم ظواهر الكون، خارجية أم داخلية، في ضوء قدرة الله سبحانه وتعالى القادر على كل شيء.. أما نظام التعليم الحديث، فإنه يحاول أن يفسر أصل الوجود وظواهر الكون التي يتعامل بها الإنسان في حياته اليومية دون الرجوع إلى الله، وإن لم يقل بذلك صراحة) >[1]

5- إن الوضعية المأساوية التي آلت إليها أحوال الثقافة الإسلامية، إنما مردها إلى افتقاد المسئولين عنها إلى ذلك الميزان الدقيق، الذي تضبط وتقاس به الثقافة الحقة من المزيفة.. وهذا الميزان الدقيق هو الذي يقوم على الربانية والوحدانية والإيجابية، والواقعية والثبات.. بجملة واحدة: الميزان الذي ينهض على منهج الإسلام.

6- (إن أزمة العالم الإسلامي -يقول مالك بن نبي - منذ زمن طويل، لم تكن أزمة في الوسائل وإنما في الأفكار، وطالما لم يدرك هذا العالم تلك [ ص: 166 ] الحقيقة إدراكا واضحا فسيظل داء الشبيبة العربية الإسلامية عضالا، بسبب تخلفها عن ركب العالم المتقدم، فعلى المربين في البلاد العربية الإسلامية أن يعلموا الشبيبة كيف تستطيع أن تكشف طريقا تتصدر فيه موكب الإنسانية، لا أن يعلموها كيف تواكب الآخرين في طرائقهم أو كيف تتبعهم) >[2] وهذا يعني أن المخرج من الأزمة المذكورة يكمن في تشرب القيم الإسلامية في أبعادها الشاملة من طرف الشباب، وفي خوض هؤلاء لمعركة الحياة، برؤية نقدية للواقع قوامها الحس الإسلامي.

7- وفي شأن القيم التربوية بين التطور والثبات، انتهى البحث إلى قناعة راسخة مفادها أن التركيز على قدرات الإنسان واستعداده الفطري لمعانقة الحقيقة، (نقل مهمة التربية نقلا جذريا وغير غاياتها تغييرا أساسيا. فبعد أن كانت مهمتها نقل ما توارثه الآباء والمجتمع، صارت مهمتها توفير ما يلائم فطرة الإنسان من نمو عقلي وخلقي ووجداني، وصارت غايتها كمال هذه الفطرة، وبهذا الانتقال ارتقت التربية (من منظور إسلامي) من ضيق وتعدد نسبية المجتمعات المختلفة، إلى تربية عالمية ترتبط بحقيقة الإنسان نفسه، أينما كان وفي أي عصر كان) >[3] وعلى هذا الأساس، فالقيم التي تحقق الانسجام مع الفطرة التي فطر الله عليها الإنسان، قيم واحدة ثابتة، وأن تطور الحياة إنما يحصل في إطار ذلك الثبات.

8- القيم التربوية لا تقوم على فراغ وإنما على أساس رؤية شمولية للكون، وبقدر ما تكون الرؤية كاملة في بنائها، منبثقة من العلم الشامل [ ص: 167 ] بحقيقة الإنسان والكون والحياة، بقدر ما يكون نسق القيم القائم عليها مستجيبا لأشواق الإنسان ولحبه العميق للحق والفضيلة، ومن هنا فكل نسق من القيم قائم على غير التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة، مصيره الفشل والسقوط... والواقع الذي عانته وتعانيه البشرية خير شاهد على هذا الأمر. والصـراع بين القيم التربوية الماديـة والقـيم التربوية الإسـلامـية، أثبت سقوط الأولى وذبولها كما أثبت تألق الثانية وارتقاءها، وأنها ملاذ الإنسان لتحقيق إنسانية سامية ومجتمع رفيع.

9- إن من خصائص التربية الإسلامية الممتازة ملاءمتها فئات البشر على اختلاف قدراتهم واستعداداتهم وملكاتهم، وهو ما اصطلح على تسميته بالفروق الفردية. فهذه الفروق تعبر عن نفسها في كل شيء، في القدرات العقلية، وفي الخصائص النفسية، وفي المقدار الذي تجنيه النفوس من القيم التربوية ومكارم الأخلاق، ولذلك كانت درجات الكمال متفاوتة. فالقيم التربوية الإسلامية هي وحدها التي تحقق التجانس بين الناس داخل إطار من الاختلاف ما داموا مجتمعين في ظل نسق واحد من القيم، متحركين من خلاله. أما القيم التربوية المادية ذات البعد الواحد، فهي تبدد طاقات الإنسان وتنهك قواه نتيجة إطلاق العنان لنوازع الشر فيه التي تعصف بكل شيء.

10- إن القيم التربوية التي تشكل قوام النظام التربوي، لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار والتقدير خصائص التصور الإسلامي للإنسان ولعلاقته بالبيئة حتى يتحقق التحكم في مسار النمو الإنساني على الوجه الإيجابي. فإذا كان غير المسلمين يتركون الإنسان ينجرف مع تيار [ ص: 168 ] التغييرات الاجتماعية، فإن المسلمين يقومون بتلك التغييرات (ويحكمون عليها في ظل الشريعة الإسلامية، وطبقا (للوحي الإلهي) (...) وبعبارة أخرى، فإن عالم الاجتماع المسلم يعتبر التغيرات الاجتماعية التي تتعارض مع الشريعة أمرا لا يتفق مع طبيعة الإنسان الأصيلة) >[4]

11- إن نسق القيم التربوية الإسلامية نسق فريد، وعندما طبق في دنيا الواقع أدى إلى صنع جيل فريد، صنع المعجزات وارتاد الآفاق، وإن الرجوع الصادق الحكيم إلى استلهام ذلك النسق كفيل بصنع أجيال تحاكي ذلك الجيل الفريد، وترتفع إلى مقام قيادة البشرية من جديد.

12- إن المصدر الذي تستقى منه القيم التي يقوم عليها النظام التربوي الإسلامي هو الوحي الإلهي، إذ العقل الذي تستند إليه المذاهب المادية الوضعية في ذلك ليس مبرأ من الهوى، فضلا عن كونه محدود الآفاق في علمه بحقيقة الإنسان والحياة.

وارتباط الأخلاق بالدين، قائم على أساسين: الأساس الأول: يتعلق بصحة ومصداقية الأخلاق الصادرة من الدين وملاءمتها للفطرة. والأساس الثاني: يتعلق بالشحنة القوية التي تتحرك بها الأخلاق عبر النفوس، والتي تستمد قوامها من مبادئ الدين.

13- لقد ظلت قيم الإسلام التربوية تؤتي أكلها بإذن ربها عبر عصور التاريخ الإسلامي، واستمر ذلك حتى في العصور التي وصفت بالضعف وخفوت جذوة الإسلام، إلا أن الضربات القوية والمتلاحقة التي تداعى لها المجتمع الإسلامي، إنما جاءت من الاستعمار الحديث [ ص: 169 ] وأدواته من استشراق وتبشير. وتجلى أبرز مظهر لجهود الاستعمار، في سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا.

14- إن خفوت جذوة الإسلام لا يعني انطفاءها، فمن أسرار الإسلام العظيمة قابليته للتجدد والانبعاث المستمرين، وتلك طبيعته التي لا تنفك عنه، ما دام في الأرض قرآن يتلى ويدرس، وقلوب مسلمة تتوق لرؤية شرع الله يطبق، وعقول وسواعد تجاهد من أجل ذلك.

15- القيم التربوية الإسلامية هي من الشمول بحيث يؤدي امتصاصها والتشبع بها إلى بناء الشخصية الفذة المتكاملة، المؤهلة لأن تفهم الكون والحياة من حولها، وتتخذ موقفا إيجابيا يرتقي بالحياة ويرشد مسارها في الاتجاه السديد الذي يرتفع بالإنسان إلى مستوى التكريم الإلهي، ذلك أن النسق القيمي الإسلامي لم يترك جانبا من جوانب الإنسان إلا أشبعه، ودفع به ليعمل في تناغم وتكامل مع الجوانب الأخرى، وصولا إلى تحقيق الإبداع والابتكار أولا، والحفاظ على ثمراته من الإتلاف ثانيا. والعكس تماما هو ما آلت إليه الإنسانية في ظل النسق المادي للقيم، حيث أدى الاختلال في التوازن داخل النفس التي صيغت بالقيم المادية، إلى إتلاف مكتسبات الإنسانية وتهديدها بالدمار.

16- إن من الحقائق البدهية، أن النظام القيمي الذي يشكل بناء الإنسان النفسي والعقلي، يؤثر على بناء الشخصية الفردية، كما يؤثر على كيان المجتمع والحضارة بوجه عام. فكلما كان النسق القيمي شاملا ومتكاملا ومؤسسا على علم دقيق بحقيقة الإنسان وأصله ووظيفته ومآله، كلما أدى إلى آثار إيجابية وبناءة على المستويات المذكورة [ ص: 170 ] الثلاثة.. وكلما كان النسق القيمي مليئا بالثغرات، قائما على جهل بالإنسان وقواه ووظيفته، كلما كان ذلك مفضيا إلى خلل فظيع، على مستوى الشخصية والمجتمع والحضارة.. والمقارنة بين النسق القيمي الإسلامي، والنسق القيمي المادي تبرز بوضوح هذه الحقيقة الناصعة، فالأول صنع نماذج شخصية رفيعة، ومجتمعا طاهرا، وحضارة إنسانية زاهرة، بينما الثاني تمخض عن نماذج شخصية مهزوزة، ومجتمعات مريضة مختلة، وحضارة منخورة عاهرة، وهنا تتجلى فداحة الجرم الذي يقترفه كثير من المسئولين عن التربية في البلاد الإسلامية، بترك نظامهم التعليمي نهبا لمفاهيم وتصورات وقيم الغرب.

17- إن سبب أزمة الحضارة لا بد أن يتمثل في الخلل الذي يحدث في العلاقة بين الإنسان والكون والحياة، تلك العلاقة التي تعود قواعدها وضوابطها إلى المنظور الذي ينظر من خلاله الإنسان إلى تلك الأمور، وإلى نوعية القيم التي توجه حركة الإنسان وتحكم سلوكه.. فانفصال ذلك المجتمع عن الطاقة التي أمدته بقوة الدفع، كان لا بد أن يدخله شيئا فشيئا إلى النفق المظلم، نفق التخلف والجمود.

18- (لقد أثبتت الوقائع أن الأرضية الغربية التي سادت في بلادنا تحت شعار (الحداثة) ، لم تأت لتحقق تقدما وتطويرا، لا على المستوى المادي، ولا على المستوى الثقافي والفكري، بل دمرت عوامل التقدم والتطوير حين حطمت مصادر الاستقلالية، وحولت الوطن الواحد إلى أوصال مقطعة وملحقة وتابعة) >[5] .. وأبرز مظهر لذلك [ ص: 171 ] التدمير، إتلاف الجو الثقافي السليم الذي نسجت في ظله خيوط الشبكة الاجتماعية التي قام عليها بناء المجتمع الإسلامي القوي.

19- يعتبر التعليم والإعلام معولين خطيرين، استخدمهما الاستعمار لتدمير العقول وإفراغ النفوس من القيم الإسلامية، وعلى سبيل المثال فالنظام التعليمي السائد من خلال تركيبه لما يسمى (المواضيع المدرسية) تفسير ضمني للمعرفة التي يفصل فيها الدين عن العلم والحياة.

20- إذا كان سبب تخلف وانحطاط المجتمع راجعا إلى تفكك شبكته الاجتماعية وذوبان عناصرها الثقافية، فإن المخرج من التخلف يكمن في إعادة بناء تلك الشبكة الاجتماعية.. والمدخل إلى ذلك البناء هو جعل الأمة تعيش المرحلة الروحية التي تكون فيها العلاقات الاجتماعية أكثر كثافة، وهو ما يعبر عنه القرآن الكريم بالبنيان المرصوص، كما يقول مالك بن نبي >[6]

21- تفسيرا للقناعة السابقة، نقول: إن المهمة الأولى التي ينبغي القيام بها لعلاج معضلة التخلف الحضاري، تكمن في تصحيح العقيدة في النفوس.. والمهمة الثانية تكمن في تصحيح القيم والمفاهيم الخلقية التي اكتسبت خلال عصور الانحطاط طابع السلبية والتثبيط.

والله ولي التوفيق وهو يهدي السبيل، والحمد لله أولا وأخيرا، والصلاة والسلام على المبعوث بشيرا ونذيرا. [ ص: 172 ]

السابق


الخدمات العلمية