صفحة جزء
المبحث الرابع: الطريقة المثلى في تدريس الفقه

اتبع المسلمون في تدريس العلوم الشرعية في العصور الماضية طريقة أصيلة، تقوم على أساس تحفيظ الطالب منذ الصغر متونا في علوم الشريعة: من عقيدة وأصول فقه ومصطلح حديث وفقه ونحو وصرف وغير ذلك، مما يشتمل على مبادئ العلوم وأساسياتها، بالإضافة إلى تحفيظ القرآن الكريم وبعض الأحاديث السهلة. ثم تدرجوا بالطالب في تعليم العلوم الشرعية إلى أن تتحقق له الملكات العلمية المطلوبة. وهذه هـي الطريقة المثلى في تكوين الملكات العلمية للطالب وتقوية الذاكرة عنده.

والطريقة التي كان يتبعها المدرسون للفقه في جميع المذاهب الفقهية أن يبدأ المدرس مع الطالب بتحفيظه مختصرا في فقه المذهب: مثل العمدة في المذهب الحنبلي لابن قدامة ، أو المنهاج في الفقه الشافعي للنووي أو مختصر خليل ، أو بداية المبتدي للقدوري . ثم ينتقل بعد ذلك إلى كتاب أوسع يحكي اختلاف [ ص: 132 ] الفقهاء في المذهب مثل: المقنع لابن قدامة ، أو المهذب للشيرازي . ثم ينتقل بعد ذلك إلى دراسة الكتب التي تبين أدلة الآراء المختلفة في المذهب: كالكافي لابن قدامة. ثم ينتقل بعد ذلك إلى دراسة الكتب التي تحكي مذاهب السلف والمدارس الفقهية المشهورة، وتذكر أدلتهم وما دار بينهم من منـاظرات ومحـاورات: كالمغني لابن قدامة، ومؤلفات ابن المنذر ، وابن حزم ، وابن تيمية ، وغير ذلك من مؤلفات أهل الإنصـاف الذين لا يتعصـبون لمـذهب من المذاهب ولا يقصدون إلا تقرير الحق وتبني الصواب. فإن المجتهد الطالب للحق ينتفع بها، ويستعين بأهلها، فينظر فيما قد حرروه من الأدلة وقدروه من المباحث، ويعمل فكره في ذلك، فيأخذ ما يرتضيه ويزيد عليه ما بلغت إليه قدرته ووصلت إليه ملكته >[1] . ولهذا قيل: (من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه) >[2] . كما قيل في حفظ المتون: (من حفظ المتون حاز الفنون) .

ولكن هـذه الطريقة انتقدت من العلماء من عدة وجوه:

الوجه الأول: انتقد الشوكاني التمذهب بمذهب واحد، ودعا [ ص: 133 ] المتفقهين إلى التفقه بعيدا عن هـذه المذاهب الأربعة >[3] .

والذي يدقق النظر في كلام الشوكاني يجد أن انتقاده هـذا كان رد فعل وقتي على التعصب المذهبي الذي استفحل في عصره في القرن الثالث عشر الهجري في اليمن ، فأراد أن يكسر حدة هـذا الداء بهذه الدعوة.

والحقيقة أنه لا مانع من دراسة الفقه على مذهب معين في بداية التحصيل العلمي، بحيث يكون الطالب بعيدا عن التعصب المذهبي; وذلك لضرورة التأصيل والتأسيس في الفقه.

الوجه الثاني: انتقد ابن خلدون اشتغال طلبة العلم بالمختصرات الفقهية، ورأى أن الملكة الناشئة عن تلك المختصرات تكون قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيـطة المطولة، بكثـرة ما يقع في المطولات من التكرار والأصالة المفيدين لحصول الملكة التامة، وأما المختصرات فهي تشتمل على العيوب التالية >[4] :

1- الإخلال بالفصاحة والبلاغة نتيجة إغراق المؤلفين في الاختصار.

2- صعوبة فهم تلك المختصرات، فعباراتها أشبه ما تكون بالألغاز. [ ص: 134 ]

3- ضياع وقت المدرس والطالب في حل المقفل وبيان المجمل.

4- عدم مراعـاة عقـل الطالب، فهي تشتـمل على غـايات العـلم، مما يصعب على الطالب المبتدئ فهمها، لأنه لم يعرف مبادئ العلم وأولياته.

5- لما كثر الإغلاق في اللفظ لجأ العلماء إلى الشروح والحواشي، ففات المقصود الذي لأجله اختصرت المختصرات، وهو تسهيل الحفظ على الطلبة.

والذي يدقق النظر في انتقاد ابن خلدون يجد أنه منصب على بعض المختصرات المشتملة على التعقيدات اللفظية في عصره: كمختصر ابن عرفة ، ومختصر ابن الحاجب وغيرهما مما يصعب على الطالب المبتدئ فهمها واستيعابها. أما المختصرات الواضحة الميسرة التي تؤسس الطالب في الفقه، وتبين له مقاصد العلم ورءوس مسائله فلا يشملها الانتقاد. ومما يؤيد ذلك أن ابن خلدون نفسه ذكر التدرج في التعليم حيث قال:

(اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج، شيئا فشيئا، وقليلا فقليلا، يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هـي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على [ ص: 135 ] سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه، حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هـيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانية، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هـنالك من الخلاف ووجهه، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن، فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شذا، فلا يترك عويصا ولا مهما ولا مغلقا إلا وضحه، وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته. هـذا وجه التعليم المفيد، وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث من تكرارات، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه.. وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته، ويحضرون المتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها، ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصـوابا فيـه، ويكلفـونه رعي ذلك وتحصيله، ويخلـطون عليـه ما يلقون له من غايات الفنون في مباديها، وقبل أن يستعد لفهمها; فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجيا، ويكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل، وعلى سبيل [ ص: 136 ] التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية، ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه، والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل، ويحيط هـو بمسائل الفن. وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات، وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له، كل ذهنه عنها، وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه، فتكاسل عنه وانحرف في قبوله، وتمادى في هـجرانه، وإنما أتى ذلك من سوء التعليم) >[5] .

بعد هـذا البيان الواضح من ابن خلدون ، لا يجوز أن نقول: إنه ينتقد طريقة المختصرات أو المتون في التدريس، وإنما ينتقد طريقة التأليف وعدم قدرة المؤلفين على تضمينها مبادئ العلوم ومقاصدها الأساسية التي يتطلبها عقل المبتدئ.

الوجه الثالث: انتقد بعض المعاصرين دراسة الاختلافات الفقهية، واعتبرها من الأمور التي تطمس معالم الدين الحق، وتخفي الشرائع المنزلة أو تكاد تخفيها، حتى لم يبق من الدين إلا بعض الرسوم البالية، والصور المزيفة النابية. وذكر بعض الأمثلة الفقهية من [ ص: 137 ] اختلافات الفقهاء >[6] .

والحقيقة أن اختلاف الفقهاء سعة في الشريعة، ومرونة في الفقه، وثروة فكرية وتشريعية لا يعرف قيمتها إلا من عايشها، وهو ليس اختلافا بين حق وباطل، إنما هـو وجهات نظر مختلفة ناشئة عن اجتهاد في النصـوص الظنيـة، يؤجـر صاحبه عليه، سـواء أصاب أم أخطأ. وهو يختلف عن الاختلاف في العقيدة من حيث الجدل والمناظرة، فأجمع العلماء على جواز الجدال في الفقه والتناظر فيه; لأنه يحتاج إلى رد الفروع إلى الأصول >[7] ، وتصحيح الأدلة ووجهات النظر، أما الجدال في العقيدة فلا يجوز; لأنه يئول إلى الانسلاخ من الدين >[8] . [ ص: 138 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية