الترويح وعوامل الانحراف (رؤية شرعية)

عبد الله بن ناصر السدحان

صفحة جزء
الاتجاهات والعوامل الاجتماعية المفسرة للانحراف

>[1]

أولا: الاتجاهات الاجتماعية المفسرة للسلوك المنحرف

يتـجه الـدارسـون للسـلوك المنـحرف لتفسـيره انطـلاقا مـن تخصصاتهم العلمية، فعالم النفس ينظر ويفسر ذلك السلوك من الزاوية النفسية البحتة، وكذا عالم القانون في تفسيره للسلوك المنحرف، إذ ينظر إليه من الزاوية القانونية، وكذا كل متخصص.

وحيث إن دراستنا هذه اجتماعية بالدرجة الأولى فإن منطلقها لتفسير السلوك المنحرف هو الجوانب والاتجاهات الاجتماعية التي حاولت أن تفسر هذا السلوك.. وكما هو معلوم فإن الاجتماعيين اهتموا بدراسة الجريمة بوصفها ظاهرة من الظواهر الاجتماعية، فالسلوك الإجرامي ما هو إلا إفراز من إفرازات المجتمع، ولقد تتابعت تلك الدراسات التي تربط بين ذلك السلوك الإجرامي وبين مكونات البيئة الاجتماعية المحيطة [ ص: 111 ] به، حتى تكون ما يسمى بالمدرسة الاجتماعية، على غرار المدرسة النفسية والمدرسة البيولوجية... إلخ.

ولقد كتب للمدرسة الاجتماعية أن تسود، ويصبح لها الأثر الواضح في تفسير السلوك المنحرف أكثر من غيرها من المدارس الأخرى، فهي أكثر انتشارا بين علماء الإجرام المعاصرين، خاصة في المدرستين الأمريكية والسوفيتية >[2] ، وهذا الانتشار الواسع لتلك المدرسة جعلها تفرز أكثر من اتجاه يتناول ظاهرة السلوك المنحرف بالتفسير، وأبرز تلك الاتجاهات:

1- الاتجاه الثقافي (الاختلاط التفاضلي) .

2- الاتجاه الاقتصادي.

3- الاتجاه البيئي (الأيكولوجي) .

4- الاتجاه التفاعلي (الوصم) .

(1) الاتجاه الثقافي (الاختلاط التفاضلي)

يعتبر العالم الأمريكي (أدوين سذرلاند) رائد الاتجاه الثقافي بنظريته التي أخرجها في عام 1939م، في كتابه مبادئ [ ص: 112 ] علم الإجرام، وتعد تلك النظرية من أكثر النظريات الاجتماعية شهرة في علم الإجرام، ذلك أن النظرية بنيت على تحليل نفسي اجتماعي لطبيعة بيئة الجماعة وأثرها على سلوك أفرادها، إضافة إلى أنها تتضمن صياغة منطقية ترتيبية لسلسلة من العلاقات الاجتماعية المتبادلة بين الأفراد >[3]

فهذه النظرية تنظر للفرد على أنه جزء من جماعته التي ينتمي إليها، وبالتالي فهو يتبنى كل مواقفها وتصرفاتها واتجاهاتها، ومن هنا فهو يتعلم كراهية القانون أو عدم احترامه من خلال نظرته لموقف جماعته من هذا القانون، فكراهية جماعته للقانون أو عدم احترامها له تجعل الفرد يخالف القانون كلما سنحت له الفرصة، انطلاقا من تصوره أن هذا الفعل مألوف لدى جماعته وغير مستهجن.. وعلى العكس من ذلك قد يتربى الفرد على احترام القانون وعدم مخالفته إذا كانت جماعته التي ينتمي إليها تحترم ذلك القانون ولا تخالفه، ومن هنا تتضح حالة التفاضل بين احترام القانون أو عدم احترامه.. وتتوقف تلك الحالة التفاضلية من قبل الفرد على نوعية وماهية [ ص: 113 ] التركيب الاجتماعي الخاص بكل جماعة، ومواقفها بالنسبة للقانون، ومدى احترامها له من عدمه >[4] .

ويقدم (أدوين سذرلاند) نظريته على صورة تفسيرية للعملية التي تؤدي بالفرد إلى السلوك الانحرافي، من خلال تسعة منطلقات أساسية، هي >[5] :

1- السلوك الانحـرافـي يكتسبه الفرد بالتعليم ولا يورث، فالفرد الذي لم يتـدرب عـلى الجريمـة لا يفـعل الجـريمة ابتداء مـن نفسه، مثله مثل الفرد الذي لا يتعلم الميـكانيكا فإنـه لا يستطيع أن ينتج أي مخترع ميكانيكي.

2- تتم عملية تعلم السلوك الانحرافي بالاتصال الاجتماعي وبالتفاعل بين الفرد وأشخاص آخرين في المجتمع، وقد يكون هذا الاتصال لفظيا بالقول، وقد يكون بالإشارات أو الحركات ذات الدلالات المتعارف عليها.

3- تتم عملية تعلم السلوك الانحرافي في وسط الجماعات التي [ ص: 114 ] يكون بين بعضها بعضا علاقات متينة، تهيئ الاتصال الشخصي المباشر بين أفرادها بدرجة كبيرة. وفي هذا إشارة إلى أن وسائل الاتصال العامة لا تؤدي دورا كبيرا في تكوين السلوك الانحرافي، باعتبار أنها ليست وسائل اتصال شخصية مباشرة، بل وسائل اتصال عامة.

4 - عملية تعلم السلوك الانحرافي لدى الفرد تشمل جانبين اثنين:

أ- فن ارتكاب الجريمة ويشمل: التخطيط، التحضير، وطرق ارتكابها، ووسائل إخفائها، بغض النظر عن تعقيد تلك العملية أو بساطتها.

ب- الاتجاهات الخاصة للدوافع والميول التي تقود الفرد إلى السلوك المنحرف، وإلى التصرفات الإجرامية، والتبريرات التي تعطى لهذه التصرفات.

5 - تتم عملية تعلم الاتجاه الخاص للدوافع والميول من الأشخاص الذين يحيطون بالفرد، واتجاهاتهم نحو نصوص القانون من حيث مناسبتها أو عدم مناسبتها، ففي بعض المجتمعات قد [ ص: 115 ] يحاط الفرد بأشخاص يرون وجوب احترام نصوص القانون، وقد يحاط في مجتمع آخر بأشخاص يرون عدم الغضاضة في انتهاك القانون، والفرد في كلا الموقفين يتعلم ممن يختلط بهم، أما إذا كان هناك انقسام في الرأي بين الجماعة التي تحوط الفرد تجاه القانون، فهنا يبدأ الفرد يعيش الصراع الثقافي حول مدى مناسبة نصوص القانون من عدمه.

6 - يبدأ الفرد بالانحراف حينما تترجح لديه كفة آراء الجماعة التي لا ترى غضاضة في انتهاك القانون على كفة آراء الجماعة التي ترى احترام القانون.

7 - تتباين العلاقات التفاضلية نسبيا بحسب أربع عمليات:

التكرار، الاستمرارية، الأسبقية، والعمق.

فالتكرار: يعني كمية التعرض للموقف.

والاستمرار: يعني مدة ووقت التعرض للموقف.

والأسبقية: تعني الأقدمية عمريا في التعرض لذلك الموقف.

والعمق: ويرتبط بعدة أمور، مثل مكانة وأهمية النمط الذي يتعلم منه الفرد سلوكه. [ ص: 116 ] 8 - تتضمن عملية تعلم السلوك المنحرف كل الآليات التي يتضمنها أي تعلم آخر، وذلك يعني أنها ليست عملية تقليد مجرد.

9 - يعبر السلوك المنحرف عن حاجات وقيم عامة، ومع ذلك فإنه لا يفسر بهذه الحاجات والقيم، لأن السلوك السوي هو أيضا يعبر عن الحاجات والقيم نفسها.

ورغم أهمية تلك النظرية وما حظيت به من اهتمام من قبل العلماء بشكل لم تنله أية نظرية أخرى، إلا أنه وجه لها بعض الانتقادات من قبل العلماء، حيث طالب بعضهم بإدخال تعديلات أو إضافات إليها.

ومن أبرز هذه الانتقادات:

1- أنها أغفلت الإرادة الحرة للفرد، واعتبرته عاجزا عن التحكم في أفعاله، وأنه مجرد ترس داخل المجتمع الكبير الذي يعيش فيه، لا حول له ولا قوة.

2- توقفت عند حد القول: بأن الاختلاط بالمجرمين يقود إلى الجريمة، ولم تحفل بدراسة العوامل التي تدفع الشخص إلى ذلك [ ص: 117 ] الاختلاط، في الوقت الذي لم ينزلق غيره إلى عين السبيل >[6] .

3- منطق النظرية مؤداه اعتبار رجال الشرطة والقضاة والباحثين في علم الإجرام أشد الناس إجراما، بسبب اختلاطهم المستمر بأولئك المجرمين.

4- تستخدم النظرية عددا من المتغيرات مثل العمق، والتكرار، والاستمرار، المخالطة، والأسبقية، وهذه يتعذر قياسها علميا أو اختبارها تجريبيا >[7] .

5- تعجز النظـرية عن تفسير بعض أنـواع السـلـوك الإجـرامي، أو بمعنى آخر هي تصلح لتفسير الجرائم العادية أو المعروفة والتي يلـعب فيها التفكيـر والاعتقاد دورا أسـاسيا، ولكنها لا تصلح لتفسير الجرائم التي يلعب فيها الانفعال والصدفة الآنية دورا أساسيا >[8] [ ص: 118 ] 6- لا تدخل النظرية في اعتبارها الاختلافات بين الأفراد في الصفات الشخصية أو النواحي العضوية والنفسية والعقلية، وأثر ذلك على اختلاف تأثر الفرد بالمؤثرات الخارجية.

7- ارتكازها على عامل واحد في تفسير السلوك المنحرف.

2- الاتجاه الاقتصادي

يعتبر الجانب الاقتصادي في حياة الأمم المعاصرة عاملا أساسيا في تقدم أو تأخر الأمم، ولأهمية ذلك الجانب عده بعض الباحثين من أمثال (كيتليه) و (ميشيل فري) و (بونجر) و (سيرك بيرت) عاملا من العوامل المهمة الموجهة للسلوك الإنساني، ويؤثر عليه تأثيرا يلمسه كل دارس للسلوك الإنساني.

لذا لا غرابة أن يظهر من العلماء من يربط بين الانحراف السلوكي وبين التغيرات الاقتصادية المختلفة، مثل الغنى أو الفقر، وفترة الرخاء أو فترة الكساد الاقتصادي، أو البطالة.

وهناك من يرى أن الظروف الاقتصادية للمجتمع هي من أول الظواهر الاجتماعية التي وقف عندها المفكرون قديما وحديثا [ ص: 119 ] حين دراستهم لظاهرة الجريمة، ابتداء من فلاسفة اليونان وحتى العصر الحديث، إذ نالت الظروف الاقتصادية الحظ الأوفر من اهتمام الباحثين ودراساتهم.. ومن أوائل الدراسات الإحصائية لتأثير الظروف الاقتصادية على الجريمة تلك الدراسة التي قام بها (أدولف كيتليه) (Adolf Quetelet) >[9] .

ويفترض هذا الاتجاه أن هناك ارتباطا بين السلوك المنحرف والظروف الاقتصادية المختلفة، مثل حالة الفرد الاقتصادية، سواء الغنى أو الفقر وكذلك البطالة، وخروج الأحداث للعمل في سن مبكرة، وخروج الأم للعمل، وطبيعة النظام الاقتصادي في البلاد، إضافة إلى أنه مع تطور الأمم اقتصاديا وتنوع الجوانب الاقتصادية، يقوم المجتمع بفرض قوانين تحفظ النظام الاقتصادي وتوقـع العقـوبات على مخالفيها، وهذا مما يؤدي إلى ظهور جرائم جديدة >[10] .

وسنذكر كل جانب من جوانب الظاهرة الاقتصادية والعلاقة [ ص: 120 ] بينها وبين السلوك المنحرف.

فأصحاب هذا الاتجاه يرون أن للفقر دورا في رفع معدلات انحراف السلوك، خاصة في جرائم الأموال، والتسول، والتشرد، والدعارة في بعض صورها.. ويعتمد أصحاب هذا الاتجاه فيما ذهبوا إليه على نتائج العديد من الدراسات التي ظهر فيها أن غالبية مرتكبي السلوك المنحرف هم من ذوي المستويات الاقتصادية المتدنية.. ومن أبرز الدراسات في هذا المجال الدراسة التي قام بها العالم الإيطالي (فورنساري دي فيرس) عام 1894م، وشملت إيطاليا وإنجلترا وإيرلندا وجنوب ويلز، وشملت العديد من أنواع الجرائم، وانتهت إلى القول: بأن الفقر هو البيئة التي تتهيأ فيها كل الدوافع لارتكاب الجريمة >[11] .

وكذلك دراسة (سيرل برت) في إنجلترا عام 1933م، التي انتهت إلى أن غالبية العينة التي أجريت عليها الدراسة من الأحداث الجانحين كـانت تعيـش إمـا في أسـر شديـدة الفـقر أو فقيرة >[12] . [ ص: 121 ]

ويعزو أصحاب هذا الرأي السلوك المنحرف للفقر، من حيث إنه ينتج عنه عدم توفير المتطلبات الضرورية للفرد والأسرة، وكذلك انعدم العناية الصحية، وانقطاع الأبناء عن مواصلة التعليم، إضافة إلى (حرمان الأولاد من أسباب اللعب والتسلية في المنزل، وخروجهم إلى الشوارع لقضاء الوقت وقتله، والاختلاط بكثير من رفاق السوء، كما أنه قد يرغم الأطفال على ترك مقاعد الدراسة.. ونتيجة لهذا تتفشى الأمية بينهم، فيشبوا جهلاء لا يقدرون على تمييز النافع من الضار، والخير من الشر، والفضيلة من الرذيلة، وبذلك يكونون لقمة سائغة لتيار الانحراف والجنوح) >[13] .

وعلى الرغم مما سبق ذكره من ربط الفقر بالسلوك المنحرف، إلا أننا لا نستطيع أن نسلم بأن الفقر عامل رئيس لارتكاب السلوك المنحرف، بل هو عامل من العوامل المتعددة التي تؤدي إلى السلوك المنحرف، بدليل وجود الملايين من الفقراء يسلكون الطريق السوي رغم فقرهم، إضافة إلى وجود سلوك منحرف بين [ ص: 122 ] أفراد الفئة الغنية، وكما يذكر العالم (بيرت) : (إذا كان أغلبية المجرمين من الفقراء، فإن أغلبية الفقراء ليسوا من المجرمين) >[14]

يضاف إلى ذلك ظهور بعض الدراسات التي أثبتت عدم وجود علاقة بين الفقر والسلوك المنحرف، مثل دراسة الباحثة الإنجليزية (ماري كاربنتر) عام 1853م، التي انتهت إلى القول: بأن تأثير الفقر على الأحداث أقل بكثير من تأثير التكوين الثقافي والاجتماعي لآبائهم عليهم، ودراسة (شليدون والينور غلوريك) عام 1950م، التي أجريت على (1000) حدث (500 منحـرف، و500 غير منحـرف) ، وظـهر فيـها أن عـدد الفقراء من أسـر غير المنحرفين لا يختلف كثيرا عنه في أسر المنحرفين >[15] .

ويعتبر (سذرلاند) من أشد الناس الذين انتقدوا ربط الانحراف بالفقر، بل على العكس من ذلك يرى أن الانحراف مرتبط بالثـراء، إذ الأثريـاء لديـهم قـدرة على ارتـكاب الجريمة [ ص: 123 ] بما يملكون من نفوذ في المجتمع بسبب ثرائهم، وذلك مما يعينهم على إخفاء أمرهم عن السلطات.

كما يربط أصحاب هذا الاتجاه بين البطالة من جانب والسلوك المنحرف من جانب آخر، ويقصد بالبطالة هنا توقف الإنسـان عن العـمل سـواء أكان ذلك بسبـب أزمـة اقتصـادية أو صناعية طارئة، أو أن يكون السبب عائدا للفرد نفسه كأن يكون الفرد عاجزا أو غير مؤهل للعمل، ففي هذه الحالة نجد الفرد قد يتجه لارتكاب السلوك المنحرف نتيجة لعدم وجود مورد مالي يفي باحتياجـاته واحتياجات أسـرته، زد على ذلك ما تهيؤه البطالة للفرد من زيادة في وقت الفراغ لديه، بما يجعله مهيأ أكثر للانحراف والانزلاق في طريق الجريمة.

كما أنه قد يتجه أبناء مثل هذا الفرد للانحراف، (إذ يقل إجلالهم لأبيهم وقد صار عاجزا عن إشباع مطالبهم، وقد يعزفون عن الدراسة لعدم القدرة على شراء الكتب والنهوض بكافة متطلباتها، فلا يجدون غير أبواب العصابات يقرعونها بحثا عن كساء أو غذاء) >[16] ، كما أن البطالة تولد مشاعر الإحباط [ ص: 124 ] المتلاحقة نتيجة للعجز عن إشباع الحاجات الضرورية للفرد أو من يعولـهم، وتتـزايد تلك المشاعـر كلـما طـالت فتـرة البطـالة التي يعيشها.

ويربط أصحاب هذا الاتجاه كذلك بين خروج الحدث للعمل مبكرا والسلوك المنحرف، ذلك أن خروج الحدث للعمل مبكرا يعني حرمانه من الدراسة، وحرمانه بالتالي من الآثار الإيجابية التي يمكن أن تعود عليه من العملية التعليمية. كما أن العمل في بعض المهن كالعمل في المقاهي أودور اللهو، يؤدي إلى انحراف الحدث، بسبب احتكاك الحدث برواد تلك الأماكن التي تعتبر في الغالب أوكارا لتجمع المنحرفين.. وهناك بعض الدراسات التي توصلت إلى أن نسبة الجناح بين الأحداث الذين يعملون تفوق نسبته بين الأحداث الذين لا يعملون.

كما يربط أصحاب هذا الاتجاه بين خروج الأم للعمل وارتكاب الأبناء للسلوك المنحرف، وما يلي ذلك من إهمال الأم لدورها الأساس في هذه الحياة وهي تنشئة أولادها وتربيتهم؛ إذ أن خروجها إلى العمل سيقطع جزءا ليس باليسير من وقتها [ ص: 125 ] لأولادها، ويضعف من دورها المذكور مما يؤدي إلى تهيئة الظروف والبيئة المناسبة لقيام الأطفال بأعمال منحرفة، بالإضافة إلى أن خروج الأم للعمل قد يؤدي إلى الصراع والشجار بين الزوجين نتيجة لإهمال دورها الاجتماعي الأساس، وهذا الصراع والشجار يفسد جو الأسرة والعلاقات الزوجية مما يؤثر على الأطفال في تلك الأسرة.

ولهذا يؤكد (ناي) بعد دراسة ميدانية، أن هناك علاقة بين اشتغال الأم والسلوك الجانح.. كذلك أوضحت الدراسات التي أجريت في مصر أن نسبة المشتغلات من أمهات الجانحين أعلى منها بالنسبة للمشتغلات من أمهات غير الجانحين >[17] .

3- الاتجاه البيئي (الأيكولوجي)

استعار الدارسون لعلم الإجرام مصطلح الأيكولوجيا من علم البيولوجيا، وهو يعني صلة الكائن الحي بالبيئة المحيطة به.. ولقد بدأ استخدم هذا المصطلح كاتجاه في علم الاجتماع على يد العالم (بارك) وأتباعه في جامعة شيكاغو، فلقد تصور (بارك) المدينة، والمجتمع المحلي، والمنطقة، على أنها نوع من [ ص: 126 ] الكائنات الاجتماعية وليست مجرد ظواهر جغرافية مجردة.. فاهتم (بارك) بدراسة التغير الاجتماعي وسرعة حدوثه واتساع نطاقه وما ينشأ عنه من مشكلات وصراع ثقافي >[18] .

وعليه فإن هذا الاتجاه يدرس صلة الإنسان ببيئته الاجتماعية بجميع جوانبها الجغرافية والحضارية، وخاصة عند دراسة السلوك المنحرف وارتباطه بنمو المدن وتوسعها.. ومن هنا، فهذا الاتجاه يفسر السلوك المنحرف تفسيرا عمرانيا على أساس ارتباط السلوك الجانح بأوضاع تنشأ مع نمو المدن وتوسعها، نتيجة لهجرة الناس إلى تلك المدن من جميع الجهات، فيتكون فيها خليط من الثقافات، ومستويات مختلفة من الناحية الاقتصادية، وتنمو المدينة على أساس ذلك الاختلاف وذلك التباين بين النازحين، بل إن بعض العلماء أمثال العالم (كليفوردشو) ، ينظر إلى الجانح والجريمة على أنها نتيجة لا مفر منها مع توسع المدينة وامتدادها.. ويرى الأيكولوجيون أن المدينة تتوسع لتكون في النهاية خمس حلقات، أو أحزمة هي >[19] : [ ص: 127 ]

1- الحلقة الأولى: الوسط والمركز، حيث المؤسسات التجارية والمرافق الحيوية، ومقر أول مجموعة نزحت لتكون المدينة.

2- الحلقة الثانية: وتسمى المنطقة الانتقالية، وهي منطقة تدهورت بعد انتعاش ويعيش فيها الطلاب، والعمال، والمهاجرون الجدد، والمنحرفون، والمدمنون، وتجار المخدرات واللصوص.

3- الحلقة الثالثة: وتشمل أحياء بيوتها متشابهة، ويقطنها الموظفون وبعض أصحاب المهن.

4- الحلقة الرابعة: وتسمى ضواحي المدينة، وهي أقل ازدحاما ويقطنها أفراد الطبقة الوسطى في بيوت يملكونها.

5- الحلقة الأخيرة: ما بعـد الضواحي ويقطـنها الأثرياء في فلل واسعة.

ويحدد (كليفوردشو) منطقة الجنوح في المنطقة الثانية، والتي توصف بأنها المنطقة الانتقالية، وهي التي تكونت بعد انسحاب الأثرياء منها إلى الضواحي، ونزوح الفقراء إلى الداخل لانخفاض الإيجارات إضافة إلى تميز تلك المنطقة بكثرة الزحام، [ ص: 128 ] وقدم المباني، وعدم استقرار السكان.. كما قام (كليفوردشو) بتسجيل ثلاث ملاحظات عن منطقة الجنوح (الحلقة الثانية) وهي >[20] :

1- تظل معدلات الجنوح عالية رغم التغير السكاني السريع، وهذا يعني أن الجنوح جزء من التراث الأيكولوجي.

2- انخفاض معدلات الجنوح كلما ابتعدنا عن وسط المدينة.

3- تختص كل منطقة بنوع أو أنواع معينة من الجنح.

وأشار (كليفوردشو) - بعد دراسته الشهيرة مع بعض زملائه حول ظاهرة الجناح في مدينة شيكاغو- إلى أن (الظروف القائمة داخل هذه المنطقة -مناطق الجنوح- تجعل سيطرة المجتمع على أبنائه ضعيفة أوتضعف من أساليب الضبط الاجتماعي إلى درجة عدم التزام هؤلاء الأبناء بالامتثال للمعايير الثقافية المقبولة داخل المجتمع) >[21] ، ولعل ذلك عائد إلى طبيعة سكان تلك المناطق، إذ يقطنها خليط من البشر ومن الثقافات، إضافة إلى [ ص: 129 ] وجود المنحرفين والمدمنين وتجار المخدرات واللصوص فيها، وهذا يعني تأثر أبناء السكان فيها بالجو السائد في المنطقة.

إلا أن هـذا الاتجـاه أخذ عليـه بعـض المـآخذ التي قد تضعفه، وأهمها:

1- وجود عوامل أخرى قد تؤثر على زيادة الجناح في منطقة دون أخرى غير العوامل الأيكولوجية، مثل اختلاف عدد أفراد الشرطة في منطقة، ونوعيتهم، ودرجة متابعتهم للظروف الأمنية في الحي، ودقة ضبطهم لعملهم.

2- عدم تحديده للمنطقة الجانحة بوضوح، فهل هي المنطـقة التي يعيـش فيها الجانحون، أم هي المنطـقة التي يمارسون فيها نشاطهم الانحرافي، أم هي المنطقة التي قبض على الجانحين فيها؟

3- عدم تفسيره لوجود أفراد غير منحرفين في نفس المنطقة الجانحة التي حددها أصحاب هذا الاتجاه، إضافة لعدم تفسيره لوجود منحرفين في مناطق أخرى لا يعتبرها الأيكولوجيون مناطق جناح، مثل المنطقة أو الحلقة الرابعة [ ص: 130 ] أو الخامسة.

4- قصور الإحصائيات الرسمية التي استندت عليها بحوث أنصار ذلك الاتجاه عن الإحاطة بالنطاق الشامل للمدى الواقعي للجريمة، إضافة إلى عدم ثبات هذه الإحصائيات كأساس للمقارنة، والشك في صدق المقارنة بمقتضاها خلال فترات زمنية طويلة لا تتماثل خلالها الحقائق التي تتخذ أساسا للمقارنة >[22]

5- اعتمادها على عامل واحد في تفسير السلوك المنحرف، وإهمالها لتداخل وأثر العوامل الأخرى في تكوين ذلك السلوك المنحرف.

كما يلاحظ عدم انطباق ذلك التقسيم الذي توصل إليه الأيكولوجيون على المدن في دول العالم الثالث.

4- الاتجاه التفاعلي (الوصم)

يعد الأمريكي (إدوين ليميرت) من أبرز من يمثل هذا الاتجاه، الذي يرى أن الطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع الفرد [ ص: 131 ] المنحرف هي التي تؤدي إلى وجوده واستمراره في ذلك السلوك المنحرف، وما ذلك الانحراف إلا نتيجة تفاعلية بين فعل الفرد المنحرف وردود الأفعال من المجتمع تجاهه، وبتناميها في عملية تصاعدية تؤدي به في النهاية إلى استقراره في السلوك المنحرف، ومن ثم وصمه بتلك الوصمة أو الصفة التي تحمل مدلولا يتعارف عليه المجتمع، ويتعامل مع من يحمله على هذا الأساس، وعلى حيثـيات وإشـارات ومضامـين تلك الصفـة أو الـرمـز. وممـا لا شك فيه أن لتلك الصفة أو الرمز الذي يطلقه المجتمع على المنحرف أثرا في استمرار ذلك السلوك، وبناء عليه يتحول هذا التعامل من المجتمع مع الفرد الجانح من خلال إطلاق تلك الصفة أو الرمز إلى تدعيم ذاتي لذلك السلوك الجانح، (فإن إطلاق مسميات على السلوك هو فعل اجتماعي، ومثل هذا الفعل -شأنه شأن أي فعل اجتماعي آخر- يمكن أن ينمو ويتم الحفاظ عليه من خلال عملية التدعيم أو العكس) >[23] [ ص: 132 ] ونظرية الوصم تقوم على فرضيتين أساسيتين >[24] :

الأولى: أن الانحراف لا يقوم على نوعية الفعل وماهيته بقدر ما يقوم على نتيجته وما يوصف به الفاعل من قبل المجتمع.

الثانية: أن الانحراف عملية اجتماعية تقوم بين طرفين، الفعل الانحرافي من جانب، وردة فعل المجتمع تجاه هذا الفعل الانحرافي ووصمه بالانحراف من جانب آخر.

وتأسيسا على ما سبق، فإن أصحاب هذا الاتجاه يرون أن المؤسسات الإصلاحية مثل السجون ودور الملاحظة والتوجيه تلعب دورا كبيرا في إضفاء صفة الجنوح والانحراف والإجرام على أفرادها، ذلك أن من يودع فيها يوصف بأنه مجرم أو خريج سجون، وبالتـالي يصمه المجتـمع بتـلك الوصـمة التي لم تـأت إلا بسبب دخوله السجن أو دار الملاحظة، ومن هنا فإن المؤسسات من وجهة نظر أصحاب هذا الاتجاه لا تعمل على إصلاح من يدخلها بقدر ما تصبغه بهذه الصفة، ووصمه من ثم بالجـنوح أو الأجرام من قبل المجتمع، وبالتالي يتكرس فيه ذلك الانحراف [ ص: 133 ] نتيجة لتـلك الوصـمة أو الصفة التي يطلقها عليهم المجتمع. ومن ثم تصبح تلك الوصمة عقبة في سبيل إصلاح الفرد المنحرف أو تقويمه.

ويرى العالم الأمريكي (إدوين ليميرت) أن الجنوح يتم على ثلاثة مستويات >[25] :

أولا: الجنوح الفردي: وهو يظهر نتيجة الضغوط النفسية الداخلية النابعة من الفرد ذاته، ويكون تأثيرها على الفرد نفسه.

ثانيا: الجنوح الظرفي: وهو يظهر نتيجة التعرض لمواقف ضاغطة وعوامل آنية، بحيث لا تترك للفرد فرصة التفكير والاختيار.

ثالثا: الجنوح الاجتماعي: وهو يحدث على مستوى التنظيم الاجتماعي القيمي، أو التنظيم الثقافي الذي يرى السلوك المنحرف أسلوبا من أساليب العيش.

وهذه المستـويات الثـلاثة من الجنوح لا تحدث فجأة، وإنمـا [ ص: 134 ] لا بد أن يمر الفرد بعدد من المراحل وفق منطلقات وفرضيات تلك النظريات. فالفرد يرتكب الفعل المنحرف لأول مرة لينظر ردة فعل المجتمع، وبطبيعة الحال لا يمكن للمجتمع، أو على الأقل جزء من ذلك المجتمع، أن يتجاهل ذلك الفعل.. وردة الفعل تلك قد تكون استحسانا أو استهجانا >[26]

ولقد وضع (إدوين ليميرت) عددا من المراحل لتبلور واكتمال هذا الجنوح >[27] :

1- يرتكب الفرد انحرافه (الأول) كبادرة لاختبار ردة فعل المجتمع تجاهه.

2- حدوث ردة فعل المجتمع، وتتمثل في معاقبة الفرد على تصرفاته الانحرافية.

3- يكرر الفرد انحرافه ويكون بنسبة وبحجم أكبر من الانحراف الأول.

4- يقوم المجتمع بردة فعل وتتمثل في عقوبة الفرد على سلوكه المنحرف، ولكنها تكون بشكل أشد ورفـض أقـوى مـن [ ص: 135 ] المـرة الأولى.

5- يزداد الانحراف ويصاحبه شعور بالعداء والكراهية على الذين يمارسون العقاب معه أو رفضه.

6- تبدأ ردود فعل المجتمع الرسمية، وتأخذ شكلا جديدا بإضفاء صفة الوصم بالانحراف على الفرد.

7- يزداد الانحراف كرد مباشر ومجابهة للمجتمع الذي أعطاه صفة الانحراف ووصمه بها.

8- وفي هذه المرحلة، يقبل المنحرف صفة الوصم بالانحراف، مع محاولة التكيف والتوافق مع مركزه الاجتماعي الجديد كفرد منبوذ من المجتمع.

ولقد أضاف (هوارد بيكر) بعدا نسبيا لتلك المراحل، إذ أن العلاقة بين الانحراف وبين ردود فعل المجتمع تجاهه ليست علاقة ثابتة في كل الظروف والأزمنة، بل هي تختلف باختلاف الزمان والمكان الذي حدث فيه ذلك الفعل وردة الفعل، كما تختلف العلاقة أيضا باختلاف المجتمع الذي تصدر عنه ردة الفعل نحو الفعل الانحرافي؛ ذلك أن المجتمع قد يصف بعض الأفعال [ ص: 136 ] بالشذوذ وهي غير كذلك، ومن ثم تثبت الوصمة على صاحب ذلك الفعل، في حين يوجد أفراد منحرفون فعلا لكن لم تصل أخبارهم للمجتمع، ومن هنا فإن العلاقة بين الانحراف وبين ردة فعل المجتمع تختلف باختلاف المتغيرات السابقة >[28]

إلا أنه يؤخذ على هذا الاتجاه أنه لا يفسر كيف تنشأ بداية الانحراف، وإنما يفسر استمرار الفرد المنحرف في ذلك الطريق بسبب ردة فعل المجتمع.

وعليه فهذا الاتجاه قد يكون مناسبا لتفسير ظاهرة العود للانحراف والاستمرار فيه، وليس لنشأته وبدايته.

ثانيا: الأوساط الاجتماعية المؤثرة على انحراف الأحداث

تلعب الأوساط الاجتماعية دورا بارزا وذا أثر واضح في انحراف الأحداث أو استقامتهم، فالسلوك الإنساني ما هو إلا تفاعل تبادلي في الغالب بين الفرد ومجتمعه الذي يعيش فيه، بدءا من مجتمعه الصغير الأسرة، ومرورا بالمجتمع الأوسع، وتتماشى مع نمو الفرد، فعند التحاقه بالمدرسة تبدأ مؤثرات [ ص: 137 ] الوسط المدرسي بالتأثير عليه، كما تبدأ مؤثرات جماعات الرفاق مع نموه وتكوينه لعلاقات اجتماعية جديدة مع الأصدقاء سواء في الحي أو المدرسة، وخلال ذلك كله تلعب مؤثرات الوسط الاجتماعي في الحي دورا مهما في تشكيل سلوك الفرد، ويكون لذلك الوسط الاجتماعي في الحي أثره السلبي أو الإيجابي على سلوك الحدث، كغيره من الأوساط الأخرى.

ولقد أشار الإسلام إلى أهـمية الوسط الاجتماعي وأثـره على سلوك الفرد، ففي الحديث الذي يرويه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض؟ فدل على راهب، فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به المائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة! انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله عز وجل، فاعبد الله تعالى معهم، ولا ترجع إلى أرضك [ ص: 138 ] فإنها أرض سوء ) >[29]

فمن الحديث يتضح أن أسباب قيامه بعمليات القتل أنه يعيـش في وسـط اجتماعي سيئ، أصحابه يرتكبون المعاصي، ولا شك أن في مشاهدتهم ما يغري بارتكاب ما يأتون تقليدا لهم ومحاكاة لسلوكهم.

ولقد ركز دوركايم (DurKheim) وغيره من علماء الاجتماع على أهمية الوسط الاجتماعي في تفسير الجريمة >[30]

ذلك أن الوسط الاجتماعي ليس دوره فقط بناء الفرد، بل يتعداه إلى ضبط سلوك الفرد وجعله يتوافق مع قيم ذلك الوسط، ويقصد هنا بالوسط الاجتماعي: الأسرة، المدرسة، جماعة الرفاق، الحي، حيث تؤثر جميع هذه الأوساط على سلوك الحدث سلبا أو إيجابا.. وسنعرض بشيء من التفصيل لتلك الأوساط وبعض العوامل المكونة لها: [ ص: 139 ]

* الأسرة

تعد الأسرة المحضن الأساس الذي يبدأ فيه تشكل الفرد وتكون اتجاهاته وسلوكه بشكل عام، (فالأسرة) تعد أهم مؤسسة اجتماعية تؤثر في شخصية الكائن الإنساني، وذلك لأنها تستقبل الوليد الإنساني أولا، ثم تحافظ عليه خلال أهم فترة من فترات حياته وهي فترة الطفولة، وهي (الفترة الحرجة في بناء تكوين شخصية الإنسان كما يقرر علماء النفس، وذلك لأنها فترة بناء وتأسيس) >[31]

وإلى هذا أشار حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) >[32]

ففي البيئة الأسرية يشكل الأبوان الطفل، ويحددان اتجاهاته الرئيسة وهي الاتجاهات العقدية، فالأسرة تلعب دورا رئيسا ومهما في رسم شخصية الفرد وسلوكه وعقائده الباعثة على [ ص: 140 ] جميع السلوكيات المتنوعة. وفي الأسرة يتعلم الأطفال (التحكم في رغباتهم، بل وكبت الميول التي لا توافق المجتمع.. ومن هنا فإن أسس الضبط الاجتماعي تغرس بواسطة الوظيفة التربوية في محيط الأسرة) >[33]

لذا لا غرابة أن نلحظ اهتمام الباحثين في مجال انحراف الأحداث بالأسرة، وجعلها من المحاور الرئيسة التي تدور عليها أبحاثهم، في محاولة اكتشاف أسباب الانحراف والعوامل المؤدية إليه. ومما لا شك فيه أن الأسرة المفككة عامل رئيس في انحراف الأحداث وسلوكهم طريق الجنوح، ومحضن مناسب لتخريج أحداث منحرفين.

ولا يتوقف الأمر على الأسرة المفككة فحسب، بل إن الأسرة المستقرة اجتماعيا قد تخرج أحداثا منحرفين في حالة عدم اتباع السلوك الصحيح للتنشئة السليمة لأفرادها، (فقد تكون عملية التنشئة الاجتماعية في الأسرة خاطئة، ينقصها تعلم المعايير والأدوار الاجتماعية السليمة، والمسئولية الاجتماعية، أو تقوم [ ص: 141 ] على اتجاهات والدية سالبة مثل التسلط والقسوة، والرعاية الزائدة والتدليل، والإهمال والرفض، والتفرقة في المعاملة بين الذكور والإناث، وبين الكبار والصغار، وبين الأشقاء وغير الأشقاء، والتذبذب في المعاملة) >[34]

كذلك تدل الدراسات على أن الاختلافات بين الوالدين لها آثارها السلبية على الطفل، وتتمثل تلك الآثار في هروب الطفل إلى الشارع، أو انغماسه في أحلام اليقظة، وكل ذلك هروبا من الواقع الذي يعيش فيه >[35]

ويربط بعض الباحثين بين الأسر ذات العدد الكبير وانحراف الأحداث، كما يربط بين انحراف الوالدين أو أحدهما وانحراف الحدث، فيما تشير دراسات أخرى إلى وجود علاقة بين درجة وكيفية الضبط داخل الأسرة وبين ما يقوم به الطفل من انحراف، وليس على ذلك فحسب، بل وموقف الطفل نفسه تجاه هذا الضبط ومدى استجابته له من عدمه. [ ص: 142 ]

كذلك لا يمكن أن نغفل دور الأسرة في تكوين الاتجاهات الإيجابية، نحو كيفية قضاء وقت الفراغ، فكما يتعلم الطفل السلوك الانحرافي داخل الأسرة فكذلك يتعلم السلوك السوي من توجيه الأسرة نحو قضاء وقت الفراغ فيما ينفعه من عدمه، نتيجة تقليد الطفل لمن حوله فيما يمارسونه من أنشطة ترويحية. فلقد وجد (ناش) في دراساته أن 70% من ميول وهوايات أهالي مدينة نيويورك قد بدأت في المنزل، وأن 70% من هذه الهوايات أيضا ظهرت قبل سن الثانية عشرة، وهذا ما يؤكد على دور الأسرة ليس في حسن تربية الطفل وإكسابه المعايير السليمة المتوافقة مع المجتمع فحسب، بل تكوين اتجاهات إيجابية نحو استغلال وقت فراغه، مما يكون لديه إطارا وقائيا من الانحراف، من خلال استفادته من وقت فراغه بما يحقق له النمو المتوازن، وبما يحقق إشباع حاجاته النفسية والاجتماعية >[36]

ولعل من أبرز الدراسات التي أكدت العلاقة بين التفكك والانحراف، الدراسة التي قام بها العالمان الأمريكيان (شيلدون [ ص: 143 ] والينور جلوك) عام 1935م، وتوصلا إلى النتائج التالية:

1- إن أسر الأطفال الجانحين أكثر تبديلا لبيوتهم.

2- إن الأطفال الجانحين يعيشون في بيوت أقل ملاءمة من الناحية الصحية، وأكثر ازدحاما بالسكان.

3- إن غالبية الأطفال الجانحين لا يعيشون مع الوالدين، إما بسبب الطلاق أوالهجر بين الوالدين.

4- يتميز الأطفال الجانحون بعدم احترامهم لوالديهم، وعدم التزامهم بالقيم العائلية.

5- تتميز البيوت التي يعيش فيها الأطفال الجانحون بتفككها القيمي، وضعف الرقابة، وانعدام وجود أسباب التسلية والترويح داخل الأسرة.

6- إن عـائـلة الطفـل الجانح أكبـر نسبـيا من عـائـلة الطفـل غير الجانح >[37]

ومن الدراسات العربية في هذا الميدان الدراسة التي أجراها (وليد حيدر) >[38]

في الجمهورية العربية السورية، وظهر منها أن [ ص: 144 ] 55% من أفراد العينة البالغ عددهم (113) حدثا يعيشون في أسر مفككة إما بطلاق أو وفاة أحد الوالدين.

وكذلك الدراسة التي أجراها مركز أبحاث مكافحة الجريمة بالمملكة العربية السعودية >[39]

عام (1404هـ) ، وأظهرت ما يلي:

- كثيرا ما لا يسكن الجانح مع والديه.

- أم الجانح ليست في ذمة الأب.

- أم الجانح ليست الزوجة الوحيدة.

- أحد الوالدين أوكلاهما متوفى.

- في الغالب ليس الأب هو ولي الأمر.

وفي دراسة أخرى (تمـاضر حسون) اتضـح أن 78% من أفـراد العيـنة المنحرفة انحدروا من أسر تتميز علاقاتها بالاضطراب والتوتر >[40]

ونستطيع أن نقول: إن هناك علاقة طردية بين التفكك / [ ص: 145 ] الأسري من جانب وبين انحراف الأحداث من جانب آخر، وإن كانت ليست العامل الوحيد في تفسير الانحراف إلا أن لها دورا لا ينكر، ملموسا ورئيسا.

* المدرسة

تأتي المدرسة في المرتبة الثانية من حيث الأهمية في تنشئة الطفل، خاصة بعد أن عمم التعليم وأصبح إجباريا في سنواته الأولى في أغلب الدول، وتحملت المدرسة تعليم الصغار بالتعاون مع الأسرة من أجل توسيع مدارك الطفل وجعله يحب المعرفة والتعليم، مما أدى إلى بروز المدرسة كمؤسسة اجتماعية مهمة، لها أثرها الفعال في مختلف جوانب الطفل النفسية، والاجتماعية، والأخلاقية، والسلوكية، خاصة وأن الطفل في السنوات الأولى من عمره يكون مطبوعا على التقليد والتطبع بالقيم التي تسود مجتمعه الذي يعيش فيه، فهو يتأثر في الغالب بالجو الاجتماعي الذي يعيشه في المدرسة، لذا فإن المدرسة تعد عاملا عظيم الأثر في تكوين شخصية الفرد التكوين العلمي والتربوي السليم، وفي تقرير اتجاهاته في حياته المقبلة وعلاقته في المجتمع. [ ص: 146 ]

ومن هنا فإن المدرسة ليست محضنا لبث العلم المادي فحسب، بل هي نسيج معقد من العلاقات خاصة للطفل الصغير، ففيها تتوسع الدائرة الاجتماعية للطفل بأطفال جدد وجماعات جديدة، فيتعلم الطفل في جوها (المزيد من المعايير الاجتماعية في شكل نظم، كما يتعلم أدوارا اجتماعية جديدة، فهو يتعلم الحقوق والواجبات، وضبـط الانفعالات، والتوفيـق بين حاجـته وحـاجات الغير، ويتـعلم التعـاون، ويتعلم الانضباط السلوكي) >[41]

فالطفل يتعلم كل ذلك من خلال ما يتلقاه من علوم معرفية وما يكتسـبه من مخالطة رفاقه في المدرسة، فالمـدرسـة بالجملة لها أثرها الفعال في سلوك الأطفال وتوجهاتهم في المستقبل.. كما أننا ومن خلال المدرسة نستطيع أن نكتشف عوارض الانحراف مبكرا لدى الأطفال، مما يهيئ الفرصة المبكرة لعلاجها قبل استفحالها، مثل الاعتداء على الزملاء، أو السرقة من حاجياتهم، أو محاولة الهرب من المدرسة، أو إتلاف أثاث المدرسة، مما يعطي مؤشرا أوليا لوجود خلل في سلوكيات الطفل. [ ص: 147 ]

إن المدرسة (مسرح مكشوف يتم من خلاله رصد ومتابعة سلوكيات الحـدث، خصوصا أن مجتمع المدرسة يعد أكبر وأكثـر تعـقيدا من مجتمع الأسرة.. وبهذا فإن المدرسة تكون أول حقل تجريبي للحدث، يمارس فيه سلوكه بعيدا عن رقابة أسرته وأقربائه) >[42]

وتتحمل المدرسة دورا كبيرا في هذا الأمر، بل هناك من يرى أن ذلك من أهداف التعليم الأساسية، فمثلا نجد أن (برتراند راسل) يعد (أن من أهداف التعليم خلق وتنمية الاتجاهات التي يمكن لها أن تتيح للفرد استخدام وقت فراغه بذكاء) >[43] ، في حين يرى (وليم فونس) (أن وظيفة المدارس يجب ألا تقتصر على تنمية المعرفة، بل يجب أن تهتم إلى جانب ذلك بتنمية القدرات والمهارات للاستفادة منها في استثمار وقت الفراغ) >[44]

ويتأتى كل ذلك بتوعية الطلاب بأهمية وقت الفراغ، [ ص: 148 ] وتعريفهم بميولهم بعد استكشافها وتنميتها، مع توفير الإمكانات المناسبة لاستغلال وقت فراغهم بما يفيدهم وينفعهم، لذا لا غرابة أن نجد أن ميثاق الفراغ الدولي قد أفرد مادة خاصة لهذا الأمر، وأكد على ضرورة تحمل المدرسة لمسئوليتها في تعليم الأطفال والشباب المهارات الترويحية حتى يتمكنوا من الاستفادة من وقت فراغهم، لينعكس أثره على مستقبل الطفل.

ومن كل ما ذكر عن دور وأهمية المدرسة في حياة الطفل، يحتم علينا القول بضرورة المراجعة المستمرة لمناهج التعليم، لتواكب الحـاجات النفسيـة والاجتمـاعية للطفل وبما يتمشى مع العـصر الذي يعيـشه، مع التأكيد على دور المعـلم كفـرد في تكـوين شخصـية الطفـل وتطـويرها ورعايتها حـق الرعـايـة، بمـا يكفـل للطـفل التكيف الاجتمـاعي والنفـسي السليم، وبما يضمن له التوافق مع معايير المجتمع الذي يعيش فيه، ليصب في النهاية في قناة وقايته من الانحراف أو الجنوح.

* الحي السكني

ونقصد بالحي السكني هنا: المنطقة الجغرافية التي تقطنها الأسرة بجوار العديد من الأسر، وتتشابك فيها العلاقات [ ص: 149 ] الاجتماعية بين تلك الأسر وأفرادها تأثرا وتأثيرا.

لذا (فإن الحي يسهم في تزويد الفرد ببعض القيم، والمواقف، والاتجاهات، والعادات، والمعايير السلوكية، التي يتضمنها الإطار الحضاري العام الذي يميز المنطقة الاجتماعية) >[45]

ونستطيع أن نقول: إن للحي دورا قد يكون مكملا لدور الأسرة في توجيه الطفل، ويؤثر كل واحد في الآخر، فقد يكون داعما لما تقدمه الأسرة من سلوكيات معينة، بغض النظر عن ماهية هذا السلوك، وقد يكون هادما له، وذلك يتأتى من طبيعة الحي ومستواه الاقتصادي والاجتماعي.

فقد ربطت العديد من الدراسات بين طبيعة الحي وتأثيره على سلوك سكانه، ومن أبرز تلك الدراسات الدراسة التي قام بها الأمريكي (كليفورد شو) على خمسة من الأشقاء عرفوا بتاريخهم الإجرامي الطويل، وكيف كان للحي أثر بين في تكوين الجناح لديهم، فلقد كان حيهم -كما وصفه- يتميز بعدم التنظيم الاجتماعي، وأنه كان بيئة فاسدة شجعت هؤلاء الإخوة على الجناح، ذلك أن هذا الحي كان يحترم المجرم، ويرسم [ ص: 150 ] له شيئا من صور البطولة والرجولة >[46]

والحي الذي يساعد على الانحراف نجده يعطي شيئا من الشرعيـة على أعمـال المجـرمـين، ويصـورهـا بالصـورة البطـوليـة، مما يكون لدى الحدث في ذلك الحي مثالا وقدوة سيئة يحتذي بها، وتتشكل شخصيته على هذا الأساس. ومن هنا فالحدث يرى أن لا يمكن أنه يكون له منزلة في ذلك الحي إلا بتبني إحدى صور البطولة والرجولة التي ارتسمت في ذهنه، كصورة المجرم في حيه. حيث يبدأ في تتبع خطوات بطله المنحرف حتى يسقط في أخطائه، ويرتكب أعمالا ضد القيم والمصلحة العامة لحيه، فالطفل انحرف باتباعه بطل السوء، وهذا ربما لعدم وجود بطل الخير والصلاح الذي يرشده ويقتدي به في الحي نفسه.

وبالإضافة إلى ذلك لا نستطيع أن نغفل في هذا المجال الوسائل الترويحية المتـاحة للأطفال في الحي. فبعض العلماء يرى أن الجنـوح ما هو إلا سـوء استثمار الطفل لوقـت فـراغه، في ظل غيـاب الوسائل الترويحية الصحية المناسبة في الأحياء، مما يجعلهم يتجهون إلى بعض النوادي لتكون مركز تجمع والتقاء [ ص: 151 ] بالمجرمين، فتتكون لدى الحدث بلقائهم القدوة السيئة، ويحاول تقليدهم وتقمص شخصياتهم.

ومن هنا نجد شخصية الحدث تتشكل في الغالب بحسب سكان الحي، وبحسب مكانة الحي بين الأحياء على مستوى المدينة، وبحسب وسائل الترويح المتاحة فيه، (فالحي الذي تتوافق قيمه مع قيم المجتمع الكبير، يكون حيا سويا يهيئ للطفل جوا يكسبه الشعور باحترام النظام والقانون) >[47]

ولقد حاول بعض العلماء تصنيف تلك الأحياء المصدرة للجناح، والتي تعد مكان تفريخ للمجرمين، وعد منها سبعة أنواع هي:

1- الحي المزدحم بسكانه الفقراء، وتنتشر فيه الرذيلة.

2- الحي الفقير جدا، بحيث تصبح السرقات البسيطة وكأنها أمر طبيعي.

3- الحـي الـذي ينفـصل عـن المجتمع بفـواصـل طبيـعية أو اجتماعية. [ ص: 152 ]

4- الحي الذي يعيش فيه غير المتزوجين، ومن سماته الخليط السكاني غير المتجانس.

5- الحي الذي يغلب على سكانه الأقليات المتميزة عن المجتمع، بحيث يمتاز بعزلة اجتماعية.

6- الحي الذي يعرف عنه أنه مكان للرذيلة (البغاء، والقمار) .

7- الحي النائي، وهذه عادة ما تكون أقرب للريف وتكون ملجأ لاختفاء المجرمين >[48]

وأخيرا نستطيع أن نقول: إن الحي مرآة لساكنيه، فمن خلال الحي نستطيع أن نحدد معالم ساكنيه إلى حد كبير، مع التسليم أن ذلك الأمر ليس مطلقا، فليس كل ساكن في الحي السيئ هو إنسان منحرف، بل يتوقف ذلك على مدى تأثره بالمواقف الاجتماعية التي يعايشها في الحي، ودور الأسرة والمدرسة في غربلة تلك المواقـف التي يتعلمها في الحي سـواء كانت سلبـية أو إيجابية.

وبالجملة فالحي السيئ نستطيع أن نعتبره عاملا من العوامل التي تؤثر على انحراف الأحداث. [ ص: 153 ]

ونستطيع أن نتبين ذلك إلى حد ما من خـلال الاطـلاع على إحصاءات انحراف الأحداث في المملكة العربية السعودية، فـلـقد بلـغ عدد الأحداث المودعين دار الملاحظة بالريـاض، في عام 1411هـ، ممن يقطنون في الأحياء الشعبية قبل إيداعهم (566 حدثا) بنسبة 40%، في حين بلغ عدد الأحداث الذي يقطنون أحياء راقية قبل إيداعهم (214 حدثا) بنسبة 15% فقط >[49]

، ويتوزع البقية بين أحياء حضرية متوسطة، وأحياء ريفية، وسكان بادية.

وفي الدراسة التي أجراها (الربايعة) >[50]

على ثلاثة مجتمعات (الأردن، المغرب، السودان) وجد أن 30% من جيران من ارتكبوا جرائم سبق أن دخلوا السجن.. ويتضح الترابط بين الحي وساكنيه وأثره في إكساب الفرد السلوك المنحرف، إذا عرف أنه في الدراسة السابقة نفسها وجد أن 40% من العينة كانوا يزورون جيرانهم يوميا، و34% منهم كانوا يزورونهم أسبوعيا. [ ص: 154 ]

* جماعة الرفاق (الأصدقاء)

تتكون عناصر شخصية الطفل وسلوكياته بواسطة العديد من المؤثرات، وإن كانت الأسرة والمدرسة والحي من أبرز تلك المؤثرات، فجماعة رفاق الطفل وأصدقاؤه لا تقل في الأهمية عما ذكر، بل قد تفوق تأثيرات الأصدقاء تأثير العوامل السابقة، ذلك أن جماعة الرفاق تتيح (للحدث فرصة تحدي الوالدين من خلال قوة الجماعة الجديدة التي صار جزءا منها، التي تسانده في إظهار هذا التحدي) >[51]

، إضافة إلى شعـوره (أنهم يمـدونه بزاد نفسي لا يقدمه له الكبـار أوالأطفال... وبهذا تعـد طبقة الأقـران أحـد المصادر المهمة والمفضلة عند المراهقين للاقتداء واستقاء الآراء والأفكار) >[52]

ولقد أشار الإسلام لأهمية الرفقة والصداقة وأثرها في حياة الفرد في اكتساب القيم والسلوكيات والأفكار. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الرجل على دين [ ص: 155 ] خليله، فلينظر أحدكم إلى من يخالل ) >[53]

والخليل هو الصديق أوالرفيق، فإذا كان أثر الصديق يمتد إلى الدين فلا شك أن أثره في سلوكه واتجاهاته سيكون واضحا وبينا، هذا إذا كان واحدا، فكيف إذا كانت جماعة؟ فلا شك أن أثرها على الطفل أوالحدث سيكون أكبر.

ولا غرابة أن يكون لجماعة الرفاق كل ذلك الأثر، (فالانتماء هو أساس العيش في جماعة اللعب، وهو يتمثل بالقبول المطلق والولاء المطلق... فالطفل يتعلم في جماعة اللعب كيف يعيش في جو جماعي من نوع جديد، وفي إطار قواعد اجتماعية جديدة لا سبيل لمخالفتها) >[54]

وإلا نبذته الجماعة.

وإن كان بعض الباحثين يرى أن الحدث لا يصاحب إلا من يتفق معه في الميول الانحرافية، أو بينهما اتفاق سابق في الميول الانحرافية، وتشابه في العادات التي تؤدي إلى السلوك المنحرف. بل إنه من العسير أن يندمج الحدث السوي في جماعة منحرفة إلا إذا كان الاستعداد للسلوك المنحرف موجودا لديه. [ ص: 156 ]

ولعل هذا الرأي ينطبق على الأحداث الذين يختارون أصدقاءهم بمحض إرادتهم، ولكن كيـف بمن يجد نفسـه في بيئة يفرض عليه فيها جماعة الرفاق؟ كأن يكون رفقاؤه من أقاربه أو جيرانه.

وأصـدقاء الحـدث، نستطيـع أن نصنفهم إلى ثـلاثـة أصـناف رئيسـة، يختـلف تأثـير كل صنـف عن الآخر، وهـؤلاء الأصناف هم:

1- أصدقاء الحدث المماثلون له في السن.

2- أصدقاء الحدث الأكبر منه سنا.

3- أصدقاء من الأقارب والجيران.

ويختلف أثر كل صنف على الحدث في اكتساب السلوك المنحرف، فنجد أن أشدها خطورة وأكثرها تأثيرا على الحدث الصنف الثاني الذين يفوقون الحدث سنا، إذ يعتبرهم الحدث المثل الأعلى، ويرى أن انحرافهم بطولة، يسعى إلى تقليدهم والاقتداء بهم، وقد يتطور الأمر إلى استغلال الصديق البالغ للحدث في أمور عدة، من سرقة، أوترويج مخدرات، أو شذوذ جنسي، أو غيره من الانحرافات. [ ص: 157 ]

ولقد أوضحت بعض الدراسات والأبحـاث أن الفـرد قـليـلا ما يرتكب الجناح منفردا، ومن هذه الدراسات الدراسة التي قام بها (جلوك) على 500 طفل جانح، فوجد أن 492 حدثا منهم، أي ما نسبته 98.4%، لم يرتـكبـوا الجنـاح بمفـردهم، وإنما مشاركة مع آخرين >[55]

وكذلك الدراسة التي أجراها شو ومكاي (Shaw andMeKay) على 5480 حدثا منحرفا، فوجد أن 81.8% منهم ارتكبوا أفعالهم الانحرافية مع آخرين >[56] وفي الدراسة التي أجرها (حيدر) على المجتمع السوري، ظـهر أن 73% من الأحداث ارتكبـوا أفعـالهم الانحرافية بمشاركة آخرين >[57]

وفي المجتمع السعودي، نجد أنه في الدراسة التي أجراها (المطلق) على دار الملاحظة في القصيم، ظهر أن 73% من [ ص: 158 ] الأحداث قد ارتكبوا أفعالهم الانحرافية بمشاركة آخرين >[58]

وفي الدراسة التي أجراها (الربايعة) على ثلاثة مجتمعات (الأردن، المغرب، السودان) ، ظهر أن 40% من أفراد العينة ارتكبوا جرائمهم بالاشتراك مع آخرين، وتبين أن الأصدقاء يشكلون حوالي 78% من أعضاء هذه الجماعة >[59]

وبكل حال فتأثير جماعة الـرفاق ما هو إلا عـامل من العـوامـل الاجتماعية المـؤثرة في انحراف الأحـداث، لا يعمل إلا (بوجود عوامل أخرى مختلفة، تدفع الحدث إلى أن يجد في مثل هذه الرفقة تخفيفا لمتاعبه وصراعاته، ومن أمثلة هذه العوامل فقدان الرعاية الأسرية، أو الفقر الشديد، والإهمال الشديد، أو القسوة الزائدة) >[60] [ ص: 159 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية