دعوة الجماهير (مكونات الخطاب ووسائل التسديد)

الدكتور / عبد الله الزبير عبد الرحمن

صفحة جزء
المبحث الثالث: الزمانية والمكانية

لا يجوز أن يكون خطاب الدعاة خارج الزمان والمكان، وإلا كان خياليا في حقيقته أو مغاليا في المثالية يستبعد تحققه عند أقاصي الإحسان في وصفه، أو تمنيات وأشواقا لن يجد لها الدعاة أسباب الوصول والتواصل.

فالقرآن الكريم مع أنه خطاب أزلي وكلام الله القديم; إلا أنه نزل منجما مفرقا على الأحداث والأقضية والوقائع، راعيا الزمانية والمكانية، فتتنزل آيات بمكة وأخرى تتلى بالمدينة وبينهما آيات ترتل. وما ذلك إلا ليكون القرآن هو الخطاب القادر على متابعة أقضية الناس، ومعالجة مشكلات الأقوام، والشاهدة على الأمم، يتلو عليهم بالحق ما يوجه عقول أفرادها وقلوبهم، ويهذب نفوسهم، ويغرس فيها الخلق اللائق بأصحاب الرسالات.

فـقـد ظهـرت الحكم البليغات من تنجـيم القرآن بقـول اللـه عز وجل : ( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ) (الإسراء:106) ..

وبقول الله سبحانه وتعالى : ( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك [ ص: 87 ] ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ) (الفرقان:32-33) .

فالحكمة الأولى من تنجيـم القرآن وتفريق تنزيله ليقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس على مكث.. في كل حين يقرأ عليهم ما يسد حاجة ذاك الحين، وفي كل زمان يتلو عليهم ما يزيد أهله اقترابا إلى الحق.

والحكمة الأخرى أن يقرأ عليهم على مكث، يقذف به الحق على ما يشاع ويلقى من الأباطيل، ويفسر به ما يثار من شبهة أو ضلال: ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ) >[1]

وهكذا ينبغي أن يكون خطاب الدعاة لدى الجماهير والأقوام، يرعى الزمان والمكان، ليكون لكل زمان لسان، ولكل مكان أذان، ولكل حدث حديث، ولكل مقام مقال، ولكل مصاب جواب، ولكل داء دواء.

فالداعية الموفق هو ذاك الذي يتناسب خطابه بحال زمانه [ ص: 88 ] ومكانه، ولا يتخذ نموذجا قد طبع على حالة واحدة، وسياق ثابت، ومدلول متبلد على معنى معين، وهدف فرد، وهم فذ، وبلد معلوم، وفئة معينة، وطريقة محددة، وطريق لا يعرج ولا يدور.

وإنما يكون خطابه بحسب الزمان الذي يدعو، والمكان الذي يعيش، والنوازل التي تحدث، والقضايا التي تثور وتظهر. فليس الخطاب الذي يطلق في زمان الركود والرقود كالخطاب الذي يصدر في عهد اليقظة والنهوض.. ولا يصح أن يكون الخطاب أيام الاستضعاف والهوان كالخطاب أيام الاستعلاء.. ولا الخطاب حـال العـزة والتمـكـين كالخـطـاب في حـال الانهـزام والتبعـية.. ولا الخطاب في زمان الصحوة كالخطاب في زمان الغفلة.. ولكن لكل حالة خطاب يناسبها ويفل حديدها ويسد ثغورها.

فهم المرحلة والواقع

والداعية الفقيه هو الذي يكون خطابه الدعوي علاجا لقضايا المرحلة، وجوابا لمشكلات العصر الذي يعيشه والواقع الذي يتلبسه.

ولا بد أن تكون دعوتنا مرتبطة بواقعنا، ولا يجدي أن تتجرد الدعوة تنـظيرا تبـعـد عن ملامسة الـواقـع، تتـربع على الأذهـان ولا تنزل إلى أرض الناس. [ ص: 89 ]

فالداعية الناجح هو الذي يفقه المرحلة ويفهم العصر، فيحدد حاجاته، ويقف على سنن التغيير والمدافعة.. ولم يشم أنفه الفقه من لم يدخل عنصر الواقع في تقديراته.. ولا يأمل في إنجاح الدعوة كثيرا من لم يستصحب ملابسات واقعه وظروفه في كل تشخيصات ومعالجات أمراض أمته وعللها.

فالحق أن نواجه كل مرحلة بسلاح يناسبها ويفلها، بتقديم الأجوبة الكافية والأدوية الشافية لمستعصيات المرحلة وقضايا الواقع، لئلا يكون الخطاب فيما لا هم فيه، وحتى لا تكون الدعوة شاغـلة عن المـهـم، داعـيـة لهـامـشات الأمـور التـي لا تحـرس ديـنـا، ولا تقيم حدا، ولا تنفـذ شرعا، ولا تحيي قلبا، ولا تنقذ شعبا، ولا تفك رقبة، ولا توجه مسلما إلى طريق الحق، فيميل عن هم الدعوة والتمكين لدين الله بالتفاعل مع واقعه إلى الثرثرة والجدل والمراء.

ومما يؤسف له أن خطاب بعض الدعاة فقد الارتباط بالواقع وتعلق بأمور لا حاجة للمسلمين فيها، بقدر ما هو تضييع للأمة، وتهميش للقضية، وتهوين للدعوة، وتسفيه لأمر الدين الحق، وتشتيت لجهد الدعاة.

بينما العالم يتلوى بمحو شعب مسلم كامل على أيدي أعداء [ ص: 90 ] الفطرة من أنصار الإلحاد ويد أهل الصليب الباطشة بالبغي والعدوان في كوسوفا; والمسلمون تتقطع قلوبهم أسى وحسرة لذلك، بينما الناس -مسلمين ومشركين وكافرين وملحدين ويهود ونصارى- يتقلبون في لظى هذه الحالة، ترى واحدا يجمع الناس يحدثهم عن قضايا فرعية.. تماما كأهل بلد من المسلمين في زمان الاستعمار (الاستخراب) الصليبي الغاشم، كانت حلقات العلم تملأ المساجد هناك، ومسائل فقه الفروع لا تنتهي، والمستعمر الغازي على أبواب حاضرة الإسلام; وأحدهم يدرس بعض الفروع الفقهية أو فروع الفروع التي لا علاقة لها بإعداد الأمة لمواجهة ما يراد بها.

إذا أصبح الدعاة كهذا استحقت الأمة أن تستعمر.

ولهذا فإن فهم المرحلة وفقه الواقع أصل معتبر في الشرع، يؤيده تنزل القرآن على حاجات الناس والمناسبات، ويؤكده تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال العوائد، بناء على اعتبار المرحلة والواقع.

ولقد كان أئمة الفقه والدين ودعاة السلف الصالحين يخرجون [ ص: 91 ] الأحكام ويستصدرون الفتاوى ويصيغون خطاب الدعوة وخطبها بحسب ما يقتضيه الواقع وتمليه المرحلة. لذلك كان للإمام الشافعي فقهان: فقه قديم بناه على بيئة وحال وواقع أهل بغداد، وفقه جديد بني على بيئة مصر وحـال أهلـها وواقعهم، ومـا ذاك إلا لتغير واقع الناس في مصر عن حال أهل العراق، فبادر يخاطبهم بما يناسب حالهم وواقعهم .

فالمرحلة والواقع قد يؤثران على الأحكام والمواقف والقرارات والأهداف والاستراتيجيات، وبأثرهم ينقلب المفضول فاضلا والفاضل مفضولا، ولمصالحهما يصبح الراجح مرجوحا والمرجوح راجحا، وبفهمهما ينقض القرار وتتبدل المواقف.. وفي كل المقصد الأعلى هو السعي لتمكين دين الحق في الأرض.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذات المعنى: "والمفضول قد يكون أنفع لبعض الناس لمناسبته له، كما قد يكون جنسه في الشرع أفضل في بعض الأمكنة والأزمنة والأحوال.. فالمفضول تارة يكون أفضل مطلقا في حق جميع الناس... وقد يكون أفضل لبعض الناس، لأن انتفاعه به أتم.." اهـ >[2] [ ص: 92 ] وفي هذا الصدد يقول ابن القيم رحمه الله: لا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما : فهم الواقع، والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر.. فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله... ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبـه إلى الشريـعة التي بعث الله بها رسوله >[3]

.. فلا يتأتى إلا لمن فهم المرحلة وفقه الواقع مع فقه الدين.

وعلى هذا نعيد المقالة الذهبية: الداعية الحق هو الذي يزاوج بين الواجب والواقع، وبين التبليغ ومقتضيات العصر.. والداعية الموفق هو الذي ارتبط خطابه بزمانه ومكانه وبيئته وحال قومه وأهله. [ ص: 93 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية