المصطلـح (خيار لغوي وسمة حضارية)

سعيد شبار

صفحة جزء
المبحث الثاني: في التجربة المعاصرة

لا شك أن أجيال ما بعد الاستعمار الحديث عندما تقرأ هـذا الكلام تدرك بعمق وأسى أن هـذا هـو حال بلداننا من حيث تبعية لسانها للسان المستعمر والمحتل لها تماما كما قال ابن تيمية رحمه الله... بين أهل الدار، والرجل وصاحبه، وأهل السوق، والأمراء، وأهل الديوان -أو من في معناهم من أهل الإدارات والمؤسسات- يتم ذلك تحت مخدر ومنوم اجتماعي وثقافي نفسي، يمارسه المستعمر بدقة بالغة بما يمتلك من وسائل التوجيه والتأثير، وهو كون هـذا اللسان عنوانا ورمزا للحداثة والتقدم والحرية... وكذا الانتماء إلى الطبقات الراقية والأنيقة. في الوقت الذي يصبح فيه اللسان الأصلي تعبيرا عن تراث يمكن التفرج عليه مخطوطا على [ ص: 84 ] لوحات أو صفحات قديمة، أو منقوشا على صخر في المتاحف والمزارات، ورمزا للفئات الاجتماعية التقليدية الفقيرة والمتخلفة. فلكأنه التاريخ استدار دروته لينشر العجم لغتهم في البلاد التي نشر فيها الفاتحون الأولون لغة الإسلام العربية.

وعلى الرغم من أن المسلمين كانوا آنئذ في موقع القادر المتفوق، الذي يقود زمام الحضارة الإنسانية، وينشر العلم فيها، فإنهم لم يقطعوا مع اللسان الأعجمي قطعا باتا، بل تركوا قنوات اتصال عديدة معه؛ تعريبا وترجمة واستعمالا وإفادة، على خلاف الرغبة الجامحة في الاستئصال التي تتملك المستعمر أو بقاياه في البلاد العربية والإسلامية. لكنه الفرق بين أمرين مرجعيين أساسيين؛ أحدها اسمه: الفتح. والآخر اسمه: الاحتلال أو (الاستعمار) ومع كل ظلاله ومعانيه.

ولنستمع إلى واحد من أئمة المسلمين في القرن الثالث الهجري، يحدد في وقت مبكر منهجية في التعامل مع الإنتاج الأجنبي ما يزال فكرنا المعاصر منشغلا بها أيما انشغال بسبب متعلقاتها الثقافية والاجتماعية والدينية والسياسية... يقول الإمام الشافعي : (وما وجد في كتبهم (الأجانب) فهو مغنم كله، [ ص: 85 ] وينبغي للإمام أن يدعو من يترجمه. فإن كان علما من طب أو غيره لا مكروه فيه باعه كما يبيع سواه من المغانم، وإن كان كتاب شرك، شقوا الكتاب وانتفعوا بأوعيته وأداته، فباعها. ولا وجه لتحريقه ولا دفنه قبل أن يعلم ما هـو.) >[1] إن نظام الاستعارة في الأفكار كما في الأشياء، كان (يقتضي تمييزا دقيقا وفكرا ناقدا يقظا يحدد الشروط التي يجب توافرها في الاستعارات الضرورية... شروط توافقها، ونفعها، ولياقتها.) >[2] وقد وجد العالم الإسلامي الأول نفسه مرات كثيرة في مواجهة مشكلات من هـذا النوع، فحلها في كل مرة بطريقة واعية موفقة، فعندما حاول اختيار طريقة الدعوة إلى الصلاة، وجد المجتمع المسيحي قد اختار صوت الأجراس للنداء للصلاة، فكان من الممكن أن يقتبس المجتمع الإسلامي هـذه الوسيلة ليحل مشكلته، لكنه اختار طريقة أصيلة في النداء هـي الصوت الإنساني، فنشأت [ ص: 86 ] وظيفة المؤذن... (وهناك عادات وتقاليد كثيرة لم يأخذ بها المجتمع الإسلامي الأول إلا بعد اختبار متعمد، واختيار بين وسيلة وأخرى، وبين الطرق والأفكار المختلفة. بذلك يدخل الشيء المستعار بصورة طبيعية إلى الحياة الإسلامية فيندمج فيها؛ لأنه يحقق غاياتها ويتفق مع إمكاناتها.) >[3] وإذا تحدث مالك بن نبي هـنا عن منهجية (دمج المستعار) ، وتحويله بصورة طبيعية لينسجم مع نظام الحياة الإسلامية، فإن طائفة قليلة من المفكرين المهتمين قد عبروا أيضا عن نفس المعنى بطرق ومناهج تتفق قليلا أو تختلف عما ذكره ابن نبي. فمنهم من تحدث عن ( عملية التبيئة ) وهي: جعل المفهوم الأداة، الذي ننقله من ثقافة أخرى، يسكن منزلنا، يتكيف مع نظامه ومعطياته، حتى يستطيع التعبير فيه وعنه تعبيرا مطابقا >[4] . وتفيد هـذه العملية أيضا: عدم التقيد حرفيا بالمضمون الذي تحمله في مجالات استعمالها في حقول الثقافة الغربية، وجعلها تتسع دون تشويه للتعبير عن المضامين التي يعرضها الموضوع المحلي >[5] . [ ص: 87 ]

بل حتى في التجربة التاريخية، في مجال الفلسفة مثلا (كان المنطق والفلسفة في بداية الأمر أشبه... بلغة أقحمت في لغة مقررة بين أهلها... لكن لم يمر وقت طويل حتى أصبحت لغة المنطق ولغة الفلسفة تنافسان لغات العلوم العربية نفسها في عقر دارها، وذلك بعد أن تمكن الفلاسفة الإسلاميون من تبيئة المصطلح الفلسفي؛ لغة ومضامين في الثقافة العربية الإسـلامية، مـما فسح المجال لتوظيفه في أكثر العلوم العربية والإسلامية أصالة: النحو والكلام... >[6] ، وإن (أرقى عمليات التبيئة والتأصيل التي شهدها المصطلح التراثي، وأقربها إلى عصرنا واهتمامنا، هـي تلك التي قام بها فلاسفة وعلماء الـمغرب والأندلس، وبالتحديد ابن رشد وابن خلدون والشاطبي ، هـؤلاء الذين نضجت في عقولهم عملية المثاقفة على صعيد المفاهيم والمصطلحات.) >[7] ومنهم من تحدث عن ( التقريب التداولي ) ، وهو: (وصل المعرفة المنقولة بباقي المعارف الأصلية) أو جعل المنقول مأصولا. وبما أن الوصل في جوهره وصل بما هـو أصلي، فإن التقريب : هـو [ ص: 88 ] جعل المنقول مأصولا >[8] ، واختار الكاتب علمين هـما (المنقول الأصلح للنظر في التقريب) : علم المنطق، وعلم الأخلاق. (وعلى هـذا يكون تقريب المنطق : هـو جعل أبعد المنقولات في التجريد النظري مأصولا، ويكون تقريب الأخلاق هـو جعل أبعد المنقولات في التسديد العملي مأصولا.) >[9] .

ويميز الكاتب بين التقريب وبين ما يمكن أن يكون قريبا من معناه كـ: (التوفيق) ، و (التسهيل) ، و (المقاربة) >[10] ، ويحدد له شرائط ثلاثة: (شرط التصحيح التداولي : أي أنه (لا تقريب بغير تصحيح) . شرط التداول الأصلي : أي أنه (لا تصحيح بغير قواعد المجال التداولي الأصلي... شرط اليقين التداولي : أي أنه لا قواعد تداولية أصلية بغير يقين...) و (كل نقل يخل بهذه الشروط؛ إن جزءا أو كلا، يعد تقريبا فاسدا...) >[11] وبخصوص التجربة التاريخية ، تحدث الكاتب عن (آليات التقريب اللغوي واختصار المنطق) عند ابن حزم ، وعن (آليات [ ص: 89 ] التقريب العقدي وتشغيل المنطق) عند الغزالي ، وعن (آليات التقريب المعرفي وتهوين المنطق) عند ابن تيمية . ذلك أن المنقول في هـذه المجالات (اللغوي، والعقدي، والمعرفي) قد اتسم بأشكال متعددة من التجريد: تجريد تولد من سقم العبارة، وتجريد تولد من قطع الصلة بالعمل النافع في الآجل والعاجل، وتجريد تولد من قطع الصلة بالعمل النافع للذات وللغير، مما أدى إلى قيام مناهضة للمنطق لم تبلغ مبلغها مناهضة لمنقول غيره، فاتهم أصحابه في لغتهم بالركاكة والعي، وفي عقيدتهم بالقرمطة والزندقة، وفي معرفتهم بالتكلف والتمذلق.

فتعين بذلك القيام بتسديد الـمـنقـول المنطـقـي تسديـدا عمـليا حتى تندفع عنه هـذه الأشكال الثلاثة من التجريد، وقد تولى ابن حزم التسديد اللغوي للمنطق، كما انتهض الغزالي بالتسديد العقدي للمنطق، واضطلع ابن تيمية أخيرا بالتسديد المعرفي للمنطق... >[12] وتحدث آخرون عن منهجية ( الاستيعاب وإعادة البناء ) ؛ أي استيعاب المفاهيم والمصطلحات وإعادة بنائها... >[13] ، وعن منهجية [ ص: 90 ] (الاستيعاب والدمج والتجاوز) في سياق من (التصديق والهيمنة) للقرآن وحضارته >[14] .

إن منهجيات التعامل مع المستعار والمنقول ؛ دمجا أو تبيئة أو تقريبا أو استيعابا أو تصديقا وهيمنة، بغض النظر عما يمكن التماسه من اختلاف بينهما -من حيث احتفاظ المصطلح أو المفهوم ببعض خصائصه، وهو ما تقدم معنا عند السيوطي عن أبي حيان في (الدمج الجزئي) ، أو من حيث فقدانه لكل تلك الخصائص ليعطى وظائف وخصائص جديدة في (الدمج الكلي) - تبقى متعلـقـة في الـغالب بالمباحث التراثية التاريخية، وقليلا ما تجدها تقارب ذلك في مباحث الفـكر الإسـلامي والـعربي المعاصر الذي غزاه طوفان غير منقطع من المصطلحات والمفاهيم مبنى ومعنى.

وعلى الرغم من ذلك، فأنصار هـذا الاتجاه؛ اتجاه الاهتمام بالمصطلحات والمفاهيم المنقولة، وبطرق وإمكانيات نقلها وتوظيفها، يزداد قوة وأتباعا من بين اتجاهي الرفض المطلق لعملية [ ص: 91 ] النقل، مشروطا أو غير مشروط، وهو اتجاه متجاوز واقعا وعمليا، واتجاه القبول المطلق من غير شروط، وهو اتجاه آخذ في الضعف والانحصار؛ إذ بدأ يسود الوعي بأن نظام الثقافة والمعرفة عموما يتأثر سلبا بـ (الدخل) أو (النقل) غير المنضبط أو الممنهج، والذي يتحول إلى غزو معجمي وثقافي تصبح بموجبه اللغة والثقافة المحلية تابعة ولاحقة لا مهيمنة ومستوعبة. فتنقلب عملية الدمج عكسا، ليصبح التحكم بيد الدخيل لا بيد الأصيل.

ولعل أبرز تجربة أو اختبار أولي أفضى إلى هـذه القناعة؛ هـي تجربة (رواد النهضة) الأوائل، الذين أرادوا معالجة إشكالية التخلف من خلال النموذج الأوربي، فقاموا بعدة مقارنات ومقاربات لم تفض إلى نتيجة بناء أو تقدم بقدر ما أتاحت من فرص ومداخل لنشوء تيارات التغريب والتبعية بما نقلوه من أوصاف ومظاهر القوة والنظام والتقدم في مجالات الحياة المختلفة في الغرب، لمجتمع يعيش نقيض تلك المظاهر والأوصاف؛ من تخلف وفوضى وضعف. من مجتمع آخذ في تغيير وتجاوز بناه التقليدية، إلى مجتمع استحكمت فيه مظاهر التخلف إلى درجة ألجأته إلى البحث عن حلول لها في تجارب الآخرين.

هذا بالرغم مما نجده في تصريحات وكتابات هـؤلاء المفكرين أو (الرواد) من أن (الغرض من ذكر الوسائل التي أوصلت الممالك [ ص: 92 ] الأوروباوية إلى ما هـي عليه من المنعة والسلطة الدنيوية، أن نتخير منها ما يكون بحالنا لائقا، ولنصوص شريعتنا مساعدا وموافقا، عسى أن نسترجع منه ما أخذ بأيدينا، ونخرج باستعماله من ورطات التفريط الموجود فينا.) >[15] . وكذلك (إغراء ذوي الغيرة والحزم من رجال السياسية والعلم بالتماس ما يمكنهم من الوسائل الموصلة إلى حسن حال الأمة الإسلامية وتنمية أسباب تمدنها) >[16] ، وأيضا (تحذير ذوي الغفلات من عوام المسلمين عن تماديهم في الإعراض عما يحمد من سيرة الغير الموافقة لشرعنا بمجرد ما انتقش في عقولهم من أن جميع ما عليه غير المسلم من السير والتراتيب ينبغي أن يهجر) >[17] .

فكلام خير الدين التونسي هـذا على أهميته لم تكن الظروف ولا الإمكانات المتاحة آنذاك تسمح بالتجاوب معه، بله الاستجابة له >[18] . [ ص: 93 ]

ولهذا كانت التبعية الثقافية تستند أساسا على استيراد المفاهيم، الذي يحدث بحد ذاته شرخا عميقا في اللغة أولا، ثم في صيرورة إنتاج المعارف والعلوم ثانيا، وتنتهي هـذه التبعية بزيادة الحاجة إلى استيراد المفردات اللغوية والمعارف في الوقت ذاته، وهذا ما نلاحظه اليوم لدينا حيث تدخل المفردات الأجنبية بكثرة في اللغة، وتفقدها دقتها ومرونتها وتركيباتها. كما يزداد اعتمادنا على استيراد الخبرة العلمية الأجنبية، وتبدو إجراءات التعريب ضعيفة وغير فاعلة أمام سهولة إدخال التعابير والكلمات الأصلية الغربية من قبل القسم الكبير من المثقفين، كما تبدو إجراءات تنشيط عملية إنتاج المعارف محليا عن طريق بناء مراكز البحوث ضئيلة الأثر طالما بقيت المراكز الأساسية -وهي الجامعات- عاجزة عن تقديم التكوين الصحيح لجيل الباحثين.

والذي يميز الثقافة العقلية لدينا -هو بالدرجة الأولى- الخوض في استخدام المفاهيم الحديثة المستقدمة مع التطور العصري، وعدم الدقة في استيعابها وهضمها، فاستيعاب المفاهيم لا يمكن أن يتم إلا في إطار توسيع قاعدة الإنتاج المحلي للمعارف التي تدخل فيها المفاهيم كأدوات لتحليل الواقع المحلي، وتحديد وسائل المعرفة [ ص: 94 ] الضرورية وإشكالياتها. >[19] و (الأثر الأول لهذه العملية ما كان يمكن أن يكون إلا بإثارة الشك في القيم السائدة، ثم تفكيك منظومة القيم؛ أي أيضا تدمير أسس المجتمع المدني الذي يستند إليه البناء السياسي والاقتصادي معا.) >[20] وهذا ما تمت الإشارة إليه بالآثار السلبية للوافد على نظام الثقافة واللغة المحلي عندما يعجز هـذا النظام عن استيعاب ذلك الوافد، لهذا اتجه التفكير أولا إلى الدعوة والتأكيد على ضرورة التمكن من المصطلح والمفهوم قصد تشخيصه وفحصه، لا مجردا فحسب، بل أيضا... وهذا أهم، في ( مجاله التداولي )

>[21] الأصلي.

وهذه أولى خطوات الاستعارة أو النقل بأي من المنهجيات [ ص: 95 ] السالفة كانت. فـ (من حيث المبدأ لا يمكن لمجتمع أو بالأحرى لثقافة أن تستوعب مفهوما جديدا لم ينشأ في سياق تطورها، وأن تستفيد منه قبل أن تخضعه لنقد مسبق؛ ويعني هـذا النقد: تفكيك المفهوم وإزالة روح الصنمية والقداسة عنه، وفهم الوظيفة الرئيسية والتوظيفات الممكنة له، وإعادة بنائه من وجهة نظر الحاجات والتوظيفات المحلية أو الذاتية) >[22] .

فـ (المنهج السليم لتحديد دلالات أي مفهوم هـو الرجوع إلى جذور المفهوم في لغته، وتتبع دلالته في مصادرها الأساسية، ومحاولة تجريد هـذه الدلالات، ثم إعادة دمجها في الواقع المعاصر، بل خلعها من ظلال الزمان والمكان واختلاف الخبرات والوقائع، وذلك دون الافتئات على ماهية المفهوم وجوهره، بل صقل الجوهر وتنقيته من الشوائب؛ سعيا للوصول إلى المعنى الحقيقي المجرد من خصوصيات الاستعمال التاريخي) >[23] [ ص: 96 ]

ولهذا فإنه (عندما تظهر نظرية في ميدان ما لتفسر جملة من ظواهره، انطلاقا من فحص دقيق لقوانين تلك الظواهر وعوامل تطورها، ثم تنقل تلك النظرية إلى ميدان مختلف تماما قصد تفسيره بواسطتها، فإن الذي يحصل أن مفاهيم هـذه النظرية التي كانت إجرائية مفيدة للفهم والمعرفة في الميدان الأول، ميدانها تتحول عندما توظف في ميدان آخر مختلف، إلى عوائق إبستمولوجية.) >[24] وبوضوح أكثر، بعـد شرط التأكد من قيام الضرورة على النقل والتحقق من إفادته فإن لعملية النقل والاستعارة -كما يرى المستشار طارق البشري - شرطين آخرين : شرط يقوم على (الفصل) ، وآخر يقوم على (الوصل) ؛ أي (أن نفصل بين النموذج التنظيمي المطلوب استدعاؤه، وبين الأساس العقدي والأيديولوجي الذي تولد عنه في بيئته الأصلية...) ثم (وصل هـذا النموذج التنظيمي وربطه في السياق العقدي الحضاري السائد في البيئة المستدعى إليها.) >[25] [ ص: 97 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية