القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي

الدكتور / محمد أبو الفتح البيانوني

صفحة جزء
ثانيا : إجراء تطبيقات على خمس من القواعد السابقة

1- قاعدة : ( إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا )

هـذه القاعدة جزء من آية كريمة تؤكد على خلق ( التبين ) في الأمور، و (التثبت ) في الأخبار،

قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) ( الحجرات:6 ) .

وقد جاء في سبب نزولها : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة مصدقا (أي جامعا للصدقات ) إلى بني المصطلق ، فلما أبصروه أقبلوا نحوه، فهابهم - في رواية : لإحنة كانت بينه وبينهم - فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد ابن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يتعجل، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلا، فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالدا أنهم متمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه، فعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فنزلت هـذه الآية ) .. >[1] [ ص: 97 ]

ولا يشك أحد في أهمية خلق التبين والتثبت ولا سيما في الأمور المهمة والأخبار الغريبة، ولا فيما يتركه عدم التثبت من آثار وخيمة، وما يخلفه من ندم..

ولكم خلف خلق التعجل في الأمور والأخذ بالظن من آثار سيئة في العلاقات الإنسانية، فقطع الأرحام وباعد بين القلوب، وفرق الصفوف.. ومن هـنا كان هـذا الخلق مطلبا إعلاميا هـاما، وركيزة كبرى من ركائز الإعلام السليم.. ولطالما فقد كثير من الناس والمؤسسات مصداقيتهم عند الآخرين من وراء ضعف هـذا الخلق أو فقده !!

2- قاعدة : " إن تصدق الله يصدقك " " صدق الله فصدقه " .

هاتان القاعدتان جزء من حديث شريف جاء فيه : ( أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال : أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزوة غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبيا فقسم وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوه إليه فقال : ما هـذا ؟، قالوا : قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما هـذا ؟، قال : قسمته لك، قال :ما على هـذا اتبعتك ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى هـاهنا، وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال : إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أهو هـو ؟ قالوا : نعم. قال: [ ص: 98 ] صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبة النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: اللهم هـذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا، أنا شهيد على ذلك ) >[2]

وهاتان القاعدتان الواردتان في مورد واحد تؤكدان على أهمية خلق الصدق مع الله عز وجل ، وأن جزاءه العاجل صدق الله مع العبد، وإعطاؤه لعبده ما يريد.

وما أكثر النصوص الشرعية المؤكدة على خلق الصدق، والمحذرة من خلق الكذب، سواء كان صدقا مع الله، أو مع النفس، أو مع الآخرين، أو الجاعلة خلق الكذب من أخلاق المنافقين والكافرين !!

والذي تميز به هـذا النص عن غيره، أن جعل من ذلك قاعدة مطردة تصلح لكل فرد أو جماعة، كما تصلح لكل مقام وموقف..

3- قاعدة : ( خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي ) .

هذه القاعدة جزء من حديث أخرجه الترمذي في كتاب المناقب، وابن ماجه والدارمي في كتاب النكاح >[3]

، وقد اشتمل هـذا الحديث على أحكام عامة تصلح أن تكون قواعد خلقية عامة، منها :

1- أن حسن الخلق من كمال الإيمان.

2- وأن خير المسلمين من كان خيرا لأهله. [ ص: 99 ]

3- أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم هـو خير الناس لأهله.

فالقاعدة الأولى تربط ما بين كمال الإيمان وحسن الخلق، وتظهر مكانة الأخلاق في الإسلام، حيث جاء في أول الحديث ( أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ) >[4]

والقاعدة الثانية : تضع معيارا للخيرية والتفاضل بين المؤمنين، وتصرح أن أفضل المسلمين وخيرهم من كان أفضلهم وخيرهم لأهله.

والقاعدة الثالثة : تبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هـو خير الناس لأهله، وتضع معيارا لهذه الخيرية، وقدوة مطلقة فيها، فالخيرية المطلقة مع الأهل هـي ما كان عليه صلى الله عليه وسلم مع أهله، وليست تبعا لأهواء الرجال أو النساء، كما أنها ليست تبعا لما اعتاده بعض الرجال في التعامل مع نسائهم.

وقد اشتملت النصوص الشرعية والسيرة النبوية على شمائله صلى الله عليه وسلم في التعامل مع أهله، من المحبة لهم، والإحسان إليهم، والتلطف معهم، والقوامة عليهم.. مما يشكل منهجا واضحا لتحقيق هـذه الخيرية.

4- قاعدة : ( البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس ) >[5] يضع هـذا الحديث الشريف قاعدة كاشفة، ومعيارا ضابطا لكل من البر والإثم في جانب الأخلاق. فالبر في جانب الأخلاق يتمثل في [ ص: 100 ] حسن الخلق عامة مع الناس وقد جاءت وصيته صلى الله عليه وسلم بإحسان الخلق مع الناس عامة، فقال : ( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ) >[6]

والإثم في جانب الأخلاق يتمثل في الخلق الذي تتردد النفس الصالحة في الحكم عليه، وتتحرج من التخلق به، وتكره أن يطلع الناس على وجوده فيها.. لأن الفطرة البشرية تحب أن يطلع على كل خلق كريم، كما تحرص أن تتستر على كل خلق قبيح.

فتضع هـذه القاعدة بذلك ضابطا عمليا، ومعيارا دقيقا لكل خلق وتصرف يواجه الإنسان في حياته، في الوقت الذي تؤكد أن البر المأمور به، والمحبوب عند الله عز وجل في جانب العلاقة مع الآخرين، متمثل في حسن الخلق معهم.

وإن هـذا الضابط العملي والمعيار الدقيق يمنع النفس الخبيثة الأمارة بالسوء من أن تزين للمرء خلقا قبيحا، أو تصرفه عن الخلق الحسن.. إن مثل هـذه المعايير والضوابط تعد محسنا من محاسن الإسلام، وخصيصة من خصائص نظام الأخلاق فيه، حيث تنضبط المعايير، وتثبت الفضائل، ولا تبقى عرضة للتحول والتغير تبعا للعادات والأعراف، كما تذهب إليه النظرية النسبية في الأخلاق عند كثير من غير المسلمين >[7] [ ص: 101 ]

5- قاعدة : ( كن كابن آدم ) >[8]

، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( وكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل ) >[9]

هذه النصوص أجزاء من أحاديث نبوية وردت في بيان موقف المسلم من الفتن، وهي في مجملها تمثل قاعدة خلقية خاصة بحال الفتن التي يلتبس فيها الحق بالباطل، كالاقتتال بين المسلمين جماعات أو أفرادا، وفي حال اختلافهم على طلب الملك وما إلى ذلك.

فقد بين الرسول الله صلى الله عليه وسلم أن من خلق المسلم في حال الفتنة (المسالمة والصبر ) وعدم مقابلة القاتل بالقتل، خلافا لخلقه في الأحوال العادية التي شرع الله فيها رد الاعتداء بمثله، وهي المعروفة عند العلماء بمسألة (الظفر ) أو ( رد الصائل ) ،

حيث جاء فيها قول الله تعالى : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) (البقرة: 194) ،

وقوله في صفات المؤمنين أيضا : ( والذين إذا أصابهم البغي هـم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) ( الشورى:39-43) . [ ص: 102 ]

أما القاعدة الخاصة بالفتنة، فقد وردت فيها أحاديث عديدة، تشير إلى التأسي فيها بموقف خير ابني آدم الذي قال فيه لأخيه : ( لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين ) (المائدة:28) .

يقول الإمام القرطبي في تفسير هـذه الآية : ( قال مجاهد : كان الفرض عليهم حينئذ ألا يستل أحد سيفا وأن لا يمتنع ممن يريد قتله، قال علماؤنا : وذلك مما يجوز ورود التعبد به، إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعا، وفي وجوب ذلك عليه خلاف، والأصح وجوب ذلك، لما فيه من النهي عن المنكر. وفي الحشوية قوم لا يجوزون للمصول عليه الدفع، واحتجوا بحديث أبي ذر، وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة، وكف اليد عند الشبهة على ما بيناه في كتاب التذكرة ) >[10]

ومن العجيب ما وقع فيه بعض الدعاة المحدثين من تعميم قاعدة الموقف حال الفتنة على عموم المواقف العادية الأخرى !! كما فعل الأستاذ جودت سعيد في كتابه القديم

( مذهب ابن آدم الأول ) وكتابه الجديد ( كن كابن آدم ) مما سنناقشه إن شاء الله في آخر البحث عند الحديث عن التطبيقات الخاطئة لبعض القواعد الشرعية.

إلى غير ذلك من قواعد شرعية خلقية عديدة يوقف عليها في كتب الأخلاق والآداب الشرعية [ ص: 103 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية