معالم تجديد المنهج الفقهي (أنموذج الشوكاني)

حليمة بوكروشة

صفحة جزء
المحدد الثالث: استحداث أطر جديدة للتصنيف الفقهي

لقد كان من مظاهر النهضة الفقهية المعاصرة انتعاش حركة التأليف، التي كان من أسبابها اقتحام الاتجاه العقلي «المتطرف» الساحة الفقهية متخذا من نقد النص الديني سبيلا إلى التجديد. فظهرت كنوع من رد الفعل لهذا التيار مؤلفات جادة في رسم منهج التعامل مع نصوص الشريعة، وفي عرض نظم الإسلام ومبادئه، وقد أدى هـذا النوع من التأليف دوره في تثبيت ثقة المسلمين بدينهم وتراثهم، لكن لما كان التأليف التنظيري أولى وأهم من التأليف الدفاعي في حقول المعرفة المختلفة وجب إثارة السؤال الآتي: إلى أين وصل التصنيف الفقهي في اتجاه التنظير؟

وسيكون جوابه الصحيح أن حركة التأليف في الفقه الإسلامي في المرحلة المعاصرة لم تتوقف عند جمع المسائل الفرعية، بل خطت خطوات جادة في طريق بناء نظريات فقهية متكاملة تضبط التعريفات، والشرائط، والأركان، والآثار، وغير ذلك، وتتخذ من المسائل الفرعية أمثلة تطبيقية، فاتجه البحث الفقهي نحو دراسة موضوعات فقهية موروثة، أو موضوعات من واقع الحياة المعاصرة، دراسة مقارنة بين المدارس الفقهية الإسلامية وبين النظم القانونية الوضعية الأخرى.

وعلى الرغم من أن المنهج المقارن قد حرر البحث الفقهي من المنهج الدفاعي القائم على التعصب لمذهب فقهي معين، لكنه تسبب في أحيان [ ص: 272 ] كثيرة -في أثناء المقارنة بين الفقه الإسلامي، والنظريات الوضعية الأخرى- في التقيد بالنظرية محل المقارنة، وأحيانا يكون الفرق بينها وبين الإسلام كبيرا وجذريا، فتصبح المقارنة متكلفة. من هـنا كان الأولى في التنظير الفقهي بناء النظرية الإسلامية بناء أصيلا متميزا دون التقيد بالنظريات الأخرى >[1] .

إن تطوير الصناعة الفقهية باتجاه التنظير بحاجة إلى مداخل أهمها: تطوير علوم المناهج، وترتيب الموضوعات الفقهية.

أما علوم المناهج فمثل: علم الفروق، والقواعد الفقهية، وعلم الخلاف، ونحوها، فهذه العلوم نشأت بفعل تطور الفقه الإسلامي وأصبحت فروعا مستقلة، وهي مهمة جدا في جمع مادة النظريات الإسلامية الأساسية والفرعية، وفي بناء أركان النظرية وفروعها.

ورغم هـذه الأهمية، فإن الكتابات المعاصرة لم تتقدم بهذه العلوم كثيرا عما فعله المتقدمون، وأبرز مثال على ذلك القواعد الفقهية، فرغم الدور الذي حظي به هـذا العلم في حركة التقنين في العصر الحديث، فإن جهود المعاصرين اقتصرت على شرح القواعد التي نصت عليها مجلة الأحكام العدلية، ولم يقتحم مجال الحصر والتصنيف لهذه القواعد إلا أفرادا معدودين كالأستاذ أحمد الزرقا ، الذي صنف القواعد الفقهية إلى: أساسية، وفرعية. كما أضاف قواعد جديدة >[2] . [ ص: 273 ] أما ترتيب الموضوعات الفقهية؛ فلأن من أسباب صعوبة البحث في مصادر الفقه ومدوناته تداخل الموضوعات الفقهية >[3] ، بحيث يذكر الموضوع الفقهي، أو المسألة الفقهية فـي غير بابـها المناسب لها، وإنما تذكر استطرادا في باب من الأبواب، ثم يغفل ذكرها في موضعها المناسب لها؛ اعتمادا على ذكرها سابقا دون الإحالة عليها. مثال ذلك: بيع الوفاء ، يذكر عند بعضهم في: البيوع الفاسدة، وعند بعضهم الآخر في: خيار الشرط، وعند آخرين في: الإكراه >[4] .

من هـنا استلزم التنظير الفقهي ترتيب الموضوعات الفقهية بحسب مناسبات ذكرها في مصادر المذاهب الفقهية.

إن اعتبار التنظير من أولويات التصنيف الفقهي لا يعني بحال من الأحوال إهمال إجراءات أخرى فنية ومنهجية تمس مضمون المادة الفقهية وشكلها، التي اهتم ببيانها جل من كتب في سبل تيسير الفقه الإسلامي، وتطوير مناهج البحث فيه >[5] .

ومن تلك الإجراءات: [ ص: 274 ]

- صياغة المادة الفقهية بلغة بسيطة وأسلوب سهل، وتفادي شرح المسائل بالأمثلة الفقهية الغريبة، التي فقدت وجودها الاجتماعي والعملي في المجتمعات المعاصرة.

- ترجمة المقادير الشرعية إلى مقادير العصر؛ كالصاع، والوسق، والذراع، والدينار، والدرهم، وغيرها، في نصاب الزكاة والسرقة والدية ونحوها.

- حذف المسائل التي لم تعد قائمة فـي زماننا: مثل أحكام الرق والرقيق.

- الاستفادة من الكتابات العصرية المتخصصة في بيان الحكمة من التشريع؛ مثل ما كتبه الأطباء في بيان أضرار الخمر، وما كتبه الاقتصاديون عن الآثار المدمرة للربا.

- الاستعانة بوسائل الإيضاح: كالرسوم التوضيحية، الخطوط البيانية، الجداول، الخرائط وغيرها في بيان الأحكام الفقهية.

- استخدام معارف العصر في بيان الحكم الشرعي، أو في ترجيح بعض الآراء الفقهية، أو مراجعة أحكام مأخذها معرفة بشرية، أثبت تطـور المعارف الإنسانية والعلوم الكونية خطأها؛ لأنـها بنيت أصلا على اسـتقراء ناقص، أو عـلى ثقة بأقوال بعض الناس، أو بمعلومات معينة لم يتوافر لها من وسائل التمحيص العلمي ما توفر فـي عصرنا لهذا النوع من العـلوم. وهذا الجانب يختص أكثر ما يختص بالعلوم الطبية، والكونية. [ ص: 275 ]

- تزويد الكتب الفقهية بالفهارس التحليلية التفصيلية، التي تهتم بتصنيف جزئيات المسائل والموضوعات أقساما وأنواعا، حسب طبيعتها وموضوعاتها.

- التزام البحث الفقهي علامات الترقيم الإملائية.

وهذه الإجراءات، لا تحتمل - فيما أرى- نقاشا، خلافا لإجراءات أخرى مقترحة، مجال الأخذ والرد فيها أوسع، أهمها:

الاستفادة من العلوم الاجتماعية ومناهجها؛ لصياغة منهجية تكاملية بين هـذه العلوم وعلم الفقه وأصوله >[6] ؛ حتى تكون الدراسات الفقهية المعاصرة صادقة وشاملة، والأحكام أكثر توافقا وتطابقا مع الواقع. وقد حدد مجال الاستفادة من هـذه العلوم في أمرين:

الأول: تنـزيل الحكم الشرعي؛ ذلك لأن الاجتهاد التطبيقي يمر بمرحلتين:

أ - مرحلة التعرف على الواقعة محل الاجتهاد، وما دامت الواقعة قد أصبحت عبارة عن ظواهر معقدة لا بد أن يستعان بمختلف المناهج للتعرف عليها.

ب - مرحلة تطبيق الحكم على الواقعة، وهذا التطبيق يدخل فيه -إلى جانب الناحية الشرعية- جوانب نفسية، واجتماعية، واقتصادية، يجب أن [ ص: 276 ] تراعى حتى يكون الحكم مصيبا للحقيقة، ومحققا للعدالة.

الثاني: تجديد أدوات الاستنباط الفقهي، فإن جل المصادر التبعية (العرف، الاستحسان، المصلحة المرسلة) التي هـي في الحقيقة عبارة عن مناهج في البحث يقوم بتوظيفها العقل البشري، المجال فيها واسع لتدخل مناهج العلوم الاجتماعـية، وأبرز مثال على ذلك العرف ؛ فإن التعرف عليه من صميم عمليات البحث الاجتماعي الذي يتم التوصل إليه بمناهج علم الاجتماع.

والحقيقة أن مبدأ إيجاد منهجية تكاملية بين علم الفقه والعلوم الاجتماعية مبدأ سليم، يقتضيه الفهم الصحيح لواقع الناس، والتطبيق السليم لأحكام الإسلام ونظمه. إلا أن الإشكال الذي يمكن أن يطرح حول هـذا الإجراء المنهجي هـو:

ما المقصود بالتكامل المنهجي بيـن هـذين النوعيـن من العـلوم؟ وما ضوابط هـذا التكامل المنشود؟ هـل معناه اتخاذ العلوم الاجتماعية ومناهجها معايير يجدد على أساسها الفقه الإسلامي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما مدى دقة وعلمية هـذه المعايير التي ستنبني عليها الأحكام الشرعية؟

إن الدافع لإقرار مبدأ صياغة منهجية تكاملية بين علم الفقه وأصوله، والعلوم الاجتماعية، والتحفظ في تطبيقاته هـو اضطراب هـذه النظريات وعدم استقرارها العلمي، وهو ما سيؤدي بطبيعة الحال إلى اضطراب [ ص: 277 ] نتائجها التي ستبنى عليها الأحكام الشرعية. ومصدر هـذا الاضطراب الأمور الآتية:

- الإطار المرجعي العام للعلوم الاجتماعية: فقد صيغت مناهج هـذه العلوم في إطار الفكر الغربي، الذي اعتبر العقل والحواس المصدرين الوحيدين للمعرفة، فاختزل المنهج العلمي في عناصره التجريبية الحسية، كما اختزل الحقيقة الإنسانية في جوانبها المادية، ومن هـذا المنطلق فصل بين العلوم الإنسانية والعناصر «اللاهوتية»، وحاول تطبيق المنهج التجريبي عليها، ودراستها دراسة كلية، فأهمل ثنائية الروح والمادة >[7] .

وهذه الحقيقة معروفة، وعلى أساسها تقوم مشاريع أسلمة العلوم، وإصلاح مناهج الفكر، لكن المراد بيانه في موضوع الإشكالية هـو حضور هـذا الإطار المرجعي في كل مراحل البحث في العلوم الاجتماعية، فهو «يؤثر بطريق مباشر وغير مباشر في عملية البحث العلمي؛ سواء فيما يتعلق بتوجيه الأنظار إلى موضوعات دون أخرى، وفي فرض الفروض، وتحويل المفاهيم إلـى متغيرات، أو بالنسبة لجمع المادة اللازمة للبحث بالتأثير على نقط الاهتـمام، وعلى الملاحظات التي يحاول ربطها مع غيرها من الواقع، بما يؤثر في تنظيم الحقائق الناتجة عن عملية البحث، أو تفسير ما تم الحصول عليه من نتائج» >[8] . [ ص: 278 ] وهذا يؤكد خاصية من خصائص هـذه العلوم وهي التوظيف الأيديولوجي لأدوات ونتائج البحث.

- تناقض النظريات في العلوم الاجتماعية: فهذه العلوم تفتقر فروعها إلى نظرية عامة قادرة على تفسير الواقع الاجتماعي والإنساني من جوانبه المختلفة تفسيرا موضوعيا متفقا عليه، وهذا يبين مدى خضوع هـذه النظريات للذاتية والتوجيهات المذهبية، مما يحول دون بلوغ الأهداف العلمية >[9] .

- الاختلاف في أدوات البحث: ترتب على تعدد النظريات في هـذه العلوم وتناقضها اختلاف في أدوات بحث وتحليل وتفسير الظواهر الاجتماعية والنفسية، ومن ثم اختلاف نتائج الدراسات. فالمتصفح لكتب مناهج البحث الاجتماعي، يطلع -ولا شك- على الصراع الدائر بين المشتغلين بعلم الاجتماع حـول تأكيد أولوية الأسـلوب الكمي أو الأسلوب الكيفي في بحوث هـذا العلم. واختلافهم كذلك في أسلوب تحليل المضمون، فرغم إقرارهم بأهمية هـذا الأسلوب في البحث الاجتماعي؛ إذ أنه يساعد في الوصف العلمي لظاهرة الدراسة، إلا أن هـذا لم يمنع بعض الكتابات المنهجية التي عنيت بهذا الأسلوب من تسجيل بعض مشكلاته المنهجية، وأهمها: هـل تحليل المضمون منهج، أم أسلوب، [ ص: 279 ] أم أداة؟ وهل دوره يقتـصر عـلى وصـف المادة المحللة، أو تحليـلها أو تفسيرها؟ وهل مهمته قاصرة على لمس المسـتوى الظاهر فـي المادة، أم سبر غورها؛ لتبين بعض ما هـو كامن فيها؟

كما اختلف المشتغلون بالعلوم الاجتماعية في ماهية وجوهر المسح الاجتماعي الذي يعد من أهم طرق البحث في علم الاجتماع، فنجد بعضا منهم يعتبره منهجا من مناهج البحث، وبعضا آخر يراه نمطا من أنماط البحث الاجتماعي، وبعضا ثالثا يراه طريقة من طرق الدراسة وجمع البيانات.

كما انتقدت كتب مناهج البحث الاجتماعي المسح الاجتماعي من عدة وجوه أهمها: أنه يركز على الأبعاد الكمية المستعرضة أكثر من تركيزه على التعمق في الظواهر والقضايا المدروسة بسبب تركيزه على المجال، أكثر من العمق >[10] .

إن هـذه المشكلات المنهجية التي تعاني منها العلوم الاجتماعية ومناهجها -وباعتراف علمائها- تفرض عدم أخذها ونتائج الدراسات المعتمدة عليها بوصفها مسلمات أو أدلة علمية قطعية، تبنى على أساسها أحكام شرعية، بل الوضع يقتضي استيعاب هـذه المناهج نظريا، والقدرة على توظيفها الإيجابي ميدانيا، وعدم تبني الدراسات الجاهزة التي يجهل مدى دقة الأدوات والمناهج التي استعملت فيها. [ ص: 280 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية