كشاف القناع عن متن الإقناع

البهوتي - منصور بن يونس البهوتي

صفحة جزء
( السادس : الغارمون ) للنص ( وهم المدينون ) كذا فسره الجوهري ( المسلمون وهم ضربان أحدهما من غرم لإصلاح ذات البين ، ولو ) كان الإصلاح ( بين أهل ذمة ، وهو ) أي من غرم لإصلاح ذات البين ( من تحمل بسبب إتلاف نفس ، أو مال أو نهب دية أو مالا ، لتسكين فتنة وقعت بين طائفتين ، ويتوقف صلحهم على من يتحمل ذلك ) فيتحمله إنسان ثم يخرج في القبائل ، فيسأل حتى يؤديه ، فورد الشرع بإباحة المسألة فيه ، وجعل لهم نصيبا من الصدقة قال تعالى { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } أي وصلكم ، والبين : الوصل ، والمعنى : كونوا مجتمعين على أمر الله تعالى .

وعن قبيصة بن المخارق الهلالي قال : { تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وسألته فيها ، فقال : أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ، ثم قال : يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة : رجل تحمل حمالة ، فيسأل فيها حتى يؤديها ، ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله ، فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش ، أو قواما من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجا من قومه : لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش أو قواما من عيش وما سوى ذلك فهو سحت يأكلها صاحبها سحتا يوم القيامة } .

والمعنى شاهد بذلك لأنه إنما يلتزم في مثل ذلك المال العظيم الخطير ، وقد أتى معروفا عظيما ، وابتغى صلاحا عاما ، فكان من المعروف حمله عنه من الصدقة ، وتوفير ماله عليه ، لئلا يجحف بمال المصلحين ، أو يوهن عزائمهم عن تسكين الفتن وكف المفاسد ( فيدفع إليه ما يؤدي حمالته ) بفتح الحاء أي المال الذي تحمله لذلك ( وإن كان غنيا ) لما تقدم من حديث قبيصة ( أو ) كان ( شريفا ) أي من بني هاشم ; لأن منعه من أخذها لفقره صيانة له عن أكلها لكونها من أوساخ الناس ، وإذا أخذها للغرم صرفها إلى الغرماء ، فلا يناله دناءة وسخها .

[ ص: 282 ] ( وإن كان قد أدى ذلك ) أي ما تحمله ( لم يكن له أن يأخذ ) بدله من الزكاة ; ( لأنه قد سقط الغرم ) فخرج عن كونه مدينا .

( وإن استدان ) الحمالة ( وأداها جاز له الأخذ ) من الزكاة ; ( لأن الغرم باق ) لم يخرج عن كونه مدينا ، بسبب الحمالة ( ومن تحمل به بضمان أو كفالة عن غيره مالا ، فحكمه حكم من غرم لنفسه ) .

وظاهر المنتهى أنه من قسم الغارم عن غيره ( فإن كان الأصيل والحميل ) أي الضامن أو الكفيل ( معسرين جاز الدفع ) أي دفع قدر الدين من الزكاة ( إلى كل منهما ) ; لأن كلا منهما مدين .

( وإن كانا موسرين ، أو ) كان ( أحدهما ) موسرا ( لم يجز ) الدفع إليهما ، ولا إلى أحدهما ( ويجوز الأخذ ) من الزكاة ( لقضاء دين الله ) تعالى من كفارة ونحوها ، كدين الآدمي .

( ويأتي ) الضرب ( الثاني ) من ضربي الغارم ( من غرم لإصلاح نفسه في مباح ) كمن استدان في نفقة نفسه وعياله ، أو كسوتهم ، وخرج بالمباح ما استدانه وصرفه في معصية ، كشرب الخمر والزنا ( حتى في شراء نفسه من الكفار ، فيأخذ ) الغارم لنفسه ( إن كان عاجزا عن وفاء دينه ، ويأخذه ) أي الغارم لنفسه ( ومن غرم لإصلاح ذات البين ، ولو قبل حلول دينهما ) لظاهر خبر قبيصة السابق وقيس عليه الغارم لنفسه .

( وإذا دفع إليه ) أي الغارم ( ما يقضي به دينه ، لم يجز ) له ( صرفه في غيره وإن كان فقيرا ) ; لأنه إنما يأخذ أخذا مراعى ( وإن دفع إلى الغارم ) من الزكاة ( لفقره ، جاز له أن يقضي به دينه ) لملكه إياه ملكا تاما ، إذا تقرر ذلك ( ف ) قاعدة ( المذهب ) كما ذكره المجد وتبعه في الفروع وغيره ( أن من أخذ بسبب يستقر الأخذ به ، وهو الفقر والمسكنة ، والعمالة والتالف ، صرفه فيما شاء كسائر ماله ) ; لأن الله تعالى أضاف إليهم الزكاة فاللام الملك .

( وإن لم يستقر ) الأخذ بذلك السبب ( صرفه ) أي المأخوذ ( فيما أخذه له خاصة ، لعدم ثبوت ملكه عليه من كل وجه ) وإنما يملكه مراعى ، فإن صرفه في الجهة التي استحق الأخذ بها ، وإلا استرجع منه ، كالذي يأخذه المكاتب والغارم والغازي وابن السبيل ; لأن الله تعالى أضاف إليهم الزكاة بفي ، وهي للظرفية ; ولأن الأربعة الأول يأخذون لمعنى يحصل بأخذهم ، وهو إغناء الفقراء والمساكين ، وتأليف المؤلفة ، وأداء أجرة العاملين ، وغيرهم يأخذ لمعنى لم يحصل بأخذه للزكاة ، فافترقا .

( ولهذا يسترد ) المأخوذ زكاة ( منه ) أي من المكاتب والغارم والغازي وابن السبيل ( إذا برئ ) المكاتب أو الغارم ( أو لم يغرم ) الآخذ للغرم ، أو فضل معه ، أو مع ابن السبيل شيء ( وإن وكل [ ص: 283 ] الغارم من عليه الزكاة ) أي رب المال ( قبل قبضها منه بنفسه أو نائبه ) أو ( في دفعها إلى الغريم عن دينه ، جاز ) ذلك ، وبرئ من الزكاة بدفعه إليه .

وكذا المكاتب لو وكل رب المال في وفائه دين كتابته ( وإن دفع المالك ) زكاة ( إلى الغريم ) عن دين الغارم ( بلا إذن الفقير ) الغارم ( صح ) وبرئ لأنه دفع الزكاة في قضاء دين المدين ، أشبه ما لو دفعها إليه فقضى بها دينه ( كما أن للإمام قضاء الدين عن الحي من الزكاة بلا وكالة ) لولايته عليه في إيفائه ولهذا يجبره عليه إذا امتنع .

التالي السابق


الخدمات العلمية