الخطاب التربوي الإسلامي

الأستاذ الدكتور / سعيد إسماعيل علي

صفحة جزء
كيف نتعامل مع الموروث التربوي؟

ربما لا نبالغ في قليل أو كثير إذا قلنا: إنه ما من «خطاب تربوي إسلامي» إلا ويتجه إلى الموروث التربوي الإسـلامي مسـتمدا منه الكثير مما يعينه في بناء «الخطاب»، بل إننا أشرنا من قبل إلى أن الكثرة الغالبة من «الخطابات التربوية الإسلامية» تجنح بكليتها إلى الموروث التربوي مغفلة الانشغال بهموم الحاضر وطموحات المستقبل، ومن هـنا نجد أن من المهم حقا التوقف بعض الشيء أمام كيفية التعامل المنهجي مع الموروث التربوي، بحيث تتحول عملية استقرائه ومحاولة الإفادة منه إلى قوة تطوير وطاقة تجديد، لا إلى قيود تعوق حركة الفكر التربوي عن أن يقوم بدوره المأمول من حيث المساهمة في بناء شخصية المواطن بالصورة والدرجة التي تفعل قدراته في عمليات البناء المجتمعي.

ونسوق فيما يلي بعض المؤشرات التي يمكن اقتراحها لتحقيق هـذا المطلب:

1- لعل الخطوة الأولى التي تفرض نفسها هـنا هـي وضع (اقتراح) المنهجية العلمية في التعامل البحثي مع التراث، ولسنا هـنا في مجال يسمح لنا بتفصيل مثل هـذه المنهجية، فأصولها وقواعدها وأسسها مبثوثة في العديد من المراجع المتخصصة، وغاية ما نود أن نؤكد عليه في النقطة الحالية هـو أن الأمر لم يعـد يحتمل السـير العشـوائي، وإلا ظللنا ندور في طريق دائري لا يخطو بنا إلى أمام، وهو الأمر الذي غلب على الكثير من خطواتنا [ ص: 101 ] السابقة، وأساء إلى المورورث التربوي نفسه، إذ ترك الأمر للنـزعات الشخصية، والخطوات غير المحسوبة، فغلبت اللفظية، وتحكم أسلوب الوعظ والإرشاد الذي يصبح عديم الجدوى ما دام في غير موضعه، وترسخت نزعات غرور كاذب اعتمادا على ماض مجيد، بينما نعيش ومعطيات انهزام محيط في واقع أليم!

2- الوعي بأن «الخطاب» يخضع في ظهوره وفي تطوره إلى السنة الإلهية نفسها، التي تحكم ظهور ونمو مختلف الكائنات الحية؛ لأنه هـو نفسه (أي الخطاب) نتاج أشرف وأعقد وأعظـم الكائنات الحية الإنسـان.

ولو نظرنا إلى أبسـط الكائنات الحية، إلى النبات مـثلا، فسـوف نجد أنه لا يظهر إلا في ضوء معطيات البذور التي أنبتته بخصائصها المعروفة، ويتحدد بنوع التربة التي ينبت فيها، ولا يستمر إلا في مناخ بعينه، فضلا عن نوعية الغذاء الذي يتغذى به.

كذلك «الخطاب»، هـو نبت بيئة ثقافية لها خصائصها ومحدداتها وعوامل انحدارها، حتى وهو ينسب عادة إلى هـذا الفرد أو ذاك من المفكرين والباحثين، يحمل خصائصه التي ينفرد بها عن غيره، إلا أنه يظل منتميا إلى سياق حضاري يمده بمقومات الوجود، ويغذيه بعوامل النمو، قوة أو ضعفا، وهو ما نعبر عنه بأن لكل «خطاب» أبعاده الزمانية والمكانية.

ومن ثم فإننا عندما نتوقف أمام فكرة تربوية ما مما هـو موروث، يجب أن نضعها في سياقها المجتمعي الحضاري، ذلك أن مثل هـذا، فضلا عن أنه يتيح فرصة أكبر [ ص: 102 ] للفهم والتفسير، فهو يعتبر أمرا ذا قوة حاسمة فيما نأخذ وفيما نترك من الموروث، فقد يكون «الخطاب» نتاج فترة ضعف وتخلف، مما انعكس على نوعيته وتوجهاته، فيصبح من المؤكد أنه غير مرغوب فيه في حاضرنا، فضلا عن مستقبلنا.

ومن الملفت حقا للنظر تلك العبارات التي تشير إلى عبقرية « ابن خلدون »، فهو يعبر عن هـذا الذي نقول في مقدمته (طبعة دار الشعب بالقاهرة، ص 570) بعبارات دالة:

«حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هـو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال».

فكأن « ابن خلدون » قد سمع تلك الصيحات التي تعالت منذ عقود عدة ناقدة هـؤلاء الذين يتصورون أن حركة التاريخ مجرد تسلسل في الحوادث يمكن رصدها وتسجيلها بغير البصر بعلاقتها بما سماه (الاجتماع الإنساني) ، وهو «العمران»، هـو التعبير الخلدوني لما نعبر عنه بالسياق الحضاري.

3- ولعل من أبرز الأخطاء التي تشيع في التعامل مع الموروث هـو اعتباره من الناحية الزمنية كتلة واحدة، وهو خطأ يترتب على ما يكون من [ ص: 103 ] قصور في النظر إلى السياق المجتمعي لحركة « الخطاب التربوي »، فما توافر لدينا من موروث تربوي هـو نتاج قرون عدة قد لا تقل عن سبعة قرون، وعلى مساحة تمتد من بلاد المغرب والأندلس على شاطئ الأطلنطي إلى تخوم الهند والصين ، وشمالا من وسط أوربا وجمهوريات آسيا الوسطى، إلى وسط إفريقية ، ووفقا لسنن التطور، يستحيل افتراض التماثل التام بين مكونات هـذا الكم الكبير من الإنتاج الفكري التربوي.

صحيح أن الجميع على وجه التقريب قد سعى إلى أن يستقي ما يكتب وما يقول من مصدري الإسلام الأساسين : القرآن الكريم والسنة النبوية، وصحيح أن الحدود بين البلدان العربية والإسلامية لم تكن قائمة، وهذا وذاك مما يوفر فرص التماثل وغيره، لكن الأمر يظل قائما، وهو الاختلاف بين منطقة وأخرى، وبين زمن وغيره، حتى لقد أثر عن « القرافي » تأكيده على كل من يفتي ألا يفتي من يسأله الفتوى إلا وفق العرف السائد، بعد استقراء القرآن والسنة.

إن التعامل مع الموروث التربوي في جملة قرون الحضارة الإسلامية، وجملة البلدان الإسلامية يبعدنا عن النهج العلمي، إذ يوقع الباحث في تعميمات خاطئة، فقد تكون العينة التي يفحصها لمفكر أو عالم من منطقة تزدهر بأسباب الحضارة والنمو، فيؤكد على ما يترتب على هـذا من أحكام، مستنتجا بأن الحضارة الإسلامية قد وعت كذا وكذا من الاتجاهات التربوية الجيدة، بينما تكون هـناك مناطق أخرى، وربما تكون هـي الأكثر مساحة [ ص: 104 ] جغرافية، والأطول مساحة زمنية، على غير ذلك. وقد يحدث العكس، أي أن تكون العينة من مناطق متخلفة جامدة، فيكون الحكم على الموروث التربوي ظالما، وهذا ما يحدث بالفعل بين الخصوم والأنصار للاستعانة بالموروث، فالخصوم بالفعل يجدون أمثلة وشواهد تؤكد رأيهم، والأنصار يجدون كذلك أمثلة وشواهد في صالحهم.

4- كذلك من أهم القواعد التي ينبغي الالتزام بها في التعامل مع الموروث، أن يتحلى الباحث بروح النقد، فلا تقديس إلا لكلام الله المتضمن في القرآن الكريـم، والأحاديث النبوية الشريفة نفسها كثيرا ما خضعت للنقد من حيث التأكد من صدق صدورها عن الرسول، ومن هـنا كان قيام علوم الحديث، والتى عرف منها علم الجرح والتعديل الذي قوامه النـزعة النقدية.

وما يجعل هـذه الخطوة على درجة كبيرة من الأهمية أننا ورثة تقاليد ذات حساسيات شديدة لأية مراجعات لآراء أو مذاهب تكلمت بها شخصيات كرست مشروعيتها ومكانتها التاريخية في العقول والقلوب والنفوس، وذلك لخطأ سابق تكرس –أيضا– يخلط بين الرأي وقائله، حتى كاد بعضهم ينظر إلى الرأي وكأنه ذات صاحبه، فأي نقد يوجه لرأي قال به أو تبناه أحد قيادات الرأي أو المذاهب، يعد بمثابة نقد لصـاحب الرأي أو المذهب، فإذا كان «النقد» عندنا قد أخذ معنى السب والهجو، والآراء قد تشخصت لعوامل تاريخية ومعاصرة، فإن ذلك يعيننا على فهم كثير من [ ص: 105 ] الأسباب التي تحول بين بعض من لديهم ما يقولون والإمساك عن الإفصاح عنه والتصريح به.

ويفسر علماء النفس جمود كثيرين على التقليد والتمسك بالتقاليد أنه آلية دفاعية ضد قلق المسئولية الذاتية، فهي «التقاليد» بما يسبغ عليها من صفات القانون الطبيعي، تتضمن تبريرا للعجز الذاتي عن الإنسان المقهور، فإذا كان راضخا أو فاشلا أو بائسا، وإذا كان عاجزا عن تحمل تبعة مصيره والنهوض للتحديات التي تطرحها عليه علاقة القهر وضرورة التحرر منها، فليس الذنب ذنبه، بل هـو نظام الحياة الذي قسم له دوره وحدد له مكانته، فكأن التمسك بالتقاليد يحمي الإنسان المقهور من مشاعر الخزي الذاتي، المرتبطة بالمهانة التي تتصف بها مكانته الاجتماعية.

وفضلا عن ذلك، فإن التمسك بالتقاليد يحمي الإنسان المقهور من مجابهة ذاته، تلك المجابهة التي تقلقه كثيرا، فيتجه إلى الهروب نحو الخارج، أي الذوبان التقليدي والشائع، وانضواء تحت المألوف.

إن عمل الباحث في الموروث التربوي يجب أن يكون أشبه بعمل المستنطق في الدوائر القضائية الذي يأتي بالشهود والرواة فيستنطقهم ويدقق في شهاداتهم، ويحقق في إفاداتهم، ويقدم نتيجة تدقيقاته وتحقيقاته ليستند إليها في الحكم في ما جرى.

ولكن الباحث التربوي لا يقف عند عمل المستنطق، بل يتجاوزه إلى عمل المدعي العام، وإلى عمل المحامي -متخذا وجهة [ ص: 106 ] الادعاء تارة ووجهة الدفاع أخرى- ثم يصل أخيرا إلى عمل القاضي الذي يثبت واقع الحادث قبل أن يقدم على الحكم فيه.

حقا إن اكتساب هـذا «الحس النقدي» وضبط قواعده وتطبيقها بروية واتزان لمن أهم ثمار الثقافة ومن أبرز مميزات الحضارة الناهضة النامية، ولكنها ثمرة لا تحصل إلا بفعل جهود وافرة شاقة تبذل في اقتلاع الأشواك ونسف الصخور وتمهيد الأرض وحرثها ورعايتها رعاية مستمرة، فإذا قل تقدير مجتمع من المجتمعات لهذه الثمرة أو ضعف اهتمامه بها أو تراخى سعيه في سبيلها، جفت أسرع جفاف وسقطت وضاعت وضاع معها الكثير من نتاج الحضارة ومفاخر المدنية. هـذا ما نراه في سير الأمم المتعاقبة، وفي أدوار الرقي والانحطاط في سيرة الأمة الواحدة، فعندما يكون حس الأمة النقدي نافذا جريئا، ويكون في الوقت نفسه عارفا حدوده، ضابطا ذاته كما يضبط سواه، تتقدم الأمة في مجالات النهوض وتحقق خيرات ثقافية ومآثر حضارية، ويصبح لها فعلها الإيجابي وذكرها الباقي.

5- ولقد سبق للفيلسوف الإنجليزى الشهير « فرنسيس بيكون » أن حذر الباحثين من الوقوع في براثن مصدرين من مصادر الأوهام التي تميل بالباحث بعيدا عن جادة الحقيقة والحق، أحدهما ما سماه بأوهام الكهف، والثاني أوهام القبيلة، ذلك أن في الإنسـان مـيلا فطريا لأن يتأثر لا إراديا بما يكون عليه من تربية وشخصية وميول واتجاهات، وكذلك أن يتحيز إلى الجماعة أو المذهب الذي ينتمي إليه، فكأنه يضع على عينيه نظارة ملونة ترى الأمور بلونها. [ ص: 107 ] إن هـذا هـو ما يسمى «بالتعصب» و «التحيز»، وهو أخطر ما يكون على عملية البحث العلمي، وخاصة بالنسبة للموروث، وذلك لارتباط الموروث بالتاريخ القومي والوطني، وبالعقيدة الدينية والنـزعة المذهبية، سواء بالسلب أو الإيجاب.

ونحن هـنا لا نتصور إمكان أن «ينخلع» الباحث من مثل هـذه المؤثرات، ولكننا ننشد الوعي بتأثيرها، سواء من الباحث نفسه، أو من السامع، أو من القارئ، ومن هـنا فإن هـناك من يرى أن الموضـوعية هـنا إذا كانت مستحيلة، لكن أضعف الإيمان أن يعلن الكاتب أو المتحـدث عن هـويته الفـكرية حـتى يكون القـارئ على بينة من توجهات ما يقرأ.

لقد خسر التاريخ الفكري العربي والإسلامي الكثير نتيجة خضوع بعض الباحثين لهوى النـزعات العرقية والمذهبية والسياسية، حتى لقد أدى هـذا ببعضهم إلى الكذب على رسول الله فعرفنا ما سمي «بالوضع» في الأحاديث، أي اختلاق أحاديث نبوية لتأييد هـذا أو ذاك أو الهجوم على هـذا وتجريحه أو ذاك، فما بالنا بما كتب في التربية والتعليم؟!

6- وإذا كان التجرد من النـزعات التعصبية يصور الجانب السلبي، فإن هـناك جانبا إيجابيا نتطلبه من الباحث في الموروث التربوي، ويتمثل ذلك في محاولة النفاذ إلى أعماق الأفراد والجماعات في الماضي فيحس أحاسيسهم، ويتلمس أهواءهم، ويختبر ميولهم ورغباتهم وآمالهم وأمانيهم، والظروف التي [ ص: 108 ] كانت تحيط بهم، وتأثرهم بهذه الظروف وتأثيرهم فيها، وبذلك يصبح وكأنه واحـدا منهم، ينطق بلغـتهم، بل بلغاتهم جميعا، لا يلتزم أي فرد منهم أو أية شيعة أو أمة دون سواها، فالماضي حصيلة ميول وإرادات، ومطامـع ومعتقدات وتفاعلات حية دائما بين الفرد والجماعة وبين المجتمعات المختلفة.

وإذا كان الباحث في المـوروث سوف يجد غالبا ما يحب وما يكره، ما يقر وما ينكر، فإن من المهم للغاية أن يثبت هـذا وذاك كما تجليا له بالضبط دون أن يجعل لحبه أو كرهه أثرا في هـذا الإثبات، أي أن يعيش الماضي ويختبره بنفسه وينطق بروحه دون أن يذوب فيه!

7- ولسنا في حاجة إلى التأكيد على ما أحرزه البحث العلمي في مجالات التربية وعلم النفس من صور من التقدم إلى درجة تحطم معها عديد من الأفكار التي سبق أن تصور بعضهم قديما ضرورتها التربوية، ومن ثم فعندما ننتقي ونختار من موروثنا التربوي يجب أن نراعي عدم تعارضه وتناقضه مع ما كشف عنه العلم الحديث.

وعلى سبيل المثال فكم من كتابات أنفق فيها علماؤنا وقتا طويلا وجهدا كبيرا، اهتماما منهم «بالحفظ»، بحكم العديد من العوامل التي كانت قائمة قبل اختراع الطباعة وانتشار المطبوعات، بينما لا نجد في عصرنا الحاضر ضرورة في الاستعانة كثيرا بمثل هـذه الجهود إلا في بعض المجالات التي ما تزال بحاجة إلى الحفظ. بل إن الأجهزة «التكنولوجية» المعاصرة أصبحت [ ص: 109 ] تحمل عن الإنسان مئونة الحفظ وتقوم بتخزين أضعاف ما يستطيع الإنسان أن يختزنه في ذاكرته.

وعلى الرغم من التقدير النظري الذي حظي به جسم المتعلم من بعض العلماء والمفكرين، إلا أن الممارسات التعليمية في معاهد التعليم الإسلامي قلما ضمت في مناهجها أوقاتا مخصصة للأنشطة العملية المصاحبة للدروس المختلفة، وقلما حرصت على ممارسة التربية الرياضية ... وهكذا، بينما كشفت لنا الدراسات التربوية والنفسية الحديثة عن خطر إهمال هـذا الجانب.

وهناك مظاهر متعددة نجدها في موروثنا التربوي تركز على النظرة المثالية تأثرا بما كان عليه الفكر التربوي لدى الإغريق، بينما أثبتت الدراسات المعاصرة أن المسألة ليست انحيازا إما إلى النظرية المثالية وإما إلى النظريات الواقعية، فالمتعلم وحدة مـتكاملة لها جوانبها الروحية والعقلية، كما أن لها جوانبها المادية الجسمية. وعندما نفتش في موروثنا التربوي فسوف نجد بعضا يؤكد على هـذا الجانب وبعضا يؤكد على الآخر، وبعضا ثالثا يبصر ضرورة النظرة التكاملية، وبالتالي، فعندما ننتقي ونختار، نسعى إلى إبراز هـذا الذي لا يتناقض مع ما كشفت عنه الدراسات العلمية الحديثة.

8- وهناك من وجه سهام نقد إلى موروثنا الحضاري على أساس أنه كان مستسلما لعقلية غيبية؛ والعقلية الغيبية لا تعتمد المنهج النقدي التحليلي في معالجة الأمور، وهي عقلية إيمانية تمرست على الإيمان بما خفي عن الحس وعزت معرفته على العقل، ولهذا أيضا لا تعرف الشك الذي هـو أساس [ ص: 110 ] التحليل النقدي في حوار العقل والطبيعة، ويترسخ لديها الاستسلام دون إيمان بالفعالية الذاتية، ولهذا نجد في الموقف مع المشكلات الطارئة اعتمادا على الغيب واستعانة بالسحر والرقي والتعاويذ، واعتمادا على رفض أو قبول مطلق للحدث دون وعي نقدي.

والحق أن هـذا النقد ناتج مما حدث من خلط بين عالم الغيب وعالم الخرافة، فالقرآن الكريم، وفي الآية الثالثة من سورة البقرة نص على أن من أهم سمات وخصائص المؤمنين «الذين يؤمنون بالغيب»، على أساس أن الغيب هـو ما يتصل بالله وملائكته والروح والبعث والعالم الآخر، وهناك نصوص متعددة تنهي الإنسان عن البحث في مثل هـذه الأمور، على أساس أن الإنسان غير مزود بوسائل الإدراك التي تمكنه من ذلك، وضرورة الالتزام بحصر دائرة التفكير في هـذا العالم الذي نعيشه ونحياه.

وفي هـذا العالم الذي نحياه سنن وقوانين تحكم ظواهره المختلفة، والإنسان مـلزم بأن يأخـذها دائما في اعتباره، ويرتب حياته على أساس ما يحكم الظـواهر الكونية من سنن، ونحن نعرف من سيرة رسول الله ما سبق أن أشرنا إليه من تصادف أن كسفت الشمس وقت أن مات ابنه إبراهيم، الذي حزن عليه حزنا شديدا، فظن المسلمون أن ما حدث في الظاهرة الطبيعية إنما لموت إبراهيم، فإذا برسول الله ينكر ذلك، ويؤكد أن مثل هـذه الظواهر من سنن الله لا تقع لموت أحد!! [ ص: 111 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية