صفحة جزء
تقديم

عمر عبيد حسنة

الحمد لله الذي خلق الإنسان مؤهلا للتعلم وكسب العلم والمعرفة، ومنحه القدرة التي تمكنه من التحكم في البيان والإفصاح عما في نفسه،

فقال تعالى: ( الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ) ( الرحمن:1-4) ،

وبذلك تعتبر اللغة بشكل عام، والقدرة على الإبانة والإفصاح عما في النفس، بشكل خاص من أرقى خصائص الإنسان وأعظم وظائفه العقلية؛ وحسبنا أن نقول هـنا: إن اللغة تعتبر أحد البراهين والآيات بل والمعجزات الكبرى الدالة على القدرة الإلهية على تنوع الخلق واختلافهم،

يقول تعالى: ( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ) (الروم:22) ،

ولئن كانت الألوان بكل تنوعها وخصوصياتها أمرا قسريا خلقيا يدعو للتأمل وتجاوز الصورة إلى الحقيقة التي وراءها، والخلق إلى معرفة الخالق، فإن اللغة أمر كسبي اختياري معجز يتمحور حول الحقيقة قبل الصورة، والمعنى قبل اللفظ، والتفكير قبل التعبير، والتعرف بالتأمل الداخلي على الخالق، قبل النطق بالشهادة على ذلك. فإذا كانت الألوان والأجناس وسائر الأمور القسرية الأخرى هـي أشبه بالقوالب المادية الجامدة التي لا فكاك منها (ستاتيك) فإن اللغات، بتفاعلها وتناميها، وصحتها ومرضها، وحضورها وغيابها، وارتقائها وهبوطها، هـي [ ص: 5 ] أشبه ما تكون بالكائن الحي المتنامي، بكل صفاته وخصائصه وأطواره وتطوره؛ هـي تمثل الروح الممتدة، المحركة للإنسان، المجددة لنفسه، والمنمية لعقله وتفكيره، الصائغة لعلاقاته، الموسعة لخبراته وقدراته. فاللغة هـي دينامية الإنسان، أو اللغة هـي الإنسان، هـي عقل الإنسان، وعلم الإنسان، وثقافة الإنسان، وهوية الإنسان، ومفتاح الإنسان في الدخول إلى بوابة الكون الكبير، واستكناه آياته في الأنفس والآفاق، مما حدا بالكثير من علماء الإنسان أن يعرفوه ويميزوه بأنه حيوان ناطق. وقد حرضت هـذه الظاهرة الإنسانية المعجزة الكثير من العلماء والمفكرين والفلاسفة والباحثين في مختلف التخصصات والمعارف، التي تعتبر اللغة مفتاحها الأساس في الاكتساب والاكتناز والنقل، إلى العناية بدراسة اللغة ووظائفها واكتشاف أبعادها المتعددة، من زمانية ومكانية واجتماعية ونفسية ومعرفية، حيث تراكم ذلك في ميراث ثقافي وعلمي تصعب الإحاطة به، ذلك أن اللغة هـي المفتاح والمدخل والمسبار لمعرفة كنه الحياة الإنسانية وإلقاء الأضواء على أهم مقومات وشروط إنسانية الإنسان، الذي استحق بهذا المؤهل المعجز دون غيره من سائر الخلق، بمن فيهم الملائكة، الخلافة في الكون. وبعد: فهذا كتاب الأمة الواحد بعد المائة: «اللغة.. وبناء الذات» لثلاثة من الباحثين والمتخصصين والمهتمين، في سلسلة «كتاب الأمة» التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة قطر ، في محاولاته الثقافية المستمرة لمعاودة النهوض وتوفير شروط الإقلاع [ ص: 6 ] الحضاري والاضطلاع بالشهادة على الناس، اسـتجابة لقـولـه تعالى:

( لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة:143) ..

حيث الإدراك الكامل أن هـذه المهمة الإنسانية والحضارية الكبرى لا تأتي بالأماني والرغائب:

( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ) (النساء:123) ،

فالجزاء من جنس العمل، وهذه سنة وقانون إلهي في تأسيس العدل، الذي تقوم عليه السماء والأرض وترسيخه، لذلك لا بد لمن يريد أن يتحقق بالشهود الحضاري والتنوير الثقافي ويضطلع بحمل هـذه الأمانة الكبرى أن يتأهل لها، ويمتلك أدواتها؛ وامتلاك الأدوات من الأهلية أيضا. فالتأهل لهذه المهمة العظيمة يتطلب القيام بالتقويم والمراجعة باستمرار، حتى تصوب مسيرتنا وفق القيم الإسلامية في الكتاب والسنة، بحيث نحيي ونطبق ونلتزم بتصويب شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم علينا لنتأهل للشهادة على الناس، تحقيقا لقولـه تعالى:

( ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) (الحج:78) .

فتصويب مسيرتنا لنتحقق بشهادة الرسول علينا، أولا، بحيث نصلح أنفسنا حتى نتأهل لإثارة الاقتداء وامتلاك القدرة على العطاء وإلحاق الرحمة بالعالمين، ففاقد الشيء لا يعطيه، ومن كان قوله يخالف سلوكه أو عمله فكأنما يوبخ نفسه، ويستدعي شهادة غيره عليه، لذلك لا بد من الاضطلاع بالشهادة ومواصفاتها -شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم علينا- حتى نستحق أن نصل إلى مرحلة الشهود على الناس. [ ص: 7 ] وعلى الرغم من أن الأدوات والوسائل متعددة ومتنوعة في تحقيق الشهادة على الناس بإبلاغهم رسالة النبوة العالمية الخاتمة لإلحاق الرحمة بهم

( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107) ،

( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) (النور:54) ،

فسوف تبقى وسيلة الاضطلاع بمهمة البلاغ المبين وتحقـيق الشـهادة الأهم على النفس (أمة الإجابة) ومن ثم على الآخر (أمة الدعوة) هـي اللغة، فهي -إذا أدمنا التأمل والنظر والتفكير- تعتبر أم الوسائل جميعا. فهي وسيلة الحركة الإنسانية كلها، في المجال العلمي والسياسي والثقافي والإعلامي والاجتماعي والتربوي.. فاللغة وعاء ذلك كله، ووسيلة ذلك كله، وإذا تراجعت اللغة أو تعطلت توقفت الحركة الإنسانية وانقطع الاتصال والتواصل والتفاهم، ذلك أن اللغة هـي من أهم وأدق طرق المواصلات، وأوعية المعلومات، وتواصل الأجيال، وتحقيق النقل الثقافي ، والتراكم المعرفي ، وحفظ المخزون التراثي ، وجسر التبادل المعرفي . فاللغة بمفرداتها وسيلة بناء التفكير الداخلي، حتى ولو لم ينطق الإنسان فهو مستمر في ممارسة العمليات الذهنية بكلمات مستبطنة غير منطوقة وغير مسموعة.. كما أن اللغة وسيلة لإجراء معادلات وعمليات الذكاء، وتشكيل الصور الذهنية، واختزان الذاكرة واسترجاعها، وممارسة الخطاب والاتصال، والنقل الخارجي.

وخلاصة القول: إن اللغة هـي محرض التفكير، ومحرك الاجتهاد والتجديد، ووسيلة التفاهم والإقناع، ومفتاح الإقلاع الحضاري؛ وأن هـذا [ ص: 8 ] البناء الحضاري التاريخي الضخم والميراث الثقافي سوف يبقى محنطا ومغلقا ومسدودا أمامنا إذا لم نمتلك المفتاح الأساس للولوج إليه من الباب الرئيس؛ والمفتاح للدخول لكل غرفة فيه والتعرف على مجالاته وتنوعها، هـو اللغة. فاللغة، في البدء والانتهاء، هـي الثقافة، وهي الحضارة، وهي العلم، وهي التنمية، وهي التفكير، وهي التعبير.. هـي الشخصية، بكل قسماتها، وسماتها، وذاكرتها، وفلسفتها، ورؤيتها.. وهي تمثل أرقى أنواع القدرة على الاختيار والانتقاء، وتشكل الأداة الأوسع والأرحب لممارسة عمليات التفكير والتعبير والتفاهم، في فضاءات كبرى تتجاوز عالم المحسوسات.. هـي مرآة الأمة، تعكس حركتها وتاريخها وحاضرها وقيمها ووجهتها المستقبلية؛ وهي مرقاتها في الوقت نفسه؛ لأنها المحرك الأساس للانبعاث والتجديد والاجتهاد، والتغيير، والتأثير، والتعلم، والتبادل المعرفي ، والكسب العلمي، وبناء الذوق الفني ، وصناعة النسيج الاجتماعي ، والعامل الأساس في تشكيل الأمم، والسبب الأساس وراء اضمحلالها.. وإذا لم تدرك العلاقة التبادلية بين اللغة والأمة تحصل الكارثة الثقافية والمعرفية؛ والتاريخ خير شاهد على ذلك. فاللغة تضعف وتتراجع بضعف الأمة؛ والأمم تتقهقر وتتأهل للعمالة الثقافية والعلمية بتراجع اللغة وعزلها عن العقل والكتاب والمنهج والمعهد والجامعة والمدرسة والأسرة، والإذاعة والتلفزيون وسائر وسائل الإعلام والإعلان، التي يناط به إجراء العمليات والمعادلات والموازنات التفكيرية، ذلك أنه من المسلمات علاقة التعبير بالتفكير؛ وعلاقة اللغة بمفرداتها ومخزونها النفسي والمعنوي وإيقاعها ووقعها على الحس والنفس والإدراك بالتفكير وآلياته، وكيفياته، ورقيه ونموه، وهبوطه وارتقائه. [ ص: 9 ] ويكاد يكون من المسلمات أيضا عند أهل العلم والدراية، أن الذي يعبر بلسان قوم يفكر بعقلهم، ويتمدرس بثقافتهم، وتصاغ شخصيته وفق معاييرهم، هـذا عدا عن القطيعة مع نسقه المعرفي، ومخزونه التراثي، وقيمه ومعاييره الضابطة لمسالكه، ومرجعيته، وارتكازه الحضاري، فعجمة اللسان تؤدي إلى عجمة العقل والقلب وغربة النفس. ولقد نبه الإمام ابن تيمية رحمه الله، منذ وقت مبكر لأثر اللغة ودورها في التفكير وصياغة الشخصية، حيث يقول: «إن اعتياد اللغة يؤثر في العقل، والخلق، والدين، تأثيرا قويا بينا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هـذه الأمة من الصحابة والتابعين؛ ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق»؛ مؤكدا أن «نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب». وقد «... " كتب عمر إلى أبي موسى ، رضي الله عنهما : «أما بعد: فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن، فإنه عـربي» " . وفي حديث آخر " عن عمر رضي الله عنه ، أنه قال: «تعلموا العربية فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض فإنـها من دينكم» " . وهذا الذي أمر به عمر، رضي الله عنه ، من فقه العربية وفقه الشريعة، يجمع ما يحتاج إليه؛ لأن الدين فيه أقوال وأعمال، ففقه العربية هـو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هـو فقه أعماله» (انظر: اقتضاء الصراط المسـتقيم، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق د.ناصر العقل، ج1) . إن اللغة بما تبني في العقل والخيال والشعور والأثر، وما تحقق من ارتباط بين الأصوات والمعاني، من حس وفهم مشترك، تقيم القاعدة المشتركة، [ ص: 10 ] وتوسع دائرة التفاهم، وتوحد المسارات الكبرى لحركة الأمة وتفاهم الأفراد وتواصلهم.. فاللغة -كما أسلفنا- هـي من أهم طرق المواصلات وشبكات الاتصال ومصادر المعرفة، وكسب المعلومة، وسبيل التفاهم، وبناء الحس المشترك، على مستوى الأفراد والجماعة. فاللغة، بما تمتلكه بألفاظها ومعانيها، مما يسمى في علم النفس: بالإحساس العام المشترك، المتولد عن ما تورثه اللغة من عمليات الاستبطان، تمكن الطبيب والمريض، والمعلم والطالب، والعالم والمبدع، والشاعر والكاتب والراوي، والمفكر، من القدرات في التعرف على الآخر ومشاركته بإحساسه، وحتى بإدراكه. إن اللغة المشتركة تمكن الطبيب من فهم مريضه وعلاجه، والمعلم من فهم تلميذه وتعليمه وتربيته وتغييره، وإدراك مشكلته، وتقدير ظرفه، وتحديد فهمه، والتعرف إلى حاجاته، وتحديد مستواه، وفهم شخصيته. فاللغة نافذة الشخصية، ومرآة العقل: «تكلم حتى أراك»، أو هـي الشخصية بكل مواصفاتها. ولما كان للغة هـذه الأهمية في صياغة الشخصية، وبناء التفكير، واستقامة التعبير، وتكوين الأمة، والقدرة على حفظ الميراث الثقافي، والنقل الثقافي لهذا الميراث إلى إنسان الحاضر والمستقبل، وامتلاك المفردات الغزيرة والدلالات الدقيقة التي تحول دون الانحباس أو الانغلاق على الماضي والوقوع في أسر الحاضر، وإنما مد البصر إلى فضاءات المستقبل وإحداث التأثير والتغيير والاجتهاد والتجديد، لذلك لم يتسامح التنـزيل بأمر معجزة الرسالة الخاتمة؛ (اللغة) . [ ص: 11 ] لقد تنازل عن فوارق اللون والجنس والعرق والجغرافيا والمناخ، وكل القضايا القسـرية، التي لا يد للإنسـان في وجـودها أو نفيها، واعتبر من الظلم الشنيع أن تعتمد معيارا للكرامة أو وسيلة للقياس؛ أما اللغة فإن كسبها من اجتهاد الإنسان وتعلمه، لذلك جاء النص على أن القرآن إنما أنزل بلسان عربي مبين،

قال تعالى: ( بلسان عربي مبين ) (الشعراء:195) ،

( قرآنا عربيا ) (يوسف:2) .

ولا أدل على أن اللغة كسبية من أن الأعاجم، أو غير العرب بعامة، حققوا نبوغا باللغة العربية إلى درجة تكاد تتجاوز فعل العرب أنفسهم، فكتب اللغة، والمعاجم، والفروق اللغوية، وفقه اللغة، وتحديد المصطلحات ونحتها، نجد أن لغير العرب فيها القدح المعلا. ومن هـنا رأينا أيضا كثيرا من العلماء الذين أدركوا أهمية اللغة ودورها في صياغة الأمة وتوحيد ثقافتها وتحديد وجهتها وبناء قاعدتها المشتركة ونسيجها الذهني المتجانس أكدوا أهمية اللغة؛ وفسر بعضهم الحكمة بأنها: الكلام المعقول المصون عن الحشو علي الجرجاني ؛ واعتبر اللغوي العلامة عبد الله العلايلي : «أن اللغة أحد وجهي الفكر، فإن لم تكن لنا لغة تامة صحيحة فليس يكون لنا فكر تام صحيح» . واعتبر الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه (تجديد الفكر العربي) : «أنه من اللغة تبدأ ثورة التجديد، حيث اللغة هـي الوسيلة التي لا وسيلة سواها لنشأة المعرفة الإنسانية وتكوينها وتطويرها، أو جمودها في بعض الحالات» . [ ص: 12 ] حتى اعتبر بعضهم العدول عن التحدث بها، إلا لضرورة محدودة، يورث النفاق، ذلك أن للنفاق آفاقا واسعة وشعبا كثيرة، ولعل النفاق الثقافي والسياسي هـو من أولى الإصابات التي تلحق بذهنية الذي يعدل عن التمكن من لغته والتزام التحدث بها. ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية فإنه يورث النفاق ) (أخرجه الحاكم في المستدرك) . وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون (اقتضاء الصراط المستقيم) . وكره الشافعي لمن يعرف العربية أن يتكلم بغيرها، أو يتكلم بها خالطا لها بالعجمية، وكان يؤكد أن كل من يقدر على تعلم العربية فإنه ينبغي عليه أن يتعلمها؛ لأنها اللسان الأولى بأن يكون مرغوبا فيه.

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يرى أن الطريق الحسن في ذلك هـو «اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي الدور، فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف، بخلاف من اعتاد لغة ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى فإنه يصعب».

بل لعلنا نقول: إن تقطيع الأمة أمما، وهو إحدى مراحل الاضمحلال قبل أن تتيه في الأرض، وتضيع عن هـويتها، وتفقد وجهتها، يبدأ من عند اللغة والموقف منها، ذلك أننا إذا افتقدنا المفتاح فسوف نواجه مغاليق كثيرة في حياتنا العلمية والعملية والثقافية، ونقف أمام بوابة التراث عاجزين عن اسـتيعاب هـذا الرصيد الهائل من التجارب السابقة، فنصبح كالشجرة التي [ ص: 13 ] لا جذور لها، تترنح في الهواء تأخذها الريح يمنة ويسرة.. وهل تستحق أن تسـمى أمة مجموعة شعوب لا تتلاحم مع ماضيها فضلا عن أن تستقرئه، ولا تفهم الحاضر لغربتها فيه، ولا تخاطبه ولا يخاطبها؟ فالذي يفقد لغته يفقد إنسانيته، ذلك أن الكائن يصبح إنسانا عندما يقدر أن يتعرف على ذاته فيغيرها ويقيمها طبقا للصور الذهنية والقيم؛ ففي اللغة يتجسد ويئول كل ذلك، وبها يتبلور الوجدان. إن اللغة تلتقط الواقع، وتقرؤه من الأمام والخلف، ومن الداخل والخارج. فاللغة هـي وعاء الإنسان وإهابه، وحواسه، وعقله، وتفكيره، وذاكرته، وثقافته، ووطنه، وتعلمه وتعليمه، وحاضره ومستقبله. فكيف يرضى الإنسان أن يعيش بلا رأس، بلا عقل يفكر، ولسان ينطق، وعين تنظر، وأذن تسمع، ولسان يتذوق، ولا يستطيع أن يعرب عن ذلك، أو يعبر عن ذلك، وينقل إحساسه وفكره ورؤيته للآخرين، ليتوحد معهم، ويتفاهم معهم، ويبني المشترك، ويقيم الجماعة، وينشئ الحضارة ويمارس التبادل الثقافي ؟ إن التفكير لا يتحقق إلا باللغة، والتعبير لا يتشكل إلا باللغة، والسماع لا يكون إلا باللغة، والنظر باللغة، والتذوق باللغة، والتواصل باللغة. ومن هـنا تتأكد فرية أو خطورة ما يروج له من بتر العلاقة بين التفكير والتعبير، والادعاء بأن المهم هـو التفكير السليم، كائنا ما كان لسان التعبير أو لغة التعبير، فأنى يتسنى للإنسان أن يفكر في قيم أو تراث أو ثقافة، أو يكون صورا ذهنية عن عقيدة أو تاريخ أو حضارة وهو يفتقد لغتها، يفتقد أداتها في النظر والفكر؟ [ ص: 14 ] إن ادعاء إمكانية فصل التعبير عن التفكير، خلافا للحقيقة الثابتة عن علماء الفلسفة واللغة والاجتماع، سوف لا ينتج إلا مخلوقات مشوهة اللسان والعقل والقلب. لذلك نرى اليوم أن العـالم الحق الذي يريد أن يدرس عقـيدة أمـة أو ثقافتها أو تاريخها أو حاضرها أو يستشرف مستقبلها، لا يرضى لنفسه الجهل بلغتها؛ حتى في تاريخ الأديان نرى أن الكثير من علماء الآثار والتاريخ والحضارة والمخطوطات يرفضون ترجمات الكتب المقدسة، لما قد تحتمل الترجمات من تغييب للحقيقة وتحريف للمعلومة، ويسعون إلى التعلم والتعرف على اللغة الأصلية التي كتبت فيها تلك الكتب، حتى يطمئنون علميا إلى اكتشاف الحقيقة التي لا لبس فيها. إن عدم إدراك أهمية اللغة ودورها في بناء الأمم، وصياغة شخصيتها، وتشكيل ثقافتها، هـو من الطوام الكبرى والمؤامرات الخطيرة، سواء حصل ذلك على يد الجهلة من أبنائها، أو المكر الخبيث من أعدائها، مهما اجتهدوا في وضع المسوغات والفلسفات في محاولتهم لإقصاء اللغة واستبدالها. فتارة الحجة بصعوبة نحوها وصرفها وكثرة مفرداتها ومترادفاتها؛ وتارة بحجة أنها لغة أدب وخيال، بعيدة عن لغة العلم والتقنية؛ وأخرى أنها لغة كتاب مقدس مصيرها ومأواها المعابد، شأن اللغات المنقرضة كالسريانية واللاتينية... وليسـت لغة المعهد والجامعة والمصدر والمرجع اليوم، وأنه لا مكان لها في عصر «العولمة» والاتصالات والمعلومات، لعجزها عن مواكبة التطور اللغوي والدلالي، وكأن الأمة تريد أن تلقي بعجزها وتخاذلها [ ص: 15 ] وتخلفها واستعمارها الثقافي على اللغة، دون أن تدري أن الإنسان وتخاذله وعجزه هـو المشكلة وليست اللغة وإمكاناتها وقابلياتها. والغريب أنه لم يستفزنا اليوم الإقلاع العلمي والمعلوماتي لشعوب ولغات متعددة مثل الصينية واليابانية، والعبرية والكورية وغيرها كثير، ومواكبة التطور التقني لمثل هـذه اللغات العجيبة بأصواتها وألفاظها وخطها وأشكالها؛ وليس ذلك فقط بل إن الشعوب الحية تحاول إحياء لغاتها التي كادت أن تنقرض وتجتهد لتلحق الركب الحضاري وتتجاوزه. فاللغة العبرية، على الرغم من أنها إحدى اللغات السامية التي توقفت وانحسرت ضمن الكثير من اللغات العالمية، ولم يبق لها إلا بقايا في فجوات وحفريات هـنا وهناك تحجرت فيها، مع ذلك استطاعت على يد أبنائها أن تكون لغة التوراة والتلمود، والمعبد والمعهد، أو الكلية، والتأليف والإبداع العلمي والتقني! والمحزن حقا أننا جميعا، باختلاف مواقعنا ومنابرنا، نعاني من العجز والتخاذل والإلغاء، وإن اختلفت المسوغات والذرائع؛ والفوارق بيننا أن بعضنا قد يكون أعلى صوتا، لكنه ليس أعلى قامة وإمكانية، ذلك أن أصحاب تلك الأصوات العالية عن اللغة وأهميتها وقدراتها وميزاتها اكتفوا بالحديث عن أهمية اللغة وعظمتها ولم يتحققوا بأي إنتاج لغوي في المجالات المعرفية المتعددة، ولم يقدموا ما يثير الاقتداء، في الوقت الذي تتقدم فيه اللغات على يد أهلها، وتنمو مفرداتها بشكل مذهل ومثير فعلا. وحيثما تلفتنا نجد العجب العجاب من العطاء اللغوي عند (الآخر) ، من معاجم للألفاظ الفلسفية والدبلوماسية والسياسية والعلمية والتقنية [ ص: 16 ] والتنمية والبيئة، ومفردات للغة المال والأعمال وبناء المصطلحات، وليس ذلك فقط بل أصبح لكل علم ومعرفة مصـطلحاتـها وألفاظها ودلالاتها، أما عن وسائل وأساليب تعليم اللغات لغير الناطقين بها فحدث ولا حرج، من حيث التدليل والإقناع والتسهيل واختيار الأصوات والموضوعات والأشخاص للإغراء بتعلمها. أما عندنا، فقد اختلط الحابل بالنابل، فأصبح بعض الفقهاء ممن يقتضي اختصاصهم العبارة الصارمة والدقيقة والمحكمة، التي تخاطب العقل، وتعتمد الدليل، وتقوم بالترجيح والمقارنة والمقايسة والمعادلة، أصبحوا يكتبون قصص الأطفال، وأدب الأطفال؛ والذين تخصصوا بالأدب أو بأدب الأطفال والنقد، أصبحوا يكتبون في الفكر، والفقه، والدعوة، والسياسة، والتنظير الفكري؛ ومهندسو الكيمياء والبترول يتحدثون في السير والمغازي، والدعوة والإرشاد؛ والباحثون في طبقات الأرض والصخور يتحدثون عن الإعجاز والتفسير، هـذا عدا عن استمرار الرجال الملحمة؛ الذين يتحدثون بالفقه والفكر والأدب والشعر والقصة والرواية والسير والقوانين الاجتماعية! حيث ما يزال يتحكم بخيالنا:


الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم

هـذه الفوضى اللغوية، والخلل المعرفي والاختلاط والتداخل الذهني، الذي يسود حياتنا اللغوية، على الرغم من غنى المفردات والمترادفات، وأهمية التخصص، والانتقاء لكل حالة لفظها المعبر عنها، ولكل مستوى أسلوبه، ولكل مقام مقال، هـل هـي دليل التخلف والفشل والعجز عن الإبداع والإنتاج في مجالات الاختصاص، والهروب منها إلى ساحة الدعوة؛ لأنها مباحة أو مستباحة؟ [ ص: 17 ] ولا أدل على تلك الفوضى من شواهد الإدانة التي تملأ حياتنا في المجالات جميعا، وكأن تقسيم العمل، وتنويع التخصص، وتوفير الخبرة، أعداء لنا. وقد تكون المشكلة عندنا بالخلط والتداخل بين علوم اللغة واللغة نفسها، ذلك أن علوم اللغة، من نحو وصرف وبلاغة وعروض وأوزان وتصاريف ليست هـي اللغة على كل حال؛ ووسائل تعلم اللغة وتعليمها ليست بتعلم وسائلها فقط، وإنما يتحصل تعليم اللغة بتعود النطق والسماع، والإلقاء والحوار، والمناقشة والمثاقفة.. ولعل من الحقائق أن علوم اللغة إنما تكون لحماية اللغة واستقامتها من اللغو واللحن، وليس لإنشاء لغة، أو للارتقاء بها. إن حراسة اللغة وحمايتها من اللغو واللحن والفحش والتفحش، لا مجال لمناقشة ضرورته، لكن الإشكالية أن هـذه العلوم لا تنشئ لغة -كما أسلفنا- وكم من متمكن في علوم اللغة لا يحسن أي إنتاج لغوي في فنون وأجناس القول المتنوعة، فالعالم كله يقرأ بلغته ليتعلم بها، ونحن نتعلم لنقرأ، لا نقرأ لنتعلم. وما أزال أذكر محاضرة للمستشرق الفرنسي «جاك بيرك» بالعربية ذكر فيها أن أحد طلاب العلم في المغرب سجل على محاضرة للدكتور طه حسين ما يربو على بضعة عشر خطأ ! وهذا جيد لكن يمكن القول أيضا: أين إنتاج طه حسين في فنون القول المختلفة التي تملأ المكتبات من ذلك الطالب الباحث في علوم اللغة، الذي لايعرف ولا يذكر اسمه، وليس إنتاجه؟ وقد يكون الوجه الآخر للمشكلة يكمن في بدء التراجع في الدراسات والتخصصات حتى في علوم اللغة، حتى أن بعض التخصصات تكاد تنقرض، بحيث أصبح يغادرها الباحثون والدارسون، لتراجع مكانتها في المجتمع، وصعوبة التحقق بها في التعلم والاختصاص. [ ص: 18 ] نعود إلى القول: بأن اللغة شيء، وعلوم اللغة شيء آخر، وتعلم علوم اللغة لا يعلم اللغة وإنما يحمي اللغة، فللغة أساليب لتعلمها وتعليمها. ذلك أن الهدف الأساس لتعليم العربية وتعلمها هـو إكساب المتعلم القدرة على الاتصال اللغوي الواضح السليم المبين، سـواء كان هـذا الاتصـال شفويا أو كتابيا. والاتصال اللغوي إنما يكون بين متكلم ومستمع، أو بين كاتب وقارئ، وعلى ذلك فإن للغة فنونا هـي: الاستماع، الكلام، القراءة، الكتابة، وهذه الفنون متصـلة ببعضـها، وكل منها يؤثر بغيـره، ويمـكن القول: بأن المستمع الجيد هـو بالضرورة متحدث جيد وقارئ جيد وكاتب جيد؛ والقارئ الجيد هـو بالضرورة متحـدث جيد وكاتب جيد؛ والكاتب الجيد لا بد وأن يكون مستمعا جيدا وقارئا جيدا. ومن الملاحظ إهمال تدريس فن الاستماع، مع أنه من أهم الفنون اللغوية، يقول ابن خلدون ، رحمه الله: إن السمع هـو أبو الملكات اللسانية، فعليه يتوقف نمو الفنون اللغوية الأخرى، فالطفل يولد لا يقرأ ولا يكتب ولا يتكلم. ومن الملاحظ أيضا إهمال تدريس فن التحدث أو الكلام؛ وطرق التدريس عندنا تعتمد على الإلقاء وعدم إعطاء الحرية للتلميذ كي يتحدث.. أصبحت شكلا بلا معنى (انظر دكتور علي أحمد مدكور، تدريس فنون اللغة العربية) .

إضافة إلى أن فصل علوم اللغة عن نصوصها وجعلها علوما مستقلة بذاتها، ومقدمة على دراسة اللغة، وليست جزءا منها، أورث الكثير من العقم وتقطيع الأوصال اللغوية، وإفساد التذوق للنصوص، وأدى إلى نوع من عقدة الخوف في النطق خشية اللحن، كما أدى إلى احتباس المعنى، وعدم [ ص: 19 ] سلاسته، والانغلاق اللغوي، ولم تعد اللغة سليقة وإنما أصبحت صناعة وتكلفا؛ ولم يعد المتكلم مطبوعا، كما يقال، وإنما أصبح متصنعا مصنوعا، يلوك لسانه لوكا، مما قد يفقد اللغة عذوبتها وجرسها. فالأصل أن يتم تلقي القول السليم والقراءة الصحيحة في التعليم، فإذا حدث لحن أو خطأ صوب وأعيد اللفظ إلى الجادة. لقد أصبح الفكر يتجه إلى قواعد اللغة وسلامتها أكثر من أن يتجه إلى تفهم اللغة وتذوقها. ولعل غياب التخصص وخلل التعلم والتعليم، من أهم أسباب محنة اللغة وتراجعها والعجز عن توليد مفردات ومصطلحات تعبر عن جميع الحالات والمعلومات والأحاسيس والمعاني، والوصول إلى الحكمة في القول، وفصل الخطاب في الأداء. ونحن عندما نتكلم عن أهمية اللغة العربية في وحدة الأمة، ودورها في التشكيل الثقافي وبناء النسيج الاجتماعي، وأن الإنسان هـو اللغة، لا نعني الحط من قيمة اللغات الأخرى، ولا من أهميتها وضرورة تعلمها، بل لعلنا نقول: إن تعلمها يمكن أن يشكل ضرورة شرعية وعلمية وإنسانية، ذلك أن عالمية الرسالة الإسلامية تتطلب التضلع في عملية البلاغ المبين واعتماد أفضل وسائل الاتصـال لتبليغ القيم الإسـلامية إلى العالـم، لإلحاق الرحمة به ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ، وهذا لا يتأتى إلا بتعلم اللغات وإتقانها لمخاطبة أهلها بلسانهم. عدا عن أن اللغات تشكل نوافذ حقيقية للتعرف على حضارة وثقافة الأمم، وتاريخها، وتبصر بمداخلها وكيفية التعامل معها، وإزالة الجفوة [ ص: 20 ] والحواجز النفسية بين الأمم، وإجراء الحوار، وبناء المشترك الإنساني، وتغذية الذهن بالتنوع اللغوي، الذي يعتبر مرقاة للتنوع الثقافي. هـذا عدا عن الأهمية العلمية التي تتطلب معرفة اللغات وإجادتها، لمواكبة رحلة البحث والكشف العلمي، ومجاوزة فجوة التخلف. يضاف إلى ذلك أهمية نشر العربية وتعليمها لغير الناطقين بها، ليتم التواصل مع الكتاب والسنة دون حواجز، وللتعرف على معهود العرب في الخطاب، الذي من خلاله يفهم القرآن. إن عالمية الرسالة الإسلامية تتطلب، إضافة إلى معرفة اللغة، ترجمة معاني القرآن والقيم الإسلامية إلى اللغات العالمية، كما تقتضي ترجمة ثقافات الآخر إلى العربية لمعرفته -كما أسلفنا- شريطة أن تختار المترجمات عين فاحصة وعقل متمكن ويد حسنة الاختيار، حتى لا تتحول الترجمة العمياء إلى جسر لمرور ثقافة الآخر بغثها وثمينها إلينا. ولعل من شروط الترجمة إلى العربية التحقق من تحصين الأمة بثقافتها، لتكون الترجمة نوعا من التبادل المعرفي، والتعاون، والتعارف الإنساني، وليس ضربا من الغزو الثقافي. ونعتقد أن المسلمين تاريخيا لو ترجموا المعارف الإسلامية إلى اللغات اليونانية بدل أن يترجموا الفلسفة اليونانية وعلم الكلام إلى العربية، وما أنشأ ذلك من جدليات، واستغرق من أوقات، لحدث تغيير كبير في مسيرة الحضارة الإنسانية والإسلامية معا. [ ص: 21 ] وهنا قضية نرى أنه من المفيد لفت النظر إليها-

( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) (الأنعام:124)

- وهي أن اختيار العربية من بين سائر لغات العالم لتكون لغة التنـزيل للرسالة العالمية الخاتمة الخالدة، يعني أن العربية قادرة على أن تستوعب حركة العالم، بكل تطوراته ومتغيراته واختلافاته، وتمتلك المرونة والقدرة للتعبير عنها، والتفكير فيها، وتوليد الأحكام والمصطلحات المحركة لها ابتداء، والمستوعبة لحركتها انتهاء. إن اختيار العربية لهذه الرسالة العالمية، التي محلها الإنسان، بكل مكوناته المتنوعة، وحركته المختلفة، لا شك لأنها تنطوي على خصائص وقدرات تؤهلها لتكون لسان الرسالة العالمية، والمعبر عنها، والمحرك لإنسانها، أينما كان، بكل مستوياته الحضارية، وأحاسيسه، ومشاعره، وأنماط تفكيره وأنشطته، العلمية والأدبية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن المرونة التي تمتلكها العربية على مستوى بناء السلم الصوتي، بكل طبقاته، وإيقاعاته، واستخدام كل أجزائه وفجواته، ابتداء من عمق الحلق إلى نهايات وأطراف الشفاه واللسان تمكن الناطق بها من التعامل مع كل الحروف والأصوات واللغات، دون لكنة أو احتباس أو عطالة لبعض أجزاء السلم الصوتي ، كما هـو حال سائر اللغات الأجنبية.. إضافة إلى أنها تمتلك من غنى المفردات ما يجعلها أكثر خصوبة واستيعابا، ومن المترادفات ضمن إطار معنى عام وعريض ما يجلعها تعبر عن أدق التفاصيل والأحاسيس لكل حالة، وخاصة ضمن المعنى المشترك الواحد للمترادفات جميعا. [ ص: 22 ] والناطق بها لا يعاني من أي ضيق لأي معنى دون أن يجد له مخرجا لغويا دقيقا، كما أنه لا يعاني من أي احتباس وعجز. فاللغة وسيلة اتصال وتواصل السياسي، والمفكر، والمثقف، والفيلسوف، والمعلم، والعالم، والباحث، والقائد، والطبيب، والقاضي، والشـاهد، والمصـلح؛ هـي كلام الله للبـشر، وبلاغ الأنـبياء، والمنسوج المشترك بين هـؤلاء جميعا.. إلخ، ويكفي أن نشـير إلى أن فاعلية اللغة ودورها ورسالتها كانت وراء إخراج أمة، واستمرار تواصلها وتماسكها، رغم عوادي الدهور،

فالأمة المسـلمة: ( خير أمة أخرجت للناس ) (آل عمران:110) ،

تشكلت من خلال كلمة، وكتاب، وقلم؛ بل الأمم جميعا، كما ورد في الكتب المقدسة: «في البدء كانت الكلمة»، وإن تجلى ذلك وتوضح أكثر في الرسالة الخاتمة. وحسبنا أن نوضح أن ما تنطـوي عليه اللغة من طـاقات وفضاءات لا نهاية لها، جعلها ترتقي إلى أن تكون معجزة الرسالة الخاتمة، التي حاول الإنسان مقاربتها فبلغ آمادا هـائلة في خصوبة الذهن وقدرات العقل وحركة اللسان، فاللغة معجزة الإنسان، وآية الخلق، ودليل وجود وقدرة الخالق. وسوف تبقى اللغة مرتكز كل الأنشطة البشرية، ووسيلتها المبشرة ما بقي الإنسان على الأرض. وبعد: فهذا الكتاب يعتبر محاولة متجددة وجهدا مشتركا، إضافة لما سبق ونشر في السلسلة لاسترداد الوعي اللغوي، ودعوة إلى استيعاب وظيفة اللغة [ ص: 23 ] الاجتماعية، ودورها في معاودة إخراج الأمة، وتحقيق التواصل بين أوصالها التي تقطعت أمما، وإخراجها من عزلتها، وفك الحصار عنها، وفتح الأبواب لحركتها نحو التنمية اللغوية من الاشتقاق ، والنحت ، والتصريف ، والتعريب، والترجمة، وبناء المصطلح؛ والتأكيد أن العاميات هـي لهجات هـشة متموجة، سريعة العطب والتغيير، لا جذور لها، وأنها ملازمة للأمية، وأن التعليم كفيل بهزيمتها، لعدم امتلاكها لقابلية الحياة والامتداد. والتأكيد أن اللغة هـي المقوم الأهم لتشكيل الأمم وبناء ثقافتها، وأن محاولات الفصل بين التفكير والتعبير نوع من خداع النفس، الذي يسقط فيه البسطاء والسذج من الناس؛ وأن التعبير بلسان قوم تفكير بعقولهم؛ وأن الإحاطة بثقافة أمة وفهمها لا يتحقق إلا من خلال لسانها، مهما كانت الترجمات دقيقة؛ وأن العلاقة بين الأمم ولغاتها علاقة تبادلية، صعودا وهبوطا؛ وأن العربية، لغة الرسالة العالمية الخاتمة، تتاح أمامها اليوم الفرص الكبيرة للامتداد والعطاء، بما تتيحه حقبة «العولمة» من وسائل الاتصال والتواصل مع كل إنسان، أينما كان.

ولله الأمر من قبل ومن بعد. [ ص: 24 ]

التالي


الخدمات العلمية