علوم حضارة الإسلام ودورها في الحضارة الإنسانية

الدكتور / خالد أحمد حربي

صفحة جزء
3 - بنية المدرسة العلمية

وضع جابر مجموعة من المبادئ والقواعد التي تحكم علاقة أعضاء المدرسة، وتشكل البنية الأساسية التي تقوم عليها؛ ففي كتابه: البحث، يخصص جابر المقالة الأولى منه >[1] ليضع شروطا عامة تكاد تنطبق على أي مدرسة علمية، بصرف النظر عن موضوع البحث نفسه. ويمكن التعرف على تلك المبادئ فيما يلي: [ ص: 69 ]

أولا: ما يجب للأستاذ على التلميذ

أ - أن يكون التلميذ لينا، قبولا لجميع أقاويله من جميع جوانبه، لا يعترض عليه في أمر من الأمور، وإن كان كافيا متصورا للأمر فإن ذخائر الأستاذ العالم ليس يظهرها للتلميذ إلا عند السكون إليه والشكر له غاية الشكر؛ وذلك أن منزلة العلم نفسه، ومخالف العلم مخالف الصواب، ومخالف الصواب حاصل في الخطأ والغلط، وهذا لا يؤثره عاقل. فإن لم يكن التلميذ على هـذا القدر من الطاعة أعطاه الأستاذ قشور العلم وظاهره، أو ما يسمى بـ: العلم البراني .

وهذا المبدأ يقترب من مفهوم الطاعة بالمعنى الصوفي؛ إذ يجب على المريد الصادق أن يطيع شيخه في كل ما أذن له فيه وأمر به >[2] .

وقد ذكرت بعض المصادر >[3] أن جابرا كان معروفا بالصوفي.

ب - يقصر جابر طاعة التلميذ لأستاذه على العلم، والدرس، وسماع البرهان عليه، وحفظه، وترك التكاسل والتشاغل عنه، ولا يعمم تلك الطاعة على الأمور الحياتية؛ لأنها لا مقدار لها عند الأستاذ في هـذا الحال كالإمام للجماعة التي هـو قيم بها، وكالراعي والسائس للأشياء التي يتولي صلاحها وإصلاحها، فإن عسرت عليه أو عسر عن التقويم فإما أن [ ص: 70 ] يطرحها وإما أن يتعبه تقويمها إلى أن تستقيم. ولذلك وضع أرسطو كتبا سماها: الفلسفة الخارجة، وأمر أن تعطى للعامة من الناس، ونصح العالم أن يشغلهم بقراءتها عن ذوات الناس.

ج - يجب على التلميذ أن يكون كتوما لسر أستاذه؛ لأن التلميذ في هـذه الحال كالأرض المزروعة التي يتخذها الإنسان لصلاح حاله، فإن كانت تربتها طيبة نبت البذر فيها فأزكى وأينع، وإن كانت تربتها فاسدة قبيحة هـلك البذر فيها ولم يثمر إلا قليل النفع. ويقصد ابن حيان بالمثالين الأبله والذكي وأمثال ذلك.

د - ينبغي على التلميذ أن ينقطع إلى الأستاذ، دائم الدرس لما أخذ عنه، كثير الفكر فيه، فإن الأستاذ لا يمكنه إلا أن يعلم التلميذ أصول العلم، وعلى الثاني الرياضة به.

ثانيا: ما يجب للتلميذ على الأستاذ

أ - أن يمتحن الأستاذ قريحة المتعلم؛ أي جوهره الذي طبع عليه، ومقدار ما فيه من القبول والإصغاء إلى الأدب إذا سمعه، وقدرته على مذاكرة وحفظ ما تعلمه، فإذا وجده الأستاذ قابلا ذا أرض زكية، ترتسم فيها المعلومات ابتدأ بإعطائه أوائل العلوم التي تناسب قبوله وسنه واستعداده، وكلما احتمل الزياده زاده، بعدما يكون قد امتحنه فيما كان سقاه أولا. فإن كان حافظا وغير مضيع لما تلقاه زاده في الشرب والتعلم، وإن وجده ينسى ويتخبل في حفظه نقصه من الشرب والتعليم، وعاتبه على ذلك عتابا كإيماء من غير [ ص: 71 ] إمعان في التصريح. ثم يمتحنه بعد ذلك ثانيا وثالثا، فإن كان جاريا على وتيرة واحدة في النسيان هـزه بالعتاب، وأوجعه بالتقريع، وبالغ في توبيخه. وإن كان عند امتحانه الأول قد استيقظ تدرج الأستاذ به من مرتبة إلى مرتبة، ولا يتخطى به المراتب فيظلمه في التعليم، وذلك فساد في التعليم وضرر في العقبة عظيم جدا. ويستمر الأستاذ في التدرج بتلميذه إلى أن يبلغ آخر المراتب.

وهنا يذكرنا جابر بمبدأ تربوي مهم قال به علماء التربية في العصر الحديث، وهو مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين، من حيث كم وكيف المادة العلمية التي تعطى لهم >[4] .

وآخر المراتب التي يقصدها جابر هـي مرتبة الأساتذة، الذين يجب عليهم للتلامذة مثل ما وجب لهم في أول أمرهم.

ب - إن الأستاذ الذي يغفل عن تلميذه يكون خائنا، والخائن لا يكون مؤتمنا، ومن لم يكن مؤتمنا لم يؤخذ عنه علم؛ لأن العالم لا يكون إلا صادقا، فذلك غير عالم، هـو باسم الجهل أولى منه باسم العلم.

ويختتم جابر كلامه عن العلاقة بين الأستاذ والتلميذ بقوله: إن سبيل الأستاذ والتلميذ أن يكونا متعاطفين، بعضهما على بعض، تعاطف قبول، وأن يكون التلميذ كالمادة والأستاذ له كالصورة، وهذا إنما يكون بالقبول. [ ص: 72 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية