علوم حضارة الإسلام ودورها في الحضارة الإنسانية

الدكتور / خالد أحمد حربي

صفحة جزء
رابعا: منهج البحث العلمي عند الرازي

من الثابت أن العلماء المسلمين لم يكتبوا كتابات واضحة في المنهج كما هـو الحال اليوم، إلا أنهم قد اتبعوا طريقة أكاديمية دقيقة في الدرس والتلقين؛ إذ كانوا يتحدثون عن الموضوعات التي يكتبون فيها، وفي أثناء الحديث كان المصنف يرى أنه من الضروري أن يذكر قاعدة معينة، أو خطوة منهجية ضرورية؛ لأجل البحث وتحري الصدق وحث القارىء أو المتعلم على [ ص: 104 ] أهمية اتباع تلك الخطوة بالذات دون غيرها. ولكن هـذه القواعد كانت ترد على سبيل التنبيه لا التخصص، وهذا ما نلمسه في مجال الطب >[1] .

فلقد اهتم أطباء المسلمين اهتماما بالغا بالطب السريري، وذلك إنما يرجع إلى اهتمامهم البالغ بالمنهج التجريبي في العلوم الطبيعية، لا سيما الطبية منها >[2] . ويأتي الرازي في مقدمة هـؤلاء الأطباء الذين استخدموا هـذا المنهج؛ حيث تعد آثاره من الركائز المهمة في تاريخ هـذا العلم، ولعل أهم ما فيها هـو وضع الرازي للمبادىء الأساسية لعلم السريريات البحتة، وعدم الوقوف عند المبادىء النظرية. فلقد تحرر الرازي من تأثير المذاهب والنظريات، ولم يرض بالتسليم بما تتضمنه إلا بعد إقرار التجربة بذلك، فقد كان اهتمامه الأول منصبا على التجربة العملية؛ باعتبارها أضمن الطرق وصولا إلى الحقيقة العلمية.

وقد أدرك الرازي أن التجربة علم، ذات أصول وفروع، وكان ينصح تلامذته بإحكام الأصول وقراءة الفروع، فإنه من غير هـذين لا يصح له شيء، ولا يهتدي لأمر من الأمور في الصناعة >[3] .

ولقد طبق الرازي المنهج التجريبي بمراحله المعروفة: الملاحظة، [ ص: 105 ] والتجربة، وفرض الفروض، والتحقق منها >[4] . ويمكن الإشارة إلى ذلك بإيجاز فيما يلي:

ففي الملاحظة، وخاصة ما يسمى اليوم بـ: الملاحظة الوصفية : نجد أن أهم ما يتميز به الرازي هـو تدوينه للحالة المرضية، والتي تسمى في الطب الحديث: « الحالة السريرية ، Clinical Case». وهي السيرة المرضية لشخص معين والشكوى، ونتائج الفحص، وتطور الأعراض نحو الأحسن، أو نحو الأسوأ بسبب ظروف معينة تحيط بذلك الشخص. فإذا أصيب شخص ما بمرض من الأمراض، وأصيب شخص آخر بنفس المرض؛ ظهرت عليه الأعراض ذاتها فعندئذ يقرر الرازي بأن لدينا حالتين، وليس حالة سريرية واحدة؛ وذلك لأن لكل مريض منهما ظروفه الصحية والجسمية والنفسية الخاصة به، والتي تؤدي إلى شدة المرض، أو نقصه، أو الشفاء منه، أو الهلاك به >[5] .

ومن الأمثلة القوية على استخدام الرازي لأسلوب الملاحظة الوصفية الدقيقة ذلك الوصف الذي يعتبر الأول من نوعه في تاريخ الطب، الذي ميز به أعراض مرض الجدري والحصبة ، إذ يقول: «يسبق ظهور الجدري حمى مستمرة تحدث وجعا في الظهر، وأكلان في الأنف، وقشعريرة أثناء النوم. والأعراض الهامة الدالة عليه هـي: وجع في الظهر مع الحمى والألم اللاذع في الجسم كله، واحتقان وألم في الحلق وفي الصدر، مصحوب بصعوبة في التنفس، وسعال وقله راحة... والتهيج والغثيان والقلق أظهر في الحصبة منها في الجدري، على حين أن وجع الظهر أشد في الجدري منه في الحصبة» >[6] . [ ص: 106 ]

ولم يترك الرازي صغيرة ولا كبيرة تتعلق بالمريض إلا وسجلها في سجل خاص؛ ليعرف ما إذا كان لها من تأثير في حدوث المرض أم لا. ويتضح هـذا بوضوح من الحالات الإكلينيكية التي ذكرها في كتابه: «الحاوي». وقد اتفق كل من اطلع على هـذا الكتاب على أن هـذه الملاحظات السريرية هـي خير دليل على مهارة الرازي ودقة ملاحظاته وغزارة علمه، وقوة منطقه في استخراج النتائج من معطيات البحث «الإكلينيكي» >[7] ، وهي تتعلق بدراسة سير المرض، والعلاج في كل حالة مع تطور حالة المريض ونتيجة العلاج >[8] .

أما التجربة فقد اهتم بها الرازي اهتماما بالغا؛ باعتبارها معيار الفصل بين الحق والباطل. فما تثبته التجربة فحق ومقبول، وما لم تثبته فباطل ومرفوض، حتى وإن كان قائله من فطاحل العلماء. وقد ترك الرازي نصوصا بليغة كثيرة في أهمية التجربة منها >[9] : [ ص: 107 ] - وتكون الدعاوى عندنا موقوفة إلى أن تشهد عليها التجارب... ولا نحل شيئا من ذلك عندنا محل الثقة إلا عند الامتحان والتجربة.

- إن الشكوك المغلطة تقع على الأكثر في الفن النظري أكثر منه في التجربة.

- العلم الذي يطمئن إلى مذهب مقضي عليه بالوقوف والعزلة؛ لأن إدماج المعلومات في مذهب يعد بمثابة تحجر علمي.

- عندما تكون الواقعة التي توجهنا متعارضة والنظرية السائدة، يجب قبول الواقعة ونبذ النظرية، حتى وإن أخذ بها الجميع نظرا لتأييد مشاهير العلماء. وإذا قال الرازي رأيا فقيل له: ولكن من قبلك رأوا غير ذلك. فيجيب: هـؤلاء رجال ونحن رجال >[10] .

ويمكن الوقوف على عدة أنواع من التجارب عند الرازي >[11] إلا أن أهمها هـو ما يعرف بالتجربة الموجهة؛ حيث لم تكن التجربة عند الرازي تجربة اتفاقية كتلك التي وجدناها عند الأطباء اليونان، بل كانت تجربة موجهة؛ أي: ترتبها فكرة مسبقة، ومن أمثلة هـذه التجربة أن الرازي حينما أراد أن يتحقق من أثر الفصد كعلاج لمرض السرسام، قسم مرضاه إلى مجموعتين؛ عالج إحداهما بالفصد، وامتنع عن فصد الأخرى، ثم راقب الأثر والنتيجة في كل أفراد المجموعة، حتى انتهى إلى حكم في قيمة العلاج، ويقول في ذلك: [ ص: 108 ] «فمتى رأيت هـذه العلامات فتقدم في الفصد، فإني قد خلصت جماعة به، وتركت متعمدا جماعة استوى بذلك رأيا، فسرسموا كلهم» >[12] .

وهاك مثال آخر من «المرشد» يدل على فهم الرازي لما يجب أن تكون عليه التجارب من ضرورة وجود موجهات أو ضوابط «Controls» إذ يقول:سافر رجل نبيل في الصيف أياما، ورجع وبه حمى مطبقة قوية الحرارة جدا، فألزمنيه بعض الملوك، فلما كان في اليوم الرابع قلق جدا واشتدت حمرة لونه، وأقبل بغير أشكاله، ويضرب بنفسه الأرض، وصار الهواء الذي يخرج بالتنفس من الحرارة إلى أمر عظيم جدا. وحدث عليه بعد هـنيهة خفقان، وكنت أقدر أنه سيرعف، فلما بقي على تلك الحال ساعتين وأكثر أمرته أن يحك داخل أنفه طمعا في انفجار الدم. فلما لم يكن ذلك، ورأيت الحرارة والكرب والقلق يتزايد سقيته مقدار عشرة أرطال من الماء الصادق البرد جدا، فخسر مكانه وانطفأ ما به، ودر بوله، ولانت حماه >[13] .

ففي هـذه الحالة «وهي ضربة شمس، Sun stroKe» كان ارتفاع درجة الحرارة بمثابة موجه للرازي في تقديم العلاج المناسب، والذي تمثل في الماء البارد الصادق البرد جدا. [ ص: 109 ] وهذا النوع من التجارب لا يخرج عن ما يسـمى بالتجربة الضـابطة: «Controlled experiment»، التي تعتبر من أهم المبادىء في التجارب البيولوجية، حيث تتضمن مجموعتين متشابهتين أو أكثر >[14] (تتماثلان من جميع الوجوه، باستثناء ذلك التنوع الكامن في جميع الكائنات البيولوجية) ؛ أحدهما: هـي مجموعة الاختبار للتجربة التي يراد معرفة تأثيرها. وتختار هـذه المجموعة عادة بطريقة عشوائية. وتتوخى الطريقة التجريبية التقليدية جعل المجموعات متشابهة قدر الإمكان من جميع الوجوه فيما عدا العامل المتغير.

أما الفروض: فقد لعبت دورا بارزا في منهج الرازي العلمي، من حيث إن الفرض هـو أهم وسيلة ذهنية لدى الباحث، ووظيفته الرئيسة هـي أنه يوحي بتجارب أو ملاحظات جديدة. والواقع أن أغلب التجارب وكثير من المشاهدات تجرى خصيصا لاختبار الفروض، وهو ما فعله الرازي. ومن الأمثلة على ذلك ما يلي: [ ص: 110 ] قال الرازي: كان يأتي عبد الله بن سوادة حميات مخلطة تنوب مرة في ستة أيام، ومرة غب >[15] ومرة ربع >[16] ، ومرة كل يوم،ويتقدمها نافض يسير. وكان يبول مرات كثيرة، فحكمت أنه لا يخلو أن تكون هذه الحميات تريد أن تنقلب ربعا، وإما أن يكون به خراج في كلاه، فلم يلبث إلا مديدة حتى بال مدة، فأعلمته أنه لا تعاوده هذه الحميات، وكان كذلك، وإنما صدني فيأول الأمر عن أن أبت القول بأنه به خراج في كلاه أنه كان يحم قبل ذلك حمى غب وحميات أخر، فكان الظن بأن تلك الحمى المخلطة من احتراقات تريد أن تصير ربعا موضع قوي. ولم يشك إلي ابتداء ثقلا في قطنة (ما بين الفخذين) ، لكن بعد أن بال مدة، قلت له: هـل كنت تجد ذلك؟ قال: نعم. فلو كان كـبيرا لقد كان يشكو ذلك وأن المدة نقيت سـريعا، فدل على صغر الخراج. فأما غيري من الأطباء فأنهم كانوا بعد أن بال أيضا لا يعلمون حاله البتة.

يتضح من النص أن الرازي في محاولة تشخيصه للمرض قد افترض فرضين، بناء على ما رآه من مشاهدات: «فحكمت أنه لا يخلو أن تكون هـذه الحميات تريد أن تنقلب ربعا، وإما أن يكون به خراج في كلاه». وقد شخص الرازي المرض أولا على أنه ملاريا «تريد أن تنقلب ربعا»؛ على افتراض أنه كان يشخص ويعالج في بلد تكثر فيه القشعريرة، وهذا هـو الفرض الأول.أما الفرض الثاني فقد تمثل في وجود خراج في كلى المريض.

ولما لاحظ الرازي خروج مدة مع بول المريض، كانت هـذه الملاحظة بمثابة تأييد للفرض الثاني، فاستبقاه، واستبعد الفرض الأول وشخص المرض على أنه التهاب في الكليتين: Pyelilis. وقد قام بالعلاج بناء على هـذا التشخيص، فشفي المريض.

وهنا يذكرنا الرازي بقاعدة مهمة في المنهج العـلمي الحديث؛ وهي ما يعرف بـ: « الاستبعاد المنظم Systematic Elimation»، وتدخل علوم [ ص: 111 ] الأحياء -ومنها الطب- ضمن تطبيقاتها. فعند البحث عن سبب مرض مثلا تستبعد مختلف الأسباب المحتملة إلى أن يتبقى في النهاية مجال ضيق يمكن التركيز عليه. وهذا ما فعله الرازي بمنتهى الوضوح والدقة.

تلك كانت صورة موجزة لخطوات المنهج التجريبـي الذي اتبعه الرازي في بحثه العلمي. ومن الملاحظ أن الرازي لم يتحدث عنها صراحة كنموذج Paradiam أو موديلModel إذا ما اتبعه العالم أو الباحث تأدى منه إلى كشف علمي جديد، بل أنه أشار إلى هـذه الخطوات في كثير من كتبه، لا سيما «الحاوي» الذي يحوي أربعا وثلاثين حالة سريرية (إكلينيكية) ، والتي اعتمد عليها الباحثون للتقرير بأن الرازي قد استخدم المنهج التجريبي، وأرسى قواعد الطب السريري. وقد انعكس أثر ذلك على الإنجازات التي قدمها.

التالي السابق


الخدمات العلمية