وثيقة المدينة (المضمون والدلالة)

أحمد قائد الشعيبي

صفحة جزء
المبحث الرابع: التدابير الأمنية الخاصة بقريش

استخدمت قريش كل أساليب القمع والاضطهاد ضد كل من آمن بالله، فانقلبت كل قبيلة على أبنائها ومواليها تذيقهم ألوان العذاب وصنوفه لتصرفهم عن دين الله وتصدهم عنه، قال ابن إسحاق في هـذا الشأن: «إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله من أصحابه فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر» >[1] .

فهاجروا إلى يثرب أرسالا يتبع بعضهم بعضا، تاركين وراءهم مصالحهم مضحين بأموالهم من أجل النجاة بأرواحهم، الأمر الذي أحدث ضجة أثارت القلاقل والأحزان في أوساط مشركي مكة بشكل لم يسبق له مثيل، إذ جسدت الهجرة أمامهم الخطر الحقيقي الذي يهدد كيانهم الوثني والاقتصادي لما رأوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أصبح له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم >[2] ، بل أصبحت له دولة تدين له بالولاء والطاعة وفق «وثيقة» تنظم كل جوانب الحياة العامة سواء منها الداخلية أو الخارجية بين جميع سكان المدينة بمختلف أجناسهم ومعتقداتهم. [ ص: 157 ] أعلنت «وثيقة» المدينة صراحة أن قريشا عدو للاتحاد المديني، وحرمت على مشركي المدينة أي تعاون معها، حيث ينص البند رقم (20 ب) على أنه «لا يجوز لمشرك من أهل يثرب أن يجير أيا كان من قريش... وفي حالة الحرب يجب الامتناع عن مساعدتها بأي شـكل من الأشكال» >[3] ، «وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن»؛ والمقصود بالمشركين هـنا تلك الفئات التي بقيت على شركها في يثرب من الأوس والخزرج خاصة، فهؤلاء لا يجوز لهم إجارة قريش وتجارتها أو الوقوف أمام تصدي المسلمين لها، فالنص واضح وصريح أنه لا إجارة لعدو محارب من مشرك مهادن معنا، ولا أمان له، ولا لماله، إلا من القيادة مباشرة، فعند إباحة دم المشرك المحارب وإباحة ماله فلا يستطيع مشرك مشترك معه في العقيدة أن يحول دونه أو دون ماله >[4] . وقد جاء هـذا البند خاصا بالمشركين نتيجة للضغط المتزايد من مشركي قريش على مشركي المدينة. ( روى أبو داود في سـننه أن كفار قريش كتبـوا إلى ابن أبي ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس والخزرج ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة ، قبل وقعة بدر : إنكم آويتـم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتقاتلنه، أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح [ ص: 158 ] نساءكم.. فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم فقال: لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم.. فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا، فبلغ ذلك كفار قريش، فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون، وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء -وهي الخلاخيل- فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم أجمعت بنو النضير بالغدر... ) >[5] .

- تفتيت التجمع الوثني

استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم الأسلوب الوطني، الأسلوب العشائري في فضحه هـذا التجمع وتفتيته بكلمات بسيطة معبرة، قال: «لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ» حرك بهذه الفقرة عامـلا نفسـيا عندهم يأبون أن يعيروا به وهو الجبن، أو الخوف، أو الخـور؛ «... ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم...» حرك بهذه الفقرة عاملا نفسيا آخر وهو الترهيب من تآمر العدو الخارجي على أهل المدينة أصحاب المصير المشترك الواحد؛ « تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم...»؛ ركز الرسول صلى الله عليه وسلم في هـذه الفقرة على أخوة النسب، وعلى رابطة الماء والطين، [ ص: 159 ] وعلى شعور القوم والأهل والوطن بين المسلمين والمشركين، ليحبط كيدا أكبر من عدو أعظم، ليخذل بين الأعداء جميعهم فيجعلهم حلفاء ضد عدو مشترك واحد >[6] .

أما بالنسبة للمهاجرين فقد كتبت إليهم قريش تقول: «لا يغرنكم أنكم أفلتمونا إلى يثرب، سنأتيكم فنستأصلكم ونبيد خضراءكم في عقر داركم» >[7] ، وفي ظل التهديدات المتزايدة للمدينة من قبل مشركي مكة أعلنت «الوثيقة» لكل سكان المدينة أنه :

- لا جوار لقريش

كانت عادة الجوار >[8] متأصلة في نفوس العرب في الجاهلية إلى درجة التقديس، بحيث أصبحت من دواعي الشرف والنجدة، وقدر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إن أبقى عليها جلبت على المسلمين البلاء والخسران، فلو أن قرشيا اشتد في إيذائه وعدائه للمسلمين، ثم استجار برجل من أهل المدينة ، لما استطاع [ ص: 160 ] المسلمون أن يتخلصوا منه ولا من عدوانه لهم >[9] ، حيث إن المجتمع الإسلامي في المدينة، كان في ظروف حرب، أو أنه كان يتهيأ للحرب، لذلك وجد الرسول صلى الله عليه وسلم أن إلغاء هـذا العرف، أعنى الإجارة بموجب البند رقم (43) الذي ينص على «أنه لا تجار قريش ولا من نصرها»، هـو من مستلزمات الحالة الحربية التي يعيشها المجتمع.

ولاشك أن تمييز مشركي قريش في المعاملة أمر طبيعي، إذ أن مشركي قريش هـم الذين قاوموا الإسلام وحاولوا خنقه، وهم الذين اضطهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين حتى اضطروهم إلى الهجرة، وقد ظلوا الخصم الألد للإسلام، والعقبة الكأداء أمام انتشاره، والواقع أنه ما كان بالإمكان نشر الإسلام مادامت قريش تقف موقف العداء، وما كان من المنتظر أن تستسلم قريش إلا بحد السيف، لذلك خصهم الرسول بهذه القيود >[10] ، مراعيا في هـذا البند ألا يحدد المجير بصفة معينة كي يشمل المؤمن إلى جانب اليهودي والمشرك. فقد كان يخشى أن يلجأ القرشيون إلى أقاربهم ومعارفهم من المهاجرين فيتذكر هـؤلاء الجوار، ويقع ما لا يحمد عقباه.

وقد حـدث عام الفتح أن أجار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أبا سفيان بن حرب وأراد عمر قتله فتمسك العباس بحق الجوار. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وفق بين القرار الذي اتخذه وبين ما بقي من ذكرى الجاهلية في نفوس الصحابة، فلم يقتل أبا سفيان لساعته، ولم يتركه حرا إلى الأبد، بل [ ص: 161 ] أمر العباس أن يذهب به ليلته إكراما لما يشعر به من حق الجوار، وأن يأتي به في الصباح، فلما جيء بأبي سفيان عرض الرسول صلى الله عليه وسلم عليه الإسلام، ولكنه تردد بعض الشيء فكان هـذا العرض من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم والتردد من جانب أبي سفيان حافزا للعباس على التخلي عن جواره، ودافعا له إلى تهديده بالقتل إذا هـو أصر على شركه >[11] .

فإذا كان البند رقم (20ب) قد بين أنه لا حرمة لإجارة نفس أو مال من مشرك مديني لمشرك قرشي فإن البند رقم (43) لم يكتف بمنع المسلمين واليهود والوثنيين في المدينة من إجارة الأموال والأنفس القرشية فحسب بل نص على أنه من ينصرها فحكمها ينطبق عليه، «أي أنه لا يجار»، كما ورد في البند «وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها».

فالحلفاء يحددون موقفهم من العدو المشترك، وأي جوار لقريش ومن نصرها يعتبر نقضا للعهد. فالحرب المعلنة بين مكة (قريش) والمدينة (المسلمون واليهود والوثنيون) بموجب «الوثيقة» لا بد أن يكون الصف الداخلي كله ضدها، ولا بد أن تكون كل الفئات ذات موقف موحد منها >[12] ، خاصة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان «يستهدف التعرض لتجارة قريش التي تمر غربي المدينة في طريقها إلى الشام، فلا بد من أخذ التعهد لئلا تؤدي إجارتهم لتجارة قريش إلى الخلاف بينهم وبين المسلمين» >[13] . [ ص: 162 ] إن غـاية صلى الله عليه وسلم الرسـول الآنيـة والملحـة من هـذه «الوثيقة» تتمثل في النقاط التالية:

1- ضمان الأمن، وتقوية الجبهة الداخلية، ودفع الأذى الذي قد يأتي من الخارج.

2- قطع الطريق على قريش كي لا تستفيد من المدينة أو من أحد سكانها، حيث حظر على من سكن في المدينة أن يئوي نفسا أو مالا لقريش. >[14] 3- إرسال السرايا، التي كانت عبارة عن دوريات حربية استكشافية صغيرة، هـدفها تأمين الدولة الجديدة وحمايتها من خصومها المجاورين إذا هـموا بالاعتداء، كعاداتهم في الغارات المفاجئة دون إنذار، وقد أحدثت أثرها في نفوسهم مما جعلهم يترددون في محاولات الاعتداء >[15] .

4- عزل قريش القوية حتى لا تتعاظم قوتها أكثر، وذلك بعقد الموادعات والأحلاف مع القبائل المحيطة بالمدينة مما يسهل على المهاجرين مهاجمة قوافلها دون أن تلقى من جوار هـاته القبائل ما يحميها من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه >[16] .

5- عدم فتح أكثر من جبهة والدولة الإسلامية لم يشتد ساعدها بعد. [ ص: 163 ] 6- منع قوافل قريش من المرور في أراضـي الدولة الإسـلامية، طبقا لما نصت عليه «الوثيقة»، وهذا لا يعد عدوانا بل هـو داخل دائرة أعمال السيادة للدولة الإسلامية >[17] .

- سد الثغرات ومنع الشبهات

أولت «الوثيقة» عنايتها واهتمامها الكبير لتنظيم حركة القاطنين بالمدينة، فلا يخرج أحد منهم إلا بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم : «وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد » وذلك لضبط تحركاتهم واتصالاتهم، وهو إجراء له ما يبرره.. فالدولة لا تزال فتية، وهي بحاجة إلى ما يشبه الجهاز الأمني المراقب والضامن لردع كل طارئ.. ويستهدف ذلك بالدرجة الأولى منعهم من القيام بأي نشاط عسكري، كالمشاركة في حروب القبائل خارج المدينة والتجسس ونقل الأخبار، مما يؤثر على أمن المدينة واقتصادها. فالرسول صلى الله عليه وسلم أراد معرفة النشاط اليهودي ليس عسكريا فحسب بل اقتصاديا (تجاريا) أيضا، قبل قرار عدم السماح بالتعامل التجاري مع قريش أو من يعادي المسلمين >[18] .

فهذا التدبير واقع لضرورات عسكرية، وهو مألوف في جميع «الظروف العسكرية، وعند جميع الدول، خيفة التجسس ونقل الأخبار» >[19] لأعداء الدولة. [ ص: 164 ]

- حرمة المدينة

المدينة هـي مركز الدولة، وأرضها وحدودها، ومركز المجتمع التعاقدي المتنوع، حباها رسول الله بالإسلام، وجعل لها حرمة كبيرة، وليس ذلك للمسلمين وحدهم، وإنما لكل من يسكنها من مسلمين ويهود ووثنيين، طبقا لما ورد في البند رقم (39) الذي ينص على «أن يثرب حرام جوفها >[20] لأهل هـذه الصحيفة» والحرم هـو ما لا يحل انتهاكه، فلا يقتل صيده، ولا يقطع شجره، والحرم مواضع معروفة محددة، خارجها حل وداخلها حرم، وحرم المدينة بين الحرة الشرقية والحرة الغربية، وبين جبل «ثور» في الشمال وجبل عير في الجنوب.. وذكر المطري في تاريخ المدينة - ومنه نسخة خطية في مكتبة عارف حكمة في المدينة المنورة- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل بعض أصحابه أن يبنوا أعلاما على حدود حرم المدينة بين لابتيها شرقا وغربا، وبين جبل ثور في الشمال وجبل عير في الجنوب، ووادي العقيق داخل في الحرم >[21] ، وبذلك أحل هـذا البند الأمن داخل المدينة ومنع الحروب والقتال بين القبائل والعشائر وثبت السلم في المدينة، فوضع حدا لأقوى عامل في خلق القلق والاضطراب، وما يجره من أمور، ولا ريب أن استعمال كلمة حرام قصد منه إعطاء السلم طابعا دينيا، فيكون أثره أقوى، كما أن هـذه [ ص: 165 ] المادة تعطينا فكرة عن كيفية ظهور بعض الحرم في الجزيرة، وقد استلزم ذلك تحديد حرم المدينة >[22] .

وفي اعتقادي أن الحكمة من رسم حدود المدينة وجعلها حرما لا يحل فيها قتال إنما يراد بذلك أن يتعود الناس الحياة الآمنة المطمئنة التي لا تكدرها جريمة ولا يعكر صفوها حرب أو شجار. ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم المدينة، حرام مـا بين حرتيها ) >[23] ، وحمـاها كله لا يختلى خلاها >[24] ، ولا ينفر صـيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشار بها، ولا تقطع شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره ولا يحمل فيها السلاح لقتال» >[25] ( وقـال صلى الله عليه وسلم : «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة ) >[26] ، «فلا تنتهك حرمة ولا يعتدى على عرض، ولا يصادر مال... إلا بحق الإسلام، وكل مواطن يخضع للإسلام فهو آمن» >[27] . [ ص: 166 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية