منهج السياق في فهم النص

الدكتور / عبد الرحمن بودرع

صفحة جزء
رابعا: القيم السياقية المستعملة في ربط الكلام (بعضه ببعض)

إن المتتبع للنص القرآني يدرك أن المسـاقات فيه تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل، مما هـو معلوم في علم البيان والمعاني >[1] ، فالضابط الذي يلزم في فهم النص هـو الالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها، مما تبينه أسباب النزول ، فإن علم المعاني والبيان إنما مـداره على معرفة مقتضـيات الأحوال وأسباب النزول؛ فأجزاء القضية الواحدة وجملها متناثرة في السـورة الواحـدة أو السور المتعددة، ولكن بعضـها متعلق ببعض، فلا بد من رد آخر الكلام على أوله وأوله على آخره لفهم مقاصد الشارع مقرونا بمعرفة أحوال نزولـه، أما إذا تفرق النظر في الأجزاء بسبب الجهل بأسباب التنـزيل فلا يتوصل إلى إدراك المقاصـد على الوجـه المراد، ويوقـع [ ص: 41 ] هذا الجهل في الشبه، ويورد النصوص الظاهرة مورد الإجمال فيقع الاختلاف والنزاع >[2] .

فلا بد إذا من مراعاة أول الكلام وآخره، وربط ذلك كله بأحوال نزوله، لبيان المعنى المراد، وتدرك علاقات الكلام بعضه ببعض بمعرفة أساليب النص القرآني، ومن هـذه الأساليب أسلوب الرد والتعقيب، وأسلوب الحوار ، وغير ذلك.

1- أثر السياق في تفسير الائتلاف والاختلاف بين الآيات

في القرآن الكريم آيات كثيرة تكررت فيها كلمات أو جمل من جهات متعددة واختلفت من جهات أخرى، والسياق اللغوي من العلامات المائزة التي ترفع إشكال اللبس، وهو ما عرف بعلم المتشابه. وقد صنف فيه العلماء ونظمه السخاوي ، وصنف في توجيهه الكرماني كتاب «البرهان»، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب الإسكافي الأصبهاني (ت.420) «درة التنـزيل وغـرة التـأويل»، [ ص: 42 ] وأحمـد ابن إبراهيم بن الزبير الغرناطي (ت.708) «ملاك التأويل».

والمتشابه : هـو إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة، ويكثر في إيراد القصص والأنباء، وحكمته: التصرف في الكلام وإتيانه على ضروب؛ ليعلمهم عجزهم عن جميع ذلك >[3] .

ومن الشواهد >[4] على ورود التشاكل بين الآيات مع الاختلاف اليسير قوله تعالى: أ- ( الحمد لله ) (الفاتحة: 2) >[5] اقترن بهذا المقطع أكثر من آية، في أكثر من سورة، وكل هـذه السور متساوية في استقلالها بأنفسها وامتياز بعضها عن بعض، ومع ذلك فقد خصت كل آية منها بورودها متلوة بصفات [ ص: 43 ] من صفاته تعالى؛ ففي الفاتحة: ( الحمد لله رب العالمين ) (الفاتحة: 2) ،

وفي الأنعام: ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ) (الأنعام: 1) ،

وفي الكهف: ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) (الكهف:1) ،

وفي سبأ: ( الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ) (سبأ: 1) ،

وفي فاطر: ( الحمد لله فاطر السماوات والأرض ) (فاطر: 1) .

فظهر أن الحمد واحد، ولكنه خصص بصفات معينة لمناسبة سياقية تفرضها في تلك السورة دون غيرها:

فأما الحمد في (الفاتحة) فقد اقترن بصفات علية هـي: «رب العالمين»، و «الرحمن الرحيم»، و «مالك يوم الدين»، وهي صفات تقطع الدعاوي وتظهر الحقائق، وتبرز إلى العيان ما كان خبرا.

وأما الحمد في (الأنعام) فيناسب ما وقع في السورة من الإشارة إلى من عبد الأنوار وجعل الشر من الظلمة، وأن الله هـو خالق السماوات والأرض؛ وهي الأجرام التي ينشأ عنها الظلمات والنور، وليست مستحقة لأن تكون معبودة كما زعم قوم إبراهيم عليه السلام من ألوهية الكواكب والشمس والقمر، فـكان إسناد خلق السماوات والأرض لله عز وجل مناسبا لسياق المعنى، فوضح التناسب والتلازم.

وما قيل في (الفاتحة) يقـال في (الكهف) (وسـبأ) ، من وضوح التناسب لما جاء فيهما في موضعه الوارد فيه، ناهيك عما ورد في خواتم الآيات [ ص: 44 ] والسور من المعاني المناسبة للمؤمنين عند خواتم أعمالهم وانقضاء أمورهم؛ نحو قوله تعالى: ( والحمد لله رب العالمين ) (الأنعام:45) و (الصافات:182) .

ب- ( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هـذه الشجرة ) (البقـرة:35) ،

وقـولـه: ( ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هـذه الشجرة ) (الأعراف:19) ،

فعطف الفعل المسند إلى المثنى «كلا» على المسند إلى المفرد «اسكن» في الآيتين معا، وفرق في أداة العطف فعطف في الأول بالواو وفي الثاني بالفاء؛ وإنما كان العطف بالفاء لما يوجد من معنى تعلق الثاني بالأول كتعلق الجواب بالشرط، وأن وجود الأكل متعلق بدخول الجنة للزوم والسكنى، فكأنه قال: ادخل ساكنا، على غرار قوله: ( قال اخرج منها مذءوما مدحورا ) (الأعراف:18) .

ج- وقوله تعالى: ( وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ) (البقرة:49) ،

وقوله أيضا: ( وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ) (إبراهيم:6)

ففي الأول جعل «يذبحون» بدلا من «يسومونكم» فلم يحتج إلى الواو، وفي الثاني [ ص: 45 ] جعل «يذبحون» معطوفا على «يسومونكم» فجاء بالواو للتعبير عن أن المكروه الذي أصابهم من قبل فرعون ضروب كثيرة، منها سوم العذاب ومنها ذبح الأبناء، ومن فوائد العطف بالواو أن الآية وردت في سياق قصة أخرى قبلها:

( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) (إبراهيم:5) ،

والقصة المعطوفة على مثلها تقوي معنى العطف.

د- ومن ذلك قوله تعالى: ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم ) (البقرة:94-95) ،

وقوله تعالى: ( قل يا أيها الذين هـادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم ) (الجمعة:6-7) ؛

ففي الأول افتتح بشرط عن ادعاء أن لهم الدار الآخرة خالصة من دون غيرهم، وهي غاية لا مطلوب وراءها، علقت صحته بتمني الموت، فوجب أن يكون ما يبطل تمني الموت المؤدي إلى بطلان شرطهم معبرا عنه بأقوى أداة؛ وهي «لن» التي تفيد القطع والبتات في فضاء النفي. أما الآية الثانية فإن الشرط علق بزعمهم أنهم أولياء لله من دون الناس، وهو مطلوب ليس غاية في التمني؛ لأنهم يطلبون بعد ذلك دار [ ص: 46 ] الثواب، إن صح لهم الوصف. فلما كان الشرط في هـذه الآية قاصرا عن الشرط في التي قبلها والدعوى غير الدعوى لم يحتج في النفي والإبطال إلى الأداة التي هـي غاية في ذلك، بل اقتصر على النفي (بما) الذي لا يفيد التأبيد، فافترق الموضعان.

هـ- ومن الفروق أيضا ما ورد بين قوله تعالى: ( قل إن هـدى الله هـو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير ) (البقرة:120) ،

وبين قوله تعالى: ( وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ) (البقرة:145) ،

وبين قوله تعالى: ( ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق ) (الرعد:37) .

لقد وردت «ما» في هـذه المواضع بمعنى «الذي»، ولكن لم جاء بعضها على لفظ «الذي»، وجاء الآخر على لفظ «ما»؟ وما الفرق بينهمـا؟ وما الفرق بـين «من بعد ما جاءك» وبين «بعد ما جاءك»؟ إذا كانت «ما» بمعنى «الذي» فإنها توافقها، ولكن «الذي» تتضمن من البيان ما لا تتضمنه «ما»، فتأتي صفة للإشارة قبلها، نحو قوله تعالى: ( أمن هـذا الذي هـو جند لكم ) (الملك: 20) ، وتأتي مقترنة بعلامات التثنية والجمع والتأنيث و «أل» التعريف، خلافا لـ «ما» التي تلزم صورة واحدة، وتأتي مبهمة. [ ص: 47 ] فإذا كانت «الذي» تمتاز عن «ما» بوجوه من البيان، فإن الآية الأولى لا يليق بها إلا اسم الموصول «الذي»؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع من اتباع اليهود والنصارى؛ بالعلم الذي حصل له بصحة الإيمان وبطلان الكفر، واسم الموصول «الذي» وقع في هـذا الموضع على العلم الذي ثبت به الإسلام، وهو الهدى النافع، الذي من الكفر، وعبر عنه بأعرف الاسمين المبهمين وهو «الذي»، أما العلم الذي سبق بـ: «ما» فالقصد منه النهي عن اتباع أهوائهم في أمر القبلة، ووجوب مخالفتهم فيه، وهو بعض الشرع لا كله، والعلم به بعض العلم بالشرع، فعبر باللفظ الأقصر «ما»، وعبر عن العلم المحيط بالشرع باللفظ الأشهر «الذي».

و- ومن الفروق أيضا قوله تعالى: ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هـذا بلدا آمنا ) (البقرة:126)

وقوله: ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هـذا البلد آمنا ) (إبراهيم:35) ،

فقد ورد لفظ (البلد) في الآية الأولى نكرة مفعولا به ثانيا، وفي الثانية معرفة مشارا إليه؛ وذلك لأن الدعوة الأولى وقعت قبل أن يكون البلد، فكأنه أشار إلى الوادي ودعا أن يجعل بلدا آمنا. أما الدعوة الثانية فقد وقعت بعد أن جعل المكان بلدا، فعرف ما هـو معروف موجود، ونكر ما كان مكانا من الأمكنة غير مشهور.

ز- ومما ورد من ذلك أيضا قوله تعالى في حال أهل الجنة: ( حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) (الزمر:71-73) [ ص: 48 ] وقال في حال أهل النار: ( حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم ) ، ففي الأول اقترن الفعل «فتحت» بالواو، وترك ذكرها في الثاني؛ وسبب تركها أن أبواب جهنم كانت مغلقة ثم فتحت لما جاءها الذين كفروا، ويفـيد أسـلوب الشرط هـذا المعـنى؛ إذ الفعل المجرد من الواو «فتحت» جاء جوابا للشرط «إذا»، أما أبواب الجنة فقـد كانت مفتوحة قـبل مجيء الذين اتقوا ربهم إليها، ولم يرد أسلوب الشرط هـنا، وكأن المخاطب متوقع تمام الكلام.

ح- ومن الشواهد أيضا قوله تعالى: ( إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) (غافر:59) ،

وقوله: ( إن الساعة آتية أكاد أخفيها ) (طه:15) ،

فما السبب في دخول اللام على خبر إن في الأول، وخلوه منها في الثاني؟

ورد الخبر مؤكدا باللام في آية «غافر»؛ لأن الخطاب فيها لقوم ينكرونها، أما الخبر غير المؤكد في «طه» فالخطاب فيه لموسى عليه السلام ، ولم يكن موسى عليه السلام ممن ينكر ذلك فيؤكد الكلام عليه توكيده على منكريه.

ط- ومن الشواهد أيضا قوله تعالى على لسان زكريا : ( قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما [ ص: 49 ] يشاء ) (آل عمران:40) وقوله على لسان مريم : ( قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) (آل عمران:47)

استعمل أيسر الفعلين وهو «يفعل ما يشـاء» مع الإيجاد الأيسر وهو الإيجاد من أبوين، واستعمل أخص الفعلين وهو «يخلق ما يشـاء» مع الإيجاد الأخص وهو الإيجاد من أم بلا أب.

ي- ومن ذلك أيضا قوله تعالى في مخاطبة بني إسرائيل ( وإذ قلنا ادخلوا هـذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ) (البقرة:58) ،

وقوله تعالى: ( وإذ قيل لهم اسكنوا هـذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين ) (الأعراف:161) ؛

اقترن فعل الأمر «كلوا» بالفاء في الأول وهو عاطف للترتيب والتعقيب والسببية، ووجهـه أن الأكل لا يكون إلا بعد الدخول ولا يكون قبله بوجه ولا معه لتعذر ذلك، وإنما يكون مرتبا عليه، وأما في الثاني فإن السكن في قوله «اسكنوا» منجر معه الأكل ومساوق له وغير مرتب عليه، فجاء كل بالحرف الصالح لمعناه. [ ص: 50 ]

2- أسلوب المحاورات وعلاقة الحوار بالسياق

الحوار فعل تواصلي بين متكلم ومتلق، ويتحقق في موقف سياقي وفضاء ثقافي واجتماعي، والقرآن الكريم هـو الكلمة الفاصلة بين الحق والباطل، وجاء الحوار فيه لبيان الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه >[6] ، وهو مليء بنماذج كثيرة من أساليب الحوار المتنوعة التي أرشد الله عز وجل نبيه لاتباعها، في مسيرته العملية والدعوية، وقد بنى من الحوار قاعدة كبرى تطبع علاقاته كلها، واتخذها وسيلة لنشر المعرفة المؤدية إلى الحق : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) (فصلت:33) ،

( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هـي أحسن ) (النحل:125) .

ومن تتبع مجاري الحكايات في القرآن عرف مداخلها وما هـو منها حق، وما هـو منها باطل، والمحاورات داخلة في هـذا الباب؛ فمن ذلك [ ص: 51 ] قوله تعالى: ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله ) (المنافقون:1) .

فهذه حكاية ممزوجة الحق بالباطل، ظاهرها حق وباطنها كذب من حيث كان إخبارا عن المعتقد وهو غير مطابق؛

فقد صحح القول بقوله: ( والله يعلم إنك لرسوله ) تصحيحا لظاهر القول،

ثم رد عليهم بقوله: ( والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) ؛ إبطالا لما قصدوا فيه.

و مما جرى تصحيحه قوله تعالى: ( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هـو أذن ) (التوبة:61) ؛

أي يسمع الحق والباطل، فرد عليهم فيمـا هـو باطل وأحـق الحق فقـال: ( قل أذن خير لكم ) ، ولما قصدوا الأذية بذلك الكلام رد الله تعالى عليهم: ( والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ) .

فأنت ترى أن الحوار موجه وهادف لإثبات الحق، وعملي يقوم على تفريغ موقف الحوار من الأفكار الجاهزة المتحكمة،

وهو المبدأ الذي تنص عليه الآية: ( وإنا أو إياكم لعلى هـدى أو في ضلال مبين ) (سبأ:24) .

فالحوار أسلوب لغوي من الأساليب السياقية، يصل المتحاورين بموضوع الكلام وصلا عمليا مباشرا، ويرسخه في أذهانهم ترسيخا؛ لأنه ضرب من الإثارة التي تستتبع الانتباه. وقد ساق القرآن الكريم آيات كثيرة تعالج قضية العقيدة بأسلوب الحوار، على لسان بعض الأنبياء الذين [ ص: 52 ] حرصوا على إثارة أسئلة تنبه أقوامهم على انحراف معتقدهم؛ من ذلك قوله تعالى: ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون ) (العنكبوت:61)

فالآية تشير إلى أن مساءلتهم عن قدرة الله وخلقه وتسخيره أسلوب يفتح المجال للحوار والإقرار بقدرة الله، ويفتح الأعين على ضلال تصورهم للألوهية. ومثل هـذه الآية في أسلوب الحوار بالمساءلة كثير في القرآن الكريم.

وهناك نوع من الأسـئلة التي تثار مع الأنبياء ولكنها غير مناسبة لسياق المرحلة ومقتضيات الدعوة، فجاءت محاورة النبي عليه السلام لقومه صرفا لهم عن مثل هـذه المواضـيع التي تخرج عن السياق العملي الجديد، وتذكر بالمواضيع المناسبة؛

كقوله تعالى: ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) (الإسراء:85) ،

فالسياق العملي الجـديد ليس في السؤال عن الروح، ولكن في الإعداد لها. وقد تكرر هـذا الأسـلوب كثيرا وفيه صرف للسائل إلى ما ينبغي أن يصرف إليه هـمه.

وهـناك نوع آخر من الأسـئلة يوجه النبي عليه السلام إلى إلقائه، ثم يوحى إليه الجـواب ليلقيه إلى قومه بيانا منه أنه معروف مقرر لا يحتاج إلى تأمل؛

نحو قوله تعالى: ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أإنكم لتشهدون أن [ ص: 53 ] مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون ) (الأنعام:19) . فقد سـألهم عمن هـو أكـبر شهادة، ثم تولى الإجـابة والإعـلان عن الحقيقة من دون انتظار ما سيلقـونه من كلام عن الشرك والشركاء، فهم في حاجة إلى معلم يعلمـهم ويبصرهم بالحقيقة، ويصدر عن قاعدة رسالية لا عن موقف ذاتي.

ولقد عرض القرآن في سور كثيرة حوار الأنبياء مع أقوامهم بالحكمة والموعظة الحسنة، مبينين ومنذرين، فاتحين أمامهم أبواب الحوار، للأخذ بأيديهم إلى طريق الإيمان والتوحيد.

- الكلام الذي يستوجب الرد والتعقيب ومن أسـاليب الحوار في القرآن الكريم ورود الحكاية مستـوجبة ردا وتعقيبا، أو غير مقتضية ذلك الرد بحسـب سياق الحال؛ فكل حكاية وقعت في القرآن الكريم فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها رد أو لا >[7] ؛ فإن وقع رد فلا إشكال في بطلان المحكي وكذبه، وإن لم يقع معها رد فذلك دليل على صحة المحكي وصدقه. [ ص: 54 ] - فأما الكلام الذي يستوجب الرد والتعقيب فنحو قوله تعالى: ( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ) ، فأعقب بقوله: ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ) (الأنعام:91) .

- وقوله تعالى: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ) (الأنعام:136)

فوقع الرد على افتراء ما زعموا بقوله: ( فقالوا هـذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ) (الأنعام:136) ،

فذكر أنه زعم زعموه، ورد عليهم في آخر الآية بقوله: ( ساء ما يحكمون ) (الأنعام:136) .

- وقوله تعالى: ( وقالوا هـذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه ) (الأنعام:138) .

فرد بقوله: ( بزعمهم ) ، وبقوله: ( سيجزيهم بما كانوا يفترون ) .

- وقوله تعالى: ( هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ) ،

فرد عليهم منبها على فساد ادعائهم بقوله: ( سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم ) (الأنعام:139) . [ ص: 55 ] - وقوله تعالى: ( وقال الذين كفروا إن هـذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ) (الفرقان:4) ، فرد عليهم بقوله: ( فقد جاءوا ظلما وزورا ) .

- وقوله تعالى: ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) (الفرقان:5-6) ، فرد بقوله: ( قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما ) (الفرقان: 7) .

- وقوله تعالى: ( وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ) (الفرقان:8-9) ، فرد عليهم بقوله: ( انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ) .

- وقوله تعالى: ( وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هـذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هـذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هـذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هـذا إلا اختلاق أأنزل عليه الذكر من بيننا ) (ص:4-8) .

ورد عليهم بقوله : ( بل هـم في شك من ذكري ) .

- وقال تعالى: ( وقالوا اتخذ الله ولدا ) (البقرة:116) ، فرد عليهم بأوجه كثيرة: [ ص: 56 ] ( سبحانه بل عباد مكرمون ) (الأنبياء:26) .

( سبحانه هـو الغني له ما في السماوات وما في الأرض ) (يونس:68) .

( لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هـدا أن دعوا للرحمن ولدا ) (مريم:89-91) .

- وقـال تعـالى: ( قالت الأعراب آمنا ) ، فرد عـليهم: ( قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) (الحجرات:14) .

- أما ما لا يستوجب الرد والتعقيب: فيدخل فيه جميع ما حكى عن المتقدمـين من الأمم السالفة مما كان حقا كقصة أصحاب الكهف، وقصة موسـى مع الخضـر، وقصة ذي القرنين، وحكاية القرآن الكريم مع الأنبياء.

ويضاف إليه حكايته مع الكفار ما اعترفوا به من ذنوبهم: ( قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين ) (المـدثر:43-44) ؛ إذ لو كان كلامهم باطلا لرد عليهم، فلم يتبع كلامهم بإبطال بل ساقه لأنه ليس بباطل، ودل المساق على صحة كلامهم. [ ص: 57 ]

3- اختلاف معاني الألفاظ المعجمية لاختلاف السياق

قد يكون للدال أكثر من مدلول، ويتحدد المدلول وفق السياق اللغوي ، ويرى بعض اللغويين الغربيين أن للكلمة أكثر من معنى؛ سواء أكان هـذا المعنى حقيقيا تصريحيا أم كان مجازيا إيمائيا، وذلك بالنظر إلى التداعيات الدلالية التي يمكن أن تحدثها الكلمة في أثناء الاستعمال، فأي كلمة قد تستدعي قيما اجتماعية أو ثقافية أو انفعالية، تعكس صورة قائلها، وتحدد بعض ملامحه النفسية >[8] . ولا يمكن استخراج المدلول المقصود من بين المدلولات المحتملة إلا بعرض الكلمة على السياق وإخراجها من عزلتها المفترضة، والكشف عما تتلفع به من الحالات النفسية والظلال الدلالية والتجارب البشرية والرصيد التاريخي الطويل.

ولقد وردت في القرآن الكريم أفعال كثيرة تتخذ معاني مختلفة بحسب مواقعها من السياق، فليس معنى الكلمة المعجمي هـو المعنى الرئيس كما درج على تقريره اللغويون وعلى تصوره علماء المعجم؛ عندما بنوا معاجمهم على وحدة محددة هـي الكلمة، ولكن لكل كلمة معاني شتى عالقة بالكلمة، والسياق هـو الذي يستدعي المعنى المناسب [ ص: 58 ] من بين تلك المعاني الكثيرة. إن الكلمة معين من الدلالات التي لا تنضب، ولا ينبغـي استئصالها من مسـاقاتها والادعـاء أن لها معـنى رئيسا ومعاني فرعية:

- ومن هـذه الكلمات الأفعال التي سماها النحاة النواسخ التي تنسخ حكم المبتدإ والخبر، فقد حدوها حدا وعدوها عدا، ولكنهم تركوا منها أفعالا أخرى مثل فعل «أتى»، فهو فعل تام، ولكنه قد يأتي في سياق النواسخ؛

نحو قوله تعالى: ( اذهبوا بقميصي هـذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ) (يوسف:93) ،

فقد ورد هـذا الفعل هـنا بمعـنى «صار» أو «انقلب» وهو استعمال خاص في هـذا الموضع، مختلف عن المعنى المتداول المشهور عند أصحاب اللغة وهو معنى المجيء، وقد ورد هـذا المعنى في الآية نفسها: ( اذهبوا بقميصي هـذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين ) (يوسف:93) ،

فقد جاء فعل «أتى» في الآية الواحدة مرتين بمعنيين مختلفين، والسياق يميز بين المعنيين.

- ومن هـذه الكلمات فعل «صار» الذي يأتي ناقصا، ويأتي تاما بمعنى «رجع» نحو قوله تعالى: ( ألا إلى الله تصير الأمور ) (الشورى:53) . [ ص: 59 ] - ومما دل على أكثر من معنى أيضا: فعل «عاد» الذي ورد بمعنى العودة وبمعنى «صار»؛ نحو قوله تعالى: ( قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ) (الأعراف:88) .

- وجاء فعـل «ارتد» بمنى الارتداد، وبمعـنى صار، نحو قوله تعالى: ( فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا ) (يوسف:96) .

- وجاء فعل «قعد» بمعنى صار؛ نحو قوله تعالى: ( لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا ) (الإسراء:22) .

- وجاء فعل «أراد» بمعنى أوشك وكاد وقرب، نحو قوله تعالى: ( فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه ) (الكهف:77) ، فهو يفيد ما تفيده أفعال المقـاربة في اقتضـاء الاسـم والخـبر، وفي الدلالة على معنى المقاربة.

- وجاء فعل «استحيا» بمعان: أحـدها معنى الحيـاء والحشمة، كما في قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي [ ص: 60 ] النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق ) (الأحزاب:53) وقوله تعالى: ( فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ) (القصص:25) ،

والمعنى الثـاني هـو الاستحياء المنسوب إلى الله سبحـانه، كما في قوله: ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ) (البقرة:26) ؛

فقيل: المعنى «لا يترك»، فعبر بالحياء عن الترك >[9] ؛ ذلك أن الحياء بموضوع اللغة لا يصح نسبته إلى الله تعالى، فلذلك أوله أهل العلم... وقد جاء منسوبا إلى الله مثبتا فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله حيي كريم، يستحيي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا. ) >[10] . أما المعنى الثالث فقد دل عليه الفعل متعديا، كما في قوله تعالى: ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ) (القصص:4) ، والمراد أن فرعون يستبقيهن أحياء.

- وجاءت كلمة «الكتاب» في القرآن الكريم حمالة أوجه دلالية كثيرة، لا يميز بعضها من بعض إلا السياق: [ ص: 61 ] فهي تعني القرآن الكريم في قوله تعالى: ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هـدى للمتقين ) (البقرة:2) .

وتدل على التوراة في قوله تعالى: ( وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هـدى لبني إسرائيل ) (الإسراء:2) .

وتدل على التوراة والإنجيل في قوله تعالى: «يا أهل الكتاب».

وتدل عـلى كلام الله المنـزل على الرسل من دون تعيـين، في قوله تعالى: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد:25) .

وتدل على اللوح المحفوظ في قوله تعالى: ( كان ذلك في الكتاب مسطورا ) (الأحزاب:6) .

وتدل كلمـة الكتاب على مطلق ما يكتبه الإنسان، في قوله تعالى: ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هـذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ) (البقرة:79) .

وتدل على سجل الأعمال الذي يفتح يوم القيامة: ( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) (الإسراء:14) . [ ص: 62 ] - وأبرز حيز لاحتمال الكلم لأكثر من معنى حيز حروف المعاني >[11] ؛ ولهذه الحروف صلة وطيدة بفهم المعاني واستنباط الأحكام من نصوص القرآن الكريم، بطريق الاجتهاد أو التأويل؛ لأن كثيرا من القضايا الدلالية والمسائل الفقهية يتوقف فهمها على فهم الدلالة التي يؤديها الحرف في النص؛ فقد تضمنت كثير من حروف العربية أكثر من معنى بحسب السياق الذي وردت فيه؛

فحـرف الجر «في» يدل على معـنى الظرفية، كمـا في قوله تعالى: ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ) (الروم:1-4) ،

ويدل على معنى المصاحبة، نحو قوله تعالى: ( قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ) (الأعراف:38) ؛

أي: ادخلوا مع أمم، ويدل على معنى التعليل نحو قوله تعالى: ( قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ) (يوسف:32) ،

ويدل على معنى الاستعلاء نحو: ( ولأصلبنكم في جذوع النخل ) (طه:71) ؛ أي: على جذوع النخل، ولكن حرف «في» [ ص: 63 ] في هـذه الآية يدل على معنى أقوى من مجرد الاستعلاء؛ وكأن الصلب من شدته ألصق المصلوب داخل جذوع النخل مجازا، حتى يجعله متمكنا على الجذع ومثلة أمام الناظرين، ويقتله ويشهره.

ويدل حرف «في» على معنى «إلى»، نحو قوله تعالى: ( جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به ) (إبراهيم:9) ،

ولكن حرف «في» في هـذه الآية يدل على معنى أقوى من مجرد رد اليد إلى الفم، وهو إدخالها في الفم والعض عليها تغيظا >[12] .

وتأتي «في» دالة على معنى المقايسة ؛ وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق، نحو: ( فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) (التوبة:38) أي فما متاع الدنيا في جنب الآخرة إلا قليل حقير.

وما يقال في حرف «في» يقال في غيره من كثير من حروف المعاني التي تحتمل أكثر من معنى، فهي أدوات يحتاج إليها المفسر والفقيه والأصولي، ومعرفتهم بمعانيها من المهمات المطلوبة لاختلاف مواقعها، ولهذا يختلف الكلام والاستنباط بحسبها، فقد تؤدي دلالة الحرف في النص إلى الاختلاف في الحكم الشرعي؛ وذلك نحـو «من» في قولـه تعالى: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر [ ص: 64 ] وأولئك هم المفلحون ) (آل عمران:104) ، احتمل حرف الجر «من» دلالتين: دلالة التبيين، ودلالة التبعيض. فالقول بأنها للتبعيض يترتب عليه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات إذا قام به بعض سقط عن بعض، فلا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر، وعرف كيف يقيم الأمر ويباشر الأحكام >[13] ، والقول بأنها للتبيين يفيد أن المخاطبين كلهم أمة مأمورة بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكل تأويل من التأويلين فهو يستند إلى معنى سياقي معين.

- ومما يحتمل أكثر من معنى في ذاته كلمات أو جمل تدل على معنيين متناقضين، ولكن السياق -وما يحيط به من قرائن- هـو الذي يخصص معنى واحدا فقط؛ فالأصل في الأمر أن يأتي بصيغة الأمر ويقصد به المعنى الظاهر نحو قوله تعالى: ( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ) (الإسراء:78) ،

وقد يقصـد بالأمر الإباحـة نحو قوله تعالى: ( وإذا حللتم فاصطادوا ) (المائدة:2) ،

وقد وردت هـذه الإباحة بعد النهي في قوله تعالى: ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) (المائدة:95) ،

وقد يطلق لفظ الأمر ويراد به التهديد؛ نحو قوله تعالى: ( فاعبدوا ما شئتم من دونه ) (الزمر:15) ،

وقد يقصد بلفظ الأمر معنى التعجيز والتحدي، [ ص: 65 ] نحو قوله تعالى: ( فأتوا بسورة من مثله ) (البقرة:23) ،

وقوله على لسان هـود عليه السلام مخاطبا قومه: ( فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ) (هود:55) .

4- التعدد والاحتمـال في معـاني النـص القـرآني بحسب معطيات السياق

قد يتعدد المعنى من خلال ما يفيده السياق اللغوي للآيات، ويقود هـذا التعدد إلى تعدد في الإعراب؛ ومن أمثلة الاحتمال والتعدد قوله تعالى: ( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هـذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه ) (البقرة:35-36) ،

يحتمل الضمير «ها» إعرابين اثنين بحسب المعنى الذي يفيده السياق اللغوي؛

أحدهما: عود الضمير على أقرب مذكور وهو الشجرة، والمعنى: فحملهما الشيطان على الزلة بسببها؛ فتكون «عن» تفيد معنى السببية >[14] . والثاني: عوده على «الجنة»؛ لأنها أول مذكور >[15] . وقيل: إن الضمير عائد على غير مذكور يفهم من المعنى الحاصل من السياق، وهو معنى [ ص: 66 ] «الطاعة»؛ بدليل قوله تعالى: ( ولا تقربا ) والمعنى: أطيـعاني بعدم قربان هـذه الشجرة، فعاد الضمير على معنى «الطاعة» المتحصل من السياق >[16] ، وقيل أيضا: إن الضمير يعود على الحالة التي كانوا عليها من التفكه ورغد العيش، بدليل قوله تعالى: ( وكلا منها رغدا ) >[17] .

5- «التقديم والتأخير» والسياق

التقديم والتأخير باب من العلم في البلاغة يتعلق بتقديم لفظ على آخر وتحويله عن مكانه الأصلي، وسنة من سنن العرب في كلامها، وسبيل «إلى نقل المعاني في ألفاظها إلى المخاطبين كما هـي مرتبة في ذهن المتكلم حسب أهميتها». >[18] .

وهو لا يخرج الشيء المقدم من تأخير أو المؤخر من تقديم عن حكمه الإعرابي الذي كان له في الأصل، ولكنه قد يخرجه عن حكمه البلاغي الذي كان له إلى حكم آخر اقتضاه المعنى.

ولهذا الباب البلاغي أهمية بالغة؛ إذ لا يتم تقديم كلام على نية التأخير أو تأخيره على نية التقديم عبثا، بل لبواعث موجبة تخرج الكلام في صورة أبلغ وأفصح. [ ص: 67 ] وقد درس علماء البلاغة >[19] والنحو >[20] والتفسير >[21] التقديم والتأخير في كتاب الله تعالى، وقدموا نماذج عملية تفيد قيمة هـذا الباب البلاغية والدلالية،

منها قوله تعالى: ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا ) (الإسراء:31) ؛

أي: خوف إقتار وفقر في حالة، وهو إخبار عن العرب؛ لأنهم كانوا يئدون البنات خشية العار، وربما قتلوا بعض الذكور خشية الافتقار والعيلة على أنفسهم بالإنفاق عليهم، فوعظهم الله في ذلك وأخبرهم أن رزقهم ورزق أولادهم على الله.

فالآية الكريمة دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده؛ لأنه نهى عن قتل الأولاد، كما أوصى الآباء بالأولاد في المـيراث، خلافا لما كان عليه أهل الجاهلية من عدم إيراث البنات ومن قتلهن، فنهى الله تعالى عن ذلك

وقال: ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) ؛

أي: خوف أن تفتقروا في ثاني الحـال، ولهذا قدم الاهتمام برزقهم فقال: [ ص: 68 ] ( نحن نرزقهم وإياكم ) ، ( وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنها ، قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يأكل معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك. ) >[22] ، فبين الحديث علة قتل الولد وهي مخافة إطعامه، فكان السياق مناسبا للتعقيب القرآني بتقديم رزق الولد على رزق الوالد.

أما في الأنعام فنجد قوله تعالى: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ) (الأنعام:151) ، فقد قدم رزق الوالـد على الولد وهـو خطاب للفقراء المقـلين؛ أي: لا تقتلوهم من فقر بكم؛ فحسن ( نحن نرزقكم ) ؛ أي: نرزقكم ما يزول به إملاقكم، ثم قال: ( وإياهم ) ؛ أي: نرزقكم جميعا، خلافا للآية السابقة التي قدم فيها رزق الولد على رزق الوالد؛ لأنها خطاب للأغنياء؛ أي خشية فقر يحصل لكم بسببهم >[23] ، والخشية إنما تكون مما لم يقع فكان رزق أولادهم هـو المطلوب دون رزقهم لأنه حاصل؛ فكان أهم فقدم الوعد برزق أولادهم على الوعد برزقهم >[24] . [ ص: 69 ] والخلاصة في الفرق بين الآيتين أن الباعـث على القـتل في قوله: ( من إملاق ) الإمـلاق الناجز، والباعـث على القـتل في قوله: ( خشية إملاق ) الإملاق المتوقع >[25] ، وهذا الفرق بين الآيتين إنما هـو فرق بين معنيين سببهما تقديم اللفظ أو تأخيره.

- تقديم المعمول على عامله

ومن أنواع التقديم والتأخير تقديم المعمول على العامل، وتقديم المعمول على غير العامل.

فمن نماذج تقديم المعمول على عامله قوله تعالى: ( إياك نعبد وإياك نستعين ) (الفاتحة:5) ؛

فقد تقدم المفعول به: «إياك»، على فعل العبادة وفعل الاستعانة دون فعل الهداية؛ فلم يقل «إيانا اهد» كما قال في ( إياك نعبد ) ، وسبب ذلك أن العبادة والاستعانة مختصتان بالله تعالى، فلا يعبد أحد غيره ولا يستعان بأحد غيره.

وهذا نظير قوله تعالى: ( بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) (الزمر:66) ،

وقولـه: ( واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ) (البقرة:172)

فقـدم المفعـول به على فعل العبادة في الموضعين؛ لأن العبادة مختصة بالله تعالى. [ ص: 70 ] ومن ذلك قوله تعالى: ( وعلى الله فليتوكل المتوكلون ) (إبراهيم:12)

وقوله: ( عليه توكلت وإليه أنيب ) (هود:88) ،

فقدم الجار والمجرور للدلالـة على الاختصـاص؛ وذلك لأن التوكل لا يكون إلا على الله وحده، والإنابة ليست إلا إليه وحده.

ومنه كذلك قـوله تعالى: ( قل هـو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هـو في ضلال مبين ) (الملك:29) ،

قـدم الفعـل «آمنا» على الجار والمجـرور «به»، وأخر «توكلنا» عن الجـار والمجرور «عليه»؛ وذلك لأن الإيمـان لا ينحـصر في الإيمان بالله فقط، بل يضم إليه الإيمـان برسله وملائـكته وكتـبه واليوم الآخر؛ لأنها أركان الإيمان الصحيح، بخـلاف التوكل فإنه لا يجوز إلا على الله وحده لتفرده بالقـدرة والعلم، فقدم الجار والمجرور فيه ليؤذن باختصاص التوكل من العـبد على الله دون غـيره ممن لا يملك ضرا ولا نفعا فيتوكل عليه.

ومثله أيضا قوله تعالى : ( ألا إلى الله تصير الأمور ) (الشورى:53) ،

وقولـه تعالى: ( إليه يرد علم الساعة ) (فصلت:47) . [ ص: 71 ]

- تقديم اللفظ على غير العامل

وهو التقديم الذي يقتضيه المقام وسياق الكلام، وهو المعروف بـ: التقديم للعناية والاهتمام، >[26] ووضع الكلمات الوضع المناسب الذي تستحقه في التعبير. ولكن لا يكفي أن يقال: إن تقديم المؤخر إنما كان للعناية والاهتمام. من غير بيان موضع تلك العناية، والبواعث التي أخرجت الكلام في صورة أبلغ وأفصح.

فمن ذلك قوله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات:56) ، قدم الجن على الإنس؛ لأن الجن خلق قبل الإنس؛ بدليل قوله تعالى: ( والجان خلقناه من قبل من نار السموم ) (الحجر:27) .

ونحو قوله تعالى: ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) (البقرة:255)

لأن السنة وهي النعاس تسبق النوم، فبدأ بالسنة ثم عطف عليها النوم.

ومن ذلك تقديـم عاد على ثمود ؛

قال تعالى: ( وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم ) (العنكبوت:38)

فـإن عـادا أسـبق من ثمود.

وتقـديم الليل على النهار، والظلمات على النور ؛

قـال تعـالى: ( وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون ) (الأنبياء:33) [ ص: 72 ] وقال: ( يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) (النور:44)

فقـدم الليل على النهار لأنه أسبق منه؛ وذلك لأنه قـبل خلق الأجرام كانت الظلمـة، وقـدم الشمس على القمر لأنها قبله في الوجـود. ومثل هـذا التقديـم تقديـم الظلمات على النور؛

قال تعالى: ( وجعل الظلمات والنور ) (الأنعام:1) ، وذلك لأن الظلمة قبل النور.

ومن مواضـع التقديم والتأخير قوله تعالى: ( يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه ) (المعارج:11-14) ،

قدم البنين ثم الصاحبة ثم الأخ ثم العشيرة.

أما في قوله تعالى: ( فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) (عبس:33-37) ،

فقـد بـدأ بالأخ ثـم الأم ثـم الأب ثم الصاحبة ثم الولد؛ ذلك أن المقام هـنا مقام فرار، والإنسـان عندمـا يفر ويريد أن يخلو لنفسه، فإنه يفر من الأباعد أولا، ثم ينتهي بأقـرب الناس إليه، فيـكونون آخر من يفر منهم، وواضح أن الابن ألصـق الناس بالرجل، ثم الزوجـة، ثم الأم والأب، وأخيرا الأخ، فرتبهم ترتيبا تصاعـديا بحسـب عمق المنزلة وشـدة القرب، وقدم الأم عـلى الأب لأن الأم أكثر حاجة إلى المسـاعدة، فالفرار [ ص: 73 ] منها أولى، أما الأب فمظنـة النصر والتأييد، فهو أقرب من الأم؛ لذلك أخر >[27] .

ومما ورد فيه تقديم يخالف ظاهر المعنى والأصل فيه التأخير،

ما ورد في قوله تعالى: ( كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون فيقولوا هـل نحن منظرون ) (الشـعراء:200-203) ،

فقـد عقب «إتيان العذاب بغتة» بعد «الرؤية»، ولا يستقيم في الظاهر «إتيان العذاب بغتة» بعد أن شوهد ورؤي، فلكي يستقيم تأويل الآية والسياق لا بد من حمل المعنى على وجه يصح فيه معاقبة الإتيان له، وهذا الوجه هـو أن يراد «بالرؤية» مشارفتها ومقاربتها >[28] ، فإذا حملت الرؤية على المشارفة استقام تعقيبها بالإتيان بغتة، وإطلاق الفعل في كلام العرب وإرادة معنى المشارفة والقرب كثير؛

نحو قوله تعالى: ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين ) (البقرة:180) ، [ ص: 74 ] أي : إذا قارب حضور الموت.

وقوله تعالى: ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ) (البقرة:231) ،

والمعلوم أن الإمساك أو التسريح لا يكونان بعد بلوغ الأجل، وإنما المراد: فقاربن بلوغ الأجل >[29] .

ومما ورد فيه إشكال في الرتبة في ظاهر اللفظ قوله تعالى: ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير ) (الحج:63)

فقد وردت الفاء للتعقيب من غير مهلة، وإصباح الأرض مخضرة بعد نزول الماء إنما يكون بعد مهلة، والجواب أن هـذه الفـاء فاء السببية >[30] ، وفاء السبـبية لا يشترط فيها المهلة، وإنما شرطها أن يكون ما بعدها مسببا عما قبلها >[31] .

6- أثر السياق في بيان مقاصد التنزيل ودفع شبهة التأويل

يقع كثير من الناس في الوهم والخطأ عندما يعمدون إلى تفسير بعض الآيات بالظاهر تفسيرا يتعارض وحقيقة ما أنزلت بسببه، من ذلك تفسيرهم [ ص: 75 ] لفظ «التهلكة» في قوله تعالى: ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) (البقرة:195) باقتحام ميادين القتال ومنازلة العدو، ومن ذلك ما روي " عن المغيرة >[32] : قال: بعث عمر جيشا فحاصروا أهل حصن وتقدم رجل من بجيلة فقاتل فقتل فـأكثر الناس فيه يقـولون: ألقى بيده إلى التهلكة. فبلغ ذلك عمر بن الخطـاب رضي الله عنه ، فقال: كذبوا، أليس الله عز وجل يقول: ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد ) ؟ " فأنت ترى كيف أن عمر رضي الله عنه صحح ما علق بأذهان الناس من معنى هـذه الآية، وذلك بوضعها في سياقها، وأعطاهم أنموذجا قويما ونهجا سليما في فهم معاني الآيات.

لقد وردت هـذه الآية في سياق معين لا ينبغي عزلها عنه والاستدلال بها على ظاهر اللفظ، فإن الاستدلال بها مقتبسة من القرآن الكريم إخراج لها من سياقها الذي وردت فيها، وإكراه لها على إفادة معنى لا تعنيه، فقد وردت مسبوقة بآيات في القتال وعدم إمساك اليد عن الإنفاق؛ لأن الإمساك هـو منتهى التهلكة؛

قال الله تعالى: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل [ ص: 76 ] ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) (البقرة:193-195) ففيه الأمر بالإنفاق في سبيل الله؛ أي في طريقه الذي أمر أن يسلك فيه إلى عدوه من المشركين لجهادهم؛ فإن الله يعوض المنفقين أجرا ويرزقهم عاجلا. فإن تركوا النفقة عرضوا الجهاد للخطر؛ لأنه يحتاج إلى تجهيز بالمال والعتاد، ولذلك سمي البخل: هـلاكا، وهو في الأصل انتهاء الشيء في الفساد، ثم يأمر الله الأمة بالمزيد من البذل والعطاء: ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) .

ومن الأمثلة التي تبين قيمة السياق الخارجي في بيان مقاصد التنـزيل ودفع شبهة التأويل، ( أن مروان بن الحكم أشكل عليه المراد من قوله تعالى: ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ) (آل عمران:188) ؛ فقال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي، وأحب أن يحمـد بما لم يفعل معذبا لنعـذبن أجمعون. فقال ابن عباس : وما لكم ولهذه، إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس: ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ) (آل عمران: 187) حتى قوله: ( لا تحسبن الذين يفرحون بما [ ص: 77 ] أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ) (آل عمران: 188) ) >[33] . فبين عبد الله بن عباس لمروان بن الحكم أن المخاطبين بالآية وما فيها من وعيد وتهديد هـم اليهود الذين كتموا العلم وأخبروا بغيره، فهذا السبب من أسباب النزول يخصص المراد من الآية ولا يعمم الحكم إلا إذا تكرر السبب أو حدث نظيره.

7- المناسبة بين آيات القرآن الكريم

ومعرفـة المناسبات بين الآيات مظهر من مظـاهر مراعاة السياق في الفهم والتفسـير، وهو موضـوع ألف فيه العلماء، وأفرده بالتأليف أبو جعفر بن الزبير شيخ أبي حيان في كتاب «البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن»، وبرهان الدين البقاعي في كتاب «نظم الدرر في تناسب الآي والسور»، وفي تفسير الرازي نماذج كثيرة منه، «والمناسبة في اللغة المقاربة، والمناسبة في فواتح الآي وخواتمها ومرجعها والله أعلم إلى معنى ما، رابط بينهما عام أو خاص، عقلي أو حسي أو خيالي وغير ذلك من أنواع العلاقات»، «وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بأعناق بعض فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء، وقد قل اعتناء [ ص: 78 ] المفسرين بهذا النوع لدقته، وممن أكثر منه الإمام فخر الدين الرازي ، وقال في تفسيره: أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط.

وقال بعض الأئمة: من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض لئلا يكون منقطعا، وهذا النوع يهمله بعض المفسرين أو كثير منهم، وفوائده غزيرة، قال القاضي أبو بكر ابن العربي في «سراج المريدين»: ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني علم عظيم» >[34] .

هذا ويشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر، ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا برباط ركيك يصان عنه حسن الحديث فضلا عن أحسنه >[35] . أما القول بأنه لا يطلب للآيات الكريمة مناسـبة لأنها حسب الوقائع المتفرقة، فالجواب عنه أن نزول الآيات على حسب الوقائع تنـزيلا وعلى حسب الحكمة ترتيبا، وسوره مرتبة بالتوقـيف. والـذي ينبغي في كل آية أن يبحث عن [ ص: 79 ] كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها، ففي ذلك علم جم، وهكذا في السور يطلب وجه اتصـالها بما قبلها وما سيقت له >[36] .

ومن أنواع ارتباط الآيات بعضها ببعـض تعـلق الكلام بعضه ببعض وعـدم تمامه بذاته، وهذا النوع واضح، ونوع تكون فيه الآية الثانية للأولى على جهة التأكيد والتفسير أو الاعتراض والتشديد، وهذا القسم واضح أيضا، ونوع آخر لا يظهر فيه ارتباط الآية بالأخرى بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن الأخرى وأنها خلاف النوع المبدوء به، ومثل ذلك:

- أن تكون الجملة معطوفة على ما قبلها بحرف من حروف العطف المشرك في الحكم؛

كقوله تعالى: ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ) (سبأ:2) ،

وقوله: ( والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون ) (البقرة:245) ،

وفائدة العطف جعلهما كالنظيرين والشريكين، وكقوله تعالى: ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق [ ص: 80 ] نحن نرزقكم وإياهم ) (الأنعام:151) ؛ عقب سبحانه التكليف المتعلق بالوالدين بالتكليف المتعلق بالأولاد لكمال المناسبة >[37] .

- وقد تكون العلاقة بينهما علاقة مضادة، وهذا كمناسبة ذكر الرحمة بعد ذكر العذاب، والرغبة بعد الرهبة، وعادة القرآن العظيم إذا ذكر أحكاما ذكر بعـدها وعدا ووعيدا؛ ليكون ذلك باعثا على العمل بما سبق، ثم يذكر آيات التوحيد والتنـزيه ليعلم عظم الآمر والناهي، والقرآن الكريم مليء بهذه المقابلات.

- وقد تأتي الجملة معطوفة على ما قبلها ويشكل وجه الارتباط، فتحتاج إلى شرح وتأويل؛ لاستكشاف سياق الجمع بين الجملتين.

ومن صور ذلك قوله تعالى: ( يسألونك عن الأهلة قل هـي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون ) (البقرة:189) ، فقد يقال: أي رابط بين أحكام الأهلة وبين حكم إتيان البيوت؟ وجه اتصـاله بما قبله أنهم سألوا عن الأمرين، أو أنهم لما سألوا عما لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوة وتركوا السـؤال [ ص: 81 ] عما يعنيـهم ويختص بعلم النبوة -فإنه عليه الصلاة والسلام مبعوث لبيان الشرائع لا لبيان حقائق الأشياء- عقب بإجابتهم عما سألوا تنبيها على أن اللائق بهم أن يسألوا مثل ذلك ويهتموا بالعلم به، وإما على سبيل الاستعارة التمثيلية بأن يكون قد شبه حالهم في سؤالهم عما لا يهم وترك المهم بحال من ترك الباب وأتى من غير الطريق؛ للتنبيه على تعكيسهم الأمر في هـذا السؤال، والمعنى: وليس البر بأن تعكسوا مسائلكم ولكن البر من اتقى ذلك ولم يجترئ على مثله، وأتوا البيوت من أبوابها؛ إذ ليس في العدول بر فباشروا الأمور من وجوهها واتقوا الله في تغيير أحكامه والاعتراض على أفعاله لعلكم تفلحون.

ويجوز أن يكون الجامع بينهما أن الأول قول لا ينبغي، والثاني فعل لا ينبغي >[38] .

ومثل ذلك قوله تعالى: ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هـو السميع البصير وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هـدى لبني [ ص: 82 ] إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ) (الإسراء:1-2) فإنه قـد يقال: أي رابط بين «الإسراء» و «وآتينا موسى الكتاب»؟ وجه اتصال الآية الثانية بالتي قبلها أن التقدير: أطلعنا موسى على الغيب، وأخبرناه بوقـائع من سـلف؛ لتقوم أخباره على معجزته برهانا؛ أي سبحان الذي أطلعك على بعض آياته لتقصها ذكرا، وأخبر بما جرى لموسى وقومه في الكرتين؛ لتكون قصتهما آية أخرى. ثم ذكر بعده ( ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا ) ؛ ليتذكر بنو إسرائيل نعمة الله عليهم قديما حيث نجاهم من الغرق؛ إذ لو لم ينج أباهم من أبناء نوح لما وجدوا >[39] .

وهناك مظـهر آخر من مظاهر المناسبة بين الآيات: وهو مناسبة صدر السـورة أو أوائل الجمل لما يعقبها من كلام، أو ما يمكن أن يدعى بالاستهلال أو الافتـتاح؛ حيث يكون الكلام المستهل به ذا أهمـية وعنـاية وتركيز، مما يؤثر في أجزاء الكـلام اللاحـق ويستحق بذلك التقديم والاستهلال؛ وقـد ذكر العلمـاء الحكمـة في افتتـاح سورة الإسـراء بالتسبـيح وافتتاح سـورة الكهف بالتحميد؛ أن التسبيح حيث جاء مقدم على التحميد؛ يقال: سبحان الله والحمـد لله، [ ص: 83 ] وأن سـورة الإسـراء افتتحت بحديث الإسراء وهو من الخوارق الدالة على صـدق النبوة والرسـالة، والتسـبيح تنـزيه لله تعالى عما صدر عن الكفار من تكـذيب بشـأن الإسراء تكـذيب عـناد، فنزه نفسـه قبل الإخبـار بهذا الذي كذبوه. أما سـورة الكهف فإنه لما احتبس الوحي وأرجف الكفـار بسبب ذلك أنزلها الله ردا عليهم، وأنـه لم يقطع نعمه عن نبيه صلى الله عليه وسلم بل أتم عـليه بإنزال الكتاب، فناسب افتتاحها بالحمد على هـذه النعمة >[40] .

وأما سورة سبأ فلما تضمنت ما منح الله سبحانه داود عليه السلام من تسخير الجبال والطير والريح وإلانة الحديد ناسب ذلك ما به افتتحت السـورة من أن الكل ملكه وخلقه، فهو المسخر لها والمتصرف في الكل بما شاء، فقال تعالى في أول السورة: ( الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة ) (سبأ: 1) ؛ فالارتبـاط واضـح بين افتتاح كل من هـذه السور وبما يليها من موضوع السورة والقضايا التي تعالجها.

وهكذا فإن الكلمة الأولى أو الجملة الأولى في أول السورة تعد أمارة ومعلما على ما بعدها، وهذا مظهر من مظاهر تماسك النص [ ص: 84 ] وتناسب أجزائه >[41] ، والملاحظ هـنا أن السياق اللغوي للقرآن الكريم على أهميته في تفسير معنى الآيات ليس كافيا وحده؛ فلا بد من مواكبة هـذا المنهج اللغوي الداخلي لمنهج آخر خارجي؛ وهو المؤلف من عوامل أخرى مساعدة على الفهم والتفسير هـي أسباب النزول ومصادر التاريخ والسيرة، وغير ذلك... وإذا تعارض المنهجان قدم التفسير بالآثار والنصوص النقلية والروايات الصحيحة.

8- المناسبة الصوتية لسياق الكلام، وأثرها في بيان المعنى

لا شك أن اللغـة العربية من أدق اللغـات احتفاظا بالمعاني الفطرية للحروف؛ أي بحركة الإنسان الأول في الإشارة إلى المعاني؛ ذلك أن كثيرا من الحروف لها دلالة في ذاتها قبل أن تقترن بغيرها من الحروف؛ فمن ذلك دلالات النـداء والتعجـب والتأوه والأنين والإشارة والتنبيه وغير ذلك من المعاني التي تدعو إليها معاناة الحياة الفطرية الأولى >[42] . [ ص: 85 ] فالنداء يعتمـد على أصـوات الحلق المقذوفة من الجـوف مطلقة في الهواء؛ لتبلغ بالصوت أقصـى ما يطيقـه تدافع النفس. وكذلك الإشارة والتنبيه يتطلبان من صـاحبيهما إرسال الصوت خارجا من الحلق إلى المشار إليه أو المنبه، وهكذا في أكـثر الحروف المجردة؛ فالهمزة الممـدودة هـي الصـدى الصـوتي الذي يراد به التنبـيه والإشارة والنداء، وحروف النداء تعتمد على الهمزة، أما الياء الممدودة فهي تسهيل لمجرى الهمـزة وتليين لها، وتأتي الهمزة للدلالة على الاستفهام، والتعجب من طريق الاسـتفهام، وتثبت الهمزة في أول التعجب كقـولك: ما أكرمه وهو أكرم من فلان. ويشترك مع الهمزة حرف الهاء، واحتفظت العربية بالهمزة في أكثر حروف الاستفهام نحو: أين، وأنى. وأما الهاء فأكثر موردها على التنبيه والدلالة والإشـارة، مثلـما وقعت في أسماء الإشارة: هـذا، وهذه، وهؤلاء، وما كان نحوهن، وضمائر الرفع المنفصـلة التي تدل على الغيبة نحـو: هـو، وهي، وهما، وهم، وهن، التي فيها معنى الإشارة إلى الغائبين.

هذا، وقد ذكر العلمـاء والباحثـون أن لكل جمهور من حروف العربية مجرى ودربا تتفـرع منه شعبه، ويسـهل معه الإبانة عـن [ ص: 86 ] الأصـوات وحـكايتها وأسمائها، التي جعلتها اللغـة لها في أعـمال الإنسان والحيوان والجماد >[43] .

وإذا توالت الأصوات، مع ما في كل صوت من معنى فطري غفل ساذج نشأ معه بغير صنعة، أعطت سياقا صوتيا مركبا ذا دلالة مركبة، ويعد السياق الصوتي في الآيات القرآنية مظهرا من مظاهر السياق اللغوي؛ فقد اعتنى القرآن الكريم باختيار الأصوات الدقيقة المناسبة للأحوال الدلالية المختلفة؛ لأن للأصوات والحروف حرارة وتوهجا يضيء المعنى المراد، فكانت كل كلمة بما تتألف به من أصوات، مناسبة لصورتها [ ص: 87 ] الذهنية؛ فما كان يستلذه السمع ويستميل النفس فحظه من الأصوات الرقة والعذوبة، وما كان يخيفها ويزعجها فحظه من الأصوات الشدة، وهذا التناسب الصوتي بين اللفظ والمعنى وسيلة سياقية من وسائل تنبيه مشاعر الإنسان الباطنة واستثارة المعاني النفسية المناسبة للموقف الخارجي.

أ- الصوت >[44] والمعنى

وإن للصوت القرآني -إذا ما نطق به فصيحا بصفاته ومخرجه المناسب >[45] - صدى دلاليا يشيع جوا خاصا من المعاني وحقلا دلالـيا مخصوصا: [ ص: 88 ]

- دلالة الفزع والأصوات المناسبة لها:

«صرخ» و «اصطرخ»... استعمل القرآن الكريم للدلالة على الفزع ألفاظا معينة ذات أصوات مخصوصة، منها مادة: «صرخ»، التي اشتقت منها كلمات مثل الصرخة وهي الصيحة الشديدة عند الفزع أو المصيبة، والصراخ الصـوت الشديد >[46] ، وما يرافق الصراخ من الاستغاثة اليائسة التي لا تجـد أذنا صاغية،

كما في قوله تعالى: ( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا ) (فاطر:37) ؛

أي: يستغيثون بشدة وعويل وصوت مرتفع.

وأصوات هـذه المادة لها إيقاع شديد؛ فالصاد من حروف الاستعلاء >[47] والإطباق >[48] ، والطاء كذلك، وتواليهما في الآية يقوي معنى المصيبة الواقعة بهم، والخاء حرف حلقي جاف غليظ يكون معه الاستعلاء والترفع ويفيد التكره والاستبشاع والتأوه >[49] ، وقد وردت مواد لغوية توالى فيها الصاد والخاء مثل الصخ وهو الضرب بالحديد على الحديد، والعصا الصلبة على شيء مصمت، وصخ الصخرة وصخيخها: صوتها إذا ضربتها [ ص: 89 ] بحجر أو غيره، والصاخة: القيامة >[50] ، ومنه قوله تعالى: ( فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) (عبس:33-37) .

أما الصرخة فهي الصيحة الشديدة عند الفزع أو المصيبة، والاستصراخ الاستغاثة، واصطرخ القوم وتصارخوا واستصرخوا: استغاثوا. والإصراخ هـو الإغاثة وتلبية الصارخ، وقوله تعالى: ( ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ) تعني: البراءة المتناهية والإحباط التام والصوت المجلجل في الدفع، فلا يغني بعضهم عن بعض شيئا، ولا ينجي أحدهم الآخر من عذاب الله؛ فلا الشيطان بمغيثهم ولا هـم بمغيثيـه.

والصريخ في اللغة يعني: المغيث والمستغـيث معا، فهو من الأضـداد؛ قال تعالى: ( فلا صريخ لهم ولا هـم ينقذون ) (يس: 22) فيا له من موقف خاسر وجهد بائر، فلا سماع حتى لصوت الاستغاثة، ولا إجارة مما وقعوا فيه >[51] .

- دلالة المخاصمة والعناد والأخذ والرد، والأصوات المناسبة لها:

مادة «شكس» في قوله تعالى: ( ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ) (الزمر: 29) ، والشركاء المتشاكسـون هـم: العسرون المختلفـون الذين [ ص: 90 ] لا يتفقون، والتشاكس معنى يفيد النزاع المستمر بين المتشاكسين وعدم استقرارهم على وضع معين، لا تقوى أن تدل عليه لفظة «المتخاصمين»؛ لأن أصوات التشـاكس وهي الشين والسين، تفيد مجتمعة متعاقبة معنى التضايق والتضاد >[52] ، ثم أضيف إليها الميم والتاء والألف، فارتفعت حدة الجدال بين المتجادلين.

ب- التنغيم والمعنى

التنغيم تنوع صوتي يتراوح بين الارتفاع والانخفاض في أثناء النطق، ينظم علاقة الأصوات المتتالية في السياق فتؤلف هـذه المنظومة الصوتية إطارا صوتيا لأداء الجملة >[53] ، ويعد التنغيم ظاهرة موقعية سياقية وقرينة من قرائن التعليق اللفظية في السياق >[54] ، والجمل العربية تقع في صيغ وموازين تنغيمية هـي هـيئات من الأنسـاق النغمية، كالهيئة التنغيمية لجملة الإثبات أو جملة النفي أو الاستفهام أو التعجب أو الإنكار أو الندبة أو التفجع، فلكل جملة هـيئة تنغيمية خاصة بها، ويدخل في الجملة كل حروفها وعناصرها الصوتية، وتؤلف هـذه العناصر كلها منحى تنغيميا للجملة يعين [ ص: 91 ] على الكشف عن معناها ويستطيع السامع أن يفهم مراد المتكلم استنادا إلى التنغيم .

هذا، وإن للقرآن الكريم أغراضا في السياق الصوتي للآيات أو التنغيم المصاحب لأدائها، منها التنبيه والوعد والوعيد والنهي، ووصف الجنة والنار، والرد على الكفار والمشركين، ومحاورة أهل الكتاب... وليس من المناسب أن تقرأ هـذه الأغراض كلها بتنغيم واحد، بل يكون لها بحسب كل فهم حال، وقد تحدث الزركشي (794هـ) في كتابه «البرهان» عن وجوه المخاطبات في القرآن، قال: «فمن أراد أن يقرأ القرآن بكمال الترتيل فليقرأه على منازله؛ فإن كان يقرأ تهديدا لفظ به لفظ المتهدد، وإن كان يقرأ لفظ تعظيم لفظ به على التعظيم.» >[55] .

وينبغي للقارئ إذا أراد أن يحسن تلاوة القرآن الكريم أن يستعين على ذلك «بأن تكون تلاوته على معاني الكلام وشهادة وصف المتكلم من الوعد بالتشويق والوعيد بالتخويف والإنذار بالتشديد، فهذا القارئ أحسن الناس صوتا بالقرآن، وفي مثل هـذا قال تعالى: ( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ) (البقرة:121) >[56] ؛ فمن [ ص: 92 ] منازل القراءة أن التنغيم الباكي مناسب لآيات الاستغفار والتوبة، والتنغيم الحاض المحرض مناسـب لآيات القتال. وكل ضرب من التنغيم يجب أن يرافق المعنى الذي يناسبه ويظهره؛ ليجعل المقروء مستقرا في ذهن السامع وقلبه.

وقد ترد أنماط تركيبية تحتمل أكثر من معنى؛ كأن يحتمل التركيب الواحد المصدر بـ «ما» معنيين هـما الاستفهام والنفي،

كما في قوله تعالى: ( قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم ) (يوسف:25)

يحتمل حرف «ما» معنى النفي، فيكون الأسلوب إخبارا مؤكدا بالحصر، ويحتمل معنى الاستفهام لغير العاقل فيكون الأسلوب استفهاما>[57] .

ولا يخفى أن التنغيم الذي يقتضيه الأسلوب الأول يختلف عما عليه الأسلوب الثاني، أما المعنى فيتوقف على طبيعة الأداء الصوتي والهيئة التنغيمية، وليس بين المعنيين في الآية تعارض.

وقد يتعدد المعنى بسبب مساقات الكلام؛ من ذلك قوله تعالى: ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب ) (البقرة:113) ، يحتمل من سياق [ ص: 93 ] التاريخ أن يكون المراد عامة اليهود وعامة النصارى، وهو إخبار عن الأمم السالفة التي كذبت بالرسل والكتب من قبل، وبهذا التأويل تكون «أل» تفيد استغراق الجنس استغراقا عرفيا >[58] . وقيل: إن المراد يهود المدينة ونصارى نجران الذين تماروا عند الرسول صلى الله عليه وسلم وتسابوا، فأنكرت يهود المدينة الإنجيل ونبوة عيسى عليه السلام ، وأنكرت نصارى نجران التوراة ونبوة موسى عليه السلام ، فإذا ترجح أن الآية نزلت حاكية أحوال اليهود والنصارى في الخلاف بينهما حول نبوة نبييهما، تبين من السياق أن هـذا الأمر هـو حكاية حال حصل في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم >[59] وتكون «أل» تفيد العهدية الذهنية؛ لأنه معهود ذهنا من اليهود ومن النصارى.

ويدخل في هـذا التأويل الثاني نفسه أيضا أن المراد بذلك رجلان، أحدهما من اليهود قال لنصارى نجران: لستم على شيء. والآخر من نصارى نجران قال لليهود: لستم على شيء. فيكون الكلام قد وقع من بعضهم على بعض، وجرى الحكم بعدم العلم عليهم جميعا >[60] ، وبذلك لا يختلف الأمر عما قبله، من إفادة حال حاضرة. [ ص: 94 ]

ج- الوقف والمعنى

يتصل الوقف في القرآن الكريم بالمعنى والسياق اتصالا وثيقا، وممن أفرد له تأليفـا خاصا أبو بكر الأنباري النحوي (328هـ) ، صاحب كتاب: «إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل »؛ فقد ربط الوقف بالمعنى وبالفهم للقرآن، قال في ذلك: «ومن تمام معرفة إعراب القرآن ومعانيه وغريبه معرفة الوقف والابتداء فيه، فينبغي للقارئ أن يعرف الوقف التام والوقف الكـافي الذي ليس بتام والوقف القبيح الذي ليس بتام ولا كاف.» >[61] .

ومن الأمثلة التي ذكرها: « أنه لا يتم الوقف على المضـاف دون ما أضيـف إليه، ولا على المنعـوت دون النعت، ولا عـلى المرفـوع دون الرافع.» >[62] ، وبالجمـلة فإنه لا يجوز الفصل بين المتلازمين والوقف على الأول منهما.

وممن أدرك أهمية الوقف واتصاله بالمعنى الحافظ ابن الجزري الدمشقي (ت.833هـ) ، فقد فصل القول في أنواع الوقف، ورد على من تكلف [ ص: 95 ] الوقف في بعض المواضع تعسفا >[63] ، وبين أنه ينبغي تحري المعنى الأتم والوقف الأوجه، كالوقف على قوله تعالى: ( ولا يحزنك قولهم ) (يونس: 65) والابتداء بعده بقوله: ( إن العزة لله جميعا ) (يونس: 65) فالوقف الذي يراعى فيه المعنى يكون على الكلمة التي يتم بها معنى ما قبلها ولا تتعلق بما بعدها لفظا ولا معنى، وغـالبا ما يكـون في أواخر الآيات ونهاية القصص وأواخر السور.

مثلما أن الابتداء بـما له تعلق بـما قبله يفسـد المعنى؛ وذلك لشدة تعلقه بالسابق؛ والمثال على ذلك أنه لا يبتدأ بقـوله تعـالى: ( فما نحن لك بمؤمنين ) (الأعراف: 132)

وقولـه: ( اتخذ الله ولدا ) (البقرة: 116)

وقوله: ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) ؛ (المائدة: 18) فإن الابتداء بها يفسد المعنى. [ ص: 96 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية