التقنيات الحديثة (فوائد وأضرار) (دراسة للتأثيرات السلبية على صحة الفرد)

الأستاذ الدكتور / شعاع اليوسف

صفحة جزء
- الحد من سلبيات التقنية

هل يمكن الحد من بعض سلبيات التقنية إن لم يمكن منعها على الإطلاق؟

يجب أن نعرف أولا أن الدماغ البشري لم يصمم ليستوعب أو يتلاءم مع هـذه السرعة الهائلة ومع هـذا السيل الجارف من المعلومات المتدفقة؛ بل لقد خلقت جميع مظاهر الكون بتوازن مع عقل الإنسان. انظر كيف جعل الله التوازن بين المتضادات في الكون، الليل والنهار، الحركة والسكون، الشر والخير. إذن لا بد للفرد أن يفكر دائما في كيفية التوازن بين قدرة استيعاب العقل ومعطيات الحياة الحديثة، ثم يجعل تحقيق ذلك التوازن هـدفا أساسيا له في الحياة. وعادة ما يهتدي الفرد في أثناء حياته إلى ما يعيد إليه التكيف والتوازن، ولكن لا بد له من وقفة تأمل وتذكير بين الحين والآخر. وأكبر مشكلة تواجه الفرد هـي عصبونات الدماغ التي لاتغفل عن تخزين جميع التجارب الحسية والنظرية التي يمر بها، وهكذا لا ينسى الفرد بل يتناسى، وتظهر عليه دائما الخدوش والجروح التي تخلفها معطيات الحضارة أثناء [ ص: 119 ] مسيرتها. وقد واجه الفرد هـذه المشكلة على مر العصور، لكنه اليوم يعاني من تشوه العقل والجسد معا وبشكل مفرط؛ حيث تظهر عليه كافة أنواع الخدوش، وسواء أكانت تلك الخدوش ملموسة أو غير ملموسة، فإنها سوف تؤدي في النهاية إلى الألم النفسي وربما الجسدي أيضا. لقد أدى هـذا التضاد بين تصرف العقل وتصرف الجسد إلى انفصام في شخصية الفرد الحديث، وقد ظهرت بعض آثار هـذا الانفصام على شكل ارتفاع مستوى التوتر والانفعال لدى الأفراد، كذلك على شكل ضعف التركيز وكثرة النسيان، بل أصبح الفرد لا يملك حرية التصرف في حواسه، فهناك دوما ما يتسلل إلى حواسه خلسة من معطيات الحضارة الحديثة، قد يكون مفيدا وقد يكون ضارا >[1] . وعلى سبيل المثال فإن الحواس الخمس للفرد تستقبل كل ما يدور حولها ثم تخزنه بانتظـام في العقل اللاواعي بينما لا يستطيع العقل الواعي متابعة وتحليل ما تشعر به حواسه، هـكذا ينشأ التصادم بين الوعي والذاكرة الخفية للفرد. لكن هـل يتحتم على الفرد فهم وإدراك كل ما يراه أو ما يسمعه أو ما يمر به من أحداث عشوائية؟ كلا، حتى ولو حاول فلن يستطيع إلى ذلك سبيلا. ولكن لو أراد الفرد أن يختار من البدائل المطروحة أمامه فلابد أن يستوعب أولا معطيات الحضارة، ثم يتحقق مما يطرحه من بدائل مع توقع نتائجها مسبقا حتى يختار منها بإرادته. قد لايكون من صالح الفرد أن يتعمق في فهم كل ما تستقبله الحواس، أو في [ ص: 120 ] محاولة رؤية الأشياء بالمكبرات؛ لأنه قد يجدها بشعة جدا! أو في تحميل نفسه مالا تطيق،

يقول تعالى: ( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) (الإسراء:36) ،

وفي الحديث الشريف: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) (أخرجه الترمذي ) .

إن النفس البشرية كآفاق الكون الفسيح، في التكوين والتواريخ وفواصل المنحنيات، وهي تتأثر بشكل أو بآخر بكل ما يصدر من حولها من ذبذبات مختلفة، سواء كانت مادية أو معنوية، وهكذا وجب علينا الحذر في التعامل مع جميع أشكال الذبذبات الصناعية وبالذات الذبذبات الخاصة بتقنية الاتصالات.

وفي هـذا السياق نود مشاركتكم في قراءة هـذا المقال الرائع في كشف أضرار استخدام الآلة، وهو بعنوان: « الرقص فوق أسلاك إلكترونية»، بقلم الأستاذ أيمن عبوشي، والذي تم نشره في جريدة (الراية) القطرية بتاريخ 21/4/2000م:

إن الاستواء الدائم أمام شاشة الحاسوب من شأنه أن يصير البشر كائنات مروضة لا تتقن عملا ذاتيا إراديا، بقدر ما نتداول أسلاكا نحاسية في شبكة واسعة تصهر الأفراد في أتون حضارة المكننة. قبل الاجتياح التقني المادي، كان الإنسان يملك قليلا من الحرية، وكثيرا من الإرادة. فالقيود التي كبلت الإنسانية لعصور خلت نمت فيها إدراكها لجوهر قوتها ومن ثم خلقت في نفسها رغبة عارمة نحو التغيير... وأوجدت هـذه الطاقة الفكرية الهائلة عالم الأداة المعاصر، ونقلت المبادرة من يد الإنسان إلى تروس الآلة، ليستنفد [ ص: 121 ] الفرد وظائف الأداة، لكنه لم يع أنه يفقد سيطرته على نفسه ويتركها في آن معا ألعوبة في يد مجموعة من المحركات والآلات كان هـو من أوجدها.

ليست هـذه الفكرة الفلسفية اجترارا لتأملات المفكرين حول انقلاب «الروبوت» على صانعه ليصبح الإنسان الخلاق عبدا لدميته المتحركة، وليس التأمل بتلك السذاجة للتقليل من قدر المخترعين أو تحقير إنجازاتهم والتهوين من قدسية العلم، مع أن التكنوفوبيا هـاجس حقيقي يؤرق الكثيرين، والمسألة ليست في كونها ردة فعل متخـلفة حيال موجـة التقدم أو هـي خوف من قبل البعض من عدم مجاراة هـذا التطور الآلي المطرد. إن القضية تكمن في فهم أعمق لقدرات الإنسان وحاجاته قبل إطلاق العنان لشهواته، وفسح المجال أمام مكامن الراحة والانبهار في داخله للحيلولة دون أن تكون أداتنا الطيعة بندولا يرقدنا في سبات العصر الألفي الجديد.

هي ليست حرب نشنها على الوسائل الحديثة ولكنه تقييم -من طرف واحد- لنمط حياة يكسو تفكيرنا ومعتقداتنا بهالة من الأبعاد الأربعة، تلك الهالة التي كنا نأملها في أذهاننا وكانت تقودنا للابتكار، لكن حين صرنا نراها بأمهات أعيننا في شاشات الحواسيب خسرنا هـذه الموهبة وتركنا الدفة للشاشة كي تقودنا إلى عوالم الأرقام المجردة.

هذه الأسلاك النحاسية تترك في نفوس أجيال سابقة غصة من الأسى مع وداع أسلوب الحياة القديم واستقبال شكل جديد من التعامل مع الكلمة. فقبل فترة وجيزة نشر كتاب جديد على موقع خاص بالإنترنت باسم ( ركوب الرصاصة) للكاتب الأميركي «ستيفين كينغ» ، هـذا الكتاب [ ص: 122 ] لم ير النور في إطار ورقي بل حسم أمره كموقع إلكتروني يمكن الإطلال عليه عبر رصد مبلغ من بطاقة الاعتماد لأي مطل، وقد يكون هـذا الكتاب قد دق الناقوس اختفاء عالم الورق وبزوغ الصفحات الإلكترونية . بيد أن هـذا التحول الثقافي في الشبكة لا يلقى اهتماما من قبل مستخدمي الإنترنت ، أما الدارج فينحصر في مجالات الاتصالات والتخاطب والتسويق والخدمات المصرفية والتجارية والترفيهية وكل ما يتجاوز حدود القانون، أما الثقافة كمادة مطروحة فقد بهتت مع فتح الباب أمام المد الجارف من كل غث وسمين، فالكل صار بإمكانه أن يطرح ما يشاء من عصارة عقله السطحي. ويمكنك أن تجرف ما تريد من الآراء والمطروحات الهزيلة. لكن إذا أراد أحدنا أن يستدل ببرنامج البحث الذي توجـده الشبكة ليصـل إلى معتقد ما أو يبني رأيا في قضية ما فسوف يتعثر بمئات المواقع الاجتهادية من أفراد سنحت لهم فرصة التعبير هـذه عن آرائهم المستقاة من قراءات متفرقة وميول شخصية لا تضفي صفة الموضوعية على الجانب العلمي.

وفي نفس الوقت يقول الخبراء: إن تأثير الإنترنت على المطبوعات الورقية لن يكون كبيرا، على اعتبار أن الربع فقط من محتوى الشبكة، والذي يصل إلى قرابة المليار موقع، يعد حريا بالإطلاع. لكن النسبة الغالبة من الأباطيل في هـذه السوق المفتوحة لم تنفر الناس من الشاشة الإليكترونية بل بالعكس، فهي تستقطب عيونا أكثر؛ أما الكارثة فهي أن الجيل الذي بدأ ينتج من هـذه الثقافة قد اختلفت طريقة تقييمه للأشياء، وذلك لتأثره بنمطية التعاطي مع البشر والمعلومة في قنوات الاتصال الحديثة، إذ اعتمد هـذا الجيل [ ص: 123 ] على وسائل الراحة والترفيه وغيرها من البدائل المتاحة.. على أن هـذه التسهيلات الخدماتية إنما تجيء على حساب البصيرة الذاتية، كما تضاعف إمكانية التبعية من خلال هـيمنة الدعاية وإغراءات وسائل الترفيه.

والمشكلة أن هـذا الجيل يثق في إمكاناته ثقة عمياء، معتقدا أن سيطرته الكاملة على الآلة توجد لديه القوة العضوية القصوى، دون أن يعرف أنه يفقد سيطرته على نفسه أولا. فأوهام القوة المتاحة للأفراد تنطلق من خيالات السيطرة التي تمهدها الأجهزة المستخدمة من سيارات وهواتف وحواسيب وغيرها، وقد كثرت بالتالي الأمراض السيكولوجية في العصر الحديث، حتى لو انخفضت نسبة الوفيات الناجمة عن الأمراض الفسيولوجية المزمنة. ويعود هـذا الاضطراب النفسي إلى اختلال العلاقة بين الفرد والمحيط. كما أن هـذه النـزوات قد ضاعفت القسوة في قلوب الناس، ولا أدل على ذلك من إقدام الأطفال في المدارس الأميركية على قتل أقرانهم بالأسلحة الأوتوماتيكية محاكين بذلك أبطال أفلام العنف في هـوليوود .

إن مرور عقود من الزمان من الآن كفيل بالوصول إلى شعوب مدجنة، محدودة الوظائف، تفتقر إلى أدنى حدود الوعي بحاجاتها، وتقاد بأحلام إلكترونية، وغير قادرة على الإنتاج، بقدر ما تحسن الاستهلاك، وسيتمحور إبداعها في تحليل الرموز، كما تسترشد بلغة الأرقام، ولن يكون هـناك وقت وسط هـذه الحركة الهائلة لمعايير باهتة كالبذل والتضحية والعطاء. الأفراد الذين ستنتجهم هـذه الحقبة مجرد أرقام في عدد كبير لدواعي البيع والشراء، وسيعجز إنسان الإنترنت عن الحلم، وسيفقد بالتالي الإرادة والحرية التي طالما لهث للحاق بها». [ ص: 124 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية