الدعاء (سبيل الحياة الطيبة)

الدكتورة / سعاد الناصر

صفحة جزء
الخاتمة

يقول تعالى: ( قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ... ) (الفرقان:77) ،

كنت كلما قرأت هـذه الآية الكريمة ينتابني نوع من الرهبة الممزوجة مع الشعور بالتقصير، وعدم إيلاء موضوع بحجم الدعاء وقيمته عند الله عز وجل الاهتمام الكافي في مساحة حياتنا الفانية، بوصفه زادا يطوي المسافات بين العبد وربه، ويجعله يلقاه وهو متزود بما يوصله إلى نهاية رحلته بأمان، ليخلد في جـنات الرحمن، وخاصة حين وعيت أن الدعاء هـنا جاء بمعـنى العبادة، يقول ابن كثير ، رحمه الله، في شرح الآية: «أي لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه، فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا» .

من هـنا كان من واجبي القيام بالتذكير بقيمة الدعاء ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) (الذاريات:55)

عسى أن نوليه مكانته، ونخفف من وزن أجسادنا التثاقلية التي تخضع لجاذبية الأرض وعوامل الميل مع الشهوات والهوى والغفلة وغيرها،

يقول تعالى مبينا طبيعة الجسد الإنساني: ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ) (التوبة:38) ؛

وندخل في زمرة المتقين، يقول تعالى: ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان [ ص: 132 ] تذكروا فإذا هـم مبصرون ) (الأعراف:201) ؛ ونتذكر في كل دعاء كرم الله تعالى اللانهائي للإنسان, وما يسبغ عليه من نعمه وإحسانه وفضله, التي يلمسها كل ثانية من حياته, من مثل نعمة البصر والسمع وغيرهما مما لا يعد ولا يحصى من النعم، التي لا غنى له عنها, ولا يطلبها، وإنما هـي من كرم الله ونعمه.

وإذا كان رب العزة أكرم الإنسان بخطابه, وبحواره المستمر المتتالي كلما تلا القرآن وقرأه قراءة متبصرة, واستحق عن يقين اصطفاء الله تعالى له من دون سائر المخلوقات لتعمير الأرض والاستخلاف فيها،

يقول تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما ) (الأحزاب:41-43) ،

فإنه شرفه بتيسير الدعاء والحمد والثناء عليه تعـالى، وأدخله في مناجاة نورانية معه، يحاسب فيها نفسـه، ويعرف مقـامه وتقصيره في حقه سبحانه، ويسارع إلى التوبة والاستغفار والبكاء من خشـيته تعالى، ويدعوه تضرعا وخفية بكلمات لا تصـل إلى مقام عظمة وجلال الحق تعالى، الذي وصفه النبي الأمين صلى الله عليه وسلم بقولـه: ( ... لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ) >[1] . [ ص: 133 ] هذا الشرف، يجعله يعيش حياة الطمأنينة والأمن والسلام، ذلك أن أساس الحياة الطيبة هـي التواصل مع الله والقرب منه، والإيمان به، والطمع في ثوابه، والخشية من غضبه وعقابه،

يقول تعالى : ( ... فمن اتبع هـداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) (طه:123-124) .

والضنك هـو الضيق في كل شيء، وهو لازم لمن أعرض عن ذكر الله ودعائه، والإعراض يبعد القلب عن الهدوء، والنفس عن الطمأنينة، ويجعل الإنسان يعيش الانفلات من الرقابة الذاتية فلا كابح لشهواته ورغباته ونزواته، فيكون هـمه إشباعها بأي طريق أمكن دون النظر إلى الآثار الوخيمة المترتبة على ذلك في النفس أو في المجتمع، أما إذا لازم الذكر والدعاء فإن أثره ينسحب على حياته،

يقول تعالى : ( ... ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) (الرعد:28) .

واطمئنان القلب يحقق التوازن داخل النفس الإنسانية، وهو أحد أعمدة الصحة النفسية التي تسهم مساهمة فعالة في ارتقاء الإنسان نحو مدارج الكمال والمسيرة الصالحة، لذا يعد الدعاء من أعظم وسائل الإصلاح النافعة، وهو السلاح المعطل عند الكثير، وقد فرطوا فيه وخسـروه، إما جهلا أو قلة يقين بأثره.

يقول سبحانه وتعالى : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) (العصر:1-3) . [ ص: 134 ] فالفرد والمجتمع في خسران وقلق يلحقان جميع مقومات الحياة وميادينها، باستثناء من تكون المفاهيم والقيم الدينية الصحيحة هـي الحاكمة على مسيرته وحركته؛ حيث تحرر تلك القيم الإنسان والمجتمع معا من جميع العبوديات الفكرية والاجتماعية والتربوية، وتزرع في الضمير وخلجات النفس وفي الواقع الاستقرار والطمأنينة التي هـي أساس الصحة النفسية والخلقية، وتدفع إلى العمل الإيجابي البناء نحو إصلاح وتغيير النفس والمجتمع، وإلى الإحساس الدائم بمعية الله والفقر إليه الذي يحققهما ملازمة الدعاء، إلا أن هـذا المفهوم والإحساس بالفقر المطلق إلى الله لا يقف عند الحد التعبدي، بل يجب أن تترشح منه آثار ومردودات أخلاقية، تسهم في تنـزيلها إلى أرض الواقع سلوكا وممارسة ومواقف.

يقول النورسي : «لقد زين الله سبحانه هـذا الإنسان الصغير بحواس ومشاعر كثيرة جدا, وحمله بجوارح وأجهزة وأعضاء مختلفة عديدة, ليشعره طبقات رحمته الواسعة, ويذيقه أنواع آلائه التي لا تعد, ويعرفه أقسام إحساناته التي لا تحصى, ويطلعه عبر تلك الأجهزة والأعضاء الكثيرة على أنواع تجلياته التي لا تحد لألف اسم واسم من أسمائه الحسنى, ويحببها إليه, ويجعله يحسن تقديرها حق قدرها» >[2] . [ ص: 135 ] وله أيضا كلمات لطيفة تدور حول المعاني السابقة فيقول: «أتحسبون أن مهمة حياتكم محصورة في تلبية متطلبات النفس الأمارة بالسوء ورعايتها بوسائل الحضارة إشباعا لشهوة البطن والفرج؟؟ أم تظنون أن الغاية من درج ما أودع فيكم من لطائف معنوية رقيقة, وآلات وأعضاء حساسة, وجوارح وأجهزة بديعة, ومشاعر وحواس متحسسة, إنما هـي لمجرد استعمالها لإشباع حاجات سفلية لرغبات النفس الدنيئة في هـذه الحياة الفانية؟؟ » ويجيب: «كلا, بل إن خلق تلك اللطائف والحواس والمشاعر في وجودكم وإدراجها في فطرتكم إنما يستند إلى أساسين اثنين: أولهما أن تجعلكم تستشعرون بالشكر تجاه نوع من أنواع النعم التي أسبغها عليكم المنعم سبحانه. أي عليكم الشعور بها والقيام بشكره تعالى وعبادته. وثانيهما أن تجعلكم تعرفون أقسام تجليات الأسماء الحسنى التي تعم الوجود كله, معرفتها وتذوقها فردا فردا. أي عليكم الإيمان بتلك الأسماء ومعرفتها معرفة ذوقية خالصة. وعلى هـذين الأساسين تنمو الكمالات الإنسانية وبهما يغدو الإنسان إنسانا حقا» >[3] .

ولتربية المسلم على كل هـذه المعاني، وإعادة بناء شخصيته في ضوئها، يجب تزويده بالنماذج الفاعلة والإيجابية التي تنتمي إلى حضارته وأمته, من أجل حمايته من الازدواجية أو الانفصام في التكوين , قبل الانفتاح على أي [ ص: 136 ] نماذج أخرى. وأكمل نموذج يمكن التزود منه هـو رسول الله صلى الله عليه وسلم , بتمثل سيرته النبوية العطرة،

يقول تعالى: ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ) (آل عمران:31) .

وحين نستوعب حقيقة الإيمان والقرب منه تعالى، وارتباط التصور العقدي والأخلاق بالحياة والممارسة، والتوازن بين متطلبات الجسد وأشواق الروح، نزداد يقينا بعظمة الرسالة الحضارية التي نملكها، وبضرورة تصديرها للبشرية لإنقاذها من كل ما تعيشه من أزمات خانقة، سواء على مستوى التصور أو على مستوى الأخلاق؛

( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107) ،

وجمال وجلال الزاد الذي نتزود منه خلال رحلتنا نحو الخلود.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. [ ص: 137 ]

السابق


الخدمات العلمية