العربية تواجه التحديات

الأستاذ الدكتور / طالب عبد الرحمن

صفحة جزء
تقديم

عمر عبيد حسنة

الحمد لله الذي جعل لسان الرسالة الخاتمة العربية، لتصبح بذلك لغة الدين والعلم والتراث والتاريخ والحضارة، ومفتاح المعرفة، وسبيل فهم الخطاب الإلهي، والتعرف على مراد الله للإنسان، فلقد اكتسبت عالميتها من عالمية الرسالة، فكانت من أهم العوامل المشكلة للأمة المسلمة الحاملة لثقافتها، المعبرة عن قيمها، المبينة لفلسفتها، الراسمة لملامح شخصيتها، المحددة لهويتها الحضارية، المكونة لنسيجها الذهني، المستوعبة لأحاسيسها، المحركة لتقدمها، الوعاء لمسيرتها، المرآة لواقعها، المرقاة لمستقبلها.. هـي الوطن الثقافي، وهي الحضارة، وهي وسيلة التفاهم والتعايش والتفاعل والانفعال، وهي مع غيرها من اللغات تميز الإنسان عن الحيوان، بها يعرف الإنسان (حيوان ناطق) .

والصلاة والسلام على محل الرسالة الخاتمة - و ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) (الأنعام:124) - الذي تلقى القول الثقيل، واضطلع بمهمـة الصناعة الثقيلـة، مهمـة الإنقاذ الـكبرى للإنسانية من الظلمـات إلى النور وإلحـاق الرحمة بها:

( إنا سنلقي عليك قولا [ ص: 5 ] ثقيلا ) (المزمل:5) الذي أوتي جوامع الكلم، وكان في الذروة من قومه نسـبا وبلاغة وفصاحة وسموا، به اكتمل الدين، واستقامت اللغة، وكملت الشرعة.

وبعد:

فهذا «كتاب الأمة» السادس عشر بعد المائة: «العربية تواجه التحديات» للأستاذ الدكتور طالب عبد الرحمن ، في سلسلة «كتاب الأمة» التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة قطر ، في محاولاته الدائبة لاسترداد الفاعلية، واكتشاف مواطن الخلل والإصابة، ومعاودة إخراج الأمة، والمساهمة بتسديد المسيرة وتصويبها ليستقيم أمرها وترتفع إلى مستوى شهادة الرسول عليها، وبذلك تتأهل لمرحلة الشهود الحضاري، بحيث تكون شاهدة على الناس، رافعة لمشعل الحضارة الإنسانية، حاملة الرحمة إلى العالمين،

استجابه لقوله تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة:143) .

ويبقى المطروح دائما: كيف تتأهل الأمة وتمتلك المقومات الكافية لتكون شاهدة على الحضارة وفعلها الاجتماعي، فذلك لا يتحصل بالادعاء ولا بالشعارات والحماسات وإنما بالعمل الجاد، بالنمو والارتقاء واكتساب الخبرات والمعارف والمسالك والصفات والخصائص المؤهلة [ ص: 6 ] لذلك، بحيث تصبح الأمة، بما تمتلك من قيم سماوية، معيارا لفعل سائر الناس؟ وهذا لا يتأتى -كما أسلفنا- إلا بتصويب واقعنا وتقويمه بقيم الكتاب والسنة، أو إن شئت فقل: بقيم النبوة:

( ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143) ،

وفي آية أخرى: ( ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) (الحج:78) .

إن مهمـة الشهادة على النـاس تعـتبر من الصناعـات الثقيلة: ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) ، تتطلب بالدرجة الأولى بناء للذات من علوم ومعارف وخبرات ومسالك وصفات وخصائص ومن ثم الانفتاح على (الآخر) محل الدعوة، والاضطلاع بالدور الرسالي أو بالدور الشهادي، وإبداع الوسائل والأدوات ووسائل الاتصال والتفاعل، بكل مكوناتها ومقوماتها؛ لأن الدور الرسالي يتمحض في نهاية المطاف بإتقان عملية البلاغ المبين وامـتلاك آليات الإبانة، والقدرة الدائبة على مراجعتها وتطويرها، لترتقي وتترقى لتـصل إلى مستوى البلاغ المبين، ذلك أن اللغة هـي الركيزة الأسـاس في وسائل الاتصال والبلاغ والإعلام، وليست الوسيلة الوحـيدة، فوسائل التعبير أكثر وأوسع من اللغة المنطوقة، بل نسـتطيع القول: إن اللغة هـي أداة أو لسان العلم والمعرفة والحضارة ووسـائل الاتصال جميعا، على اختلافها وتنوعها، لذلك فكل عطـائها وتأثيرها وتغييرها منطلق من اللغة وحسن [ ص: 7 ] استخدامها والتعامل معها، وعائدة إليها، فهي المنبع وهي المصب لكل الفاعليات الإنسانية.

هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن تحديد لغة القيم وضبطها يبقى على غاية من الأهمية؛ لأنها تشكل الضابط المنهجي لحدود الفهم وأبعاد المعاني وتلمس معهود أهل الخطـاب، ودلالاته في سـياقاته المختلفة، كما تشكل دليل الأحكام والتكاليف الشرعية، ومحاولة الحفاظ على النص الإلهي كما نزل، شكلا ومضمونا، إنها تحافظ على دلالات هـذا النص بصبغه المختلفة، ويتأكد هـذا المعنى الدقيق عندما ينص على أن التنـزيل بلغة معينة، ويكون التنـزيل لفظا ومعنى، مثل النص على عربية القرآن:

( قرآنا عربيا غير ذي عوج ) (الزمر:28) ،

( بلسان عربي مبين ) (الشعراء:195) .

لذلك فالطريق إلى إدراك مدلولاته ومقاصده وتكاليفه وأبعاد خطابه هـو معهود العرب في الخطاب ودلالات الألفاظ عندهم، وأن من لوازم ذلك أيضا أن يكون المبين عن ربه مانزل إليه في الذروة من العرب فصاحة وبيانا وإحاطة بجميع اللهجـات العربية، ولا أدل على ذلك من أن معرفة العربية شرط لأداء بعض العـبادات، التي لا يجـوز أن تؤدى إلا بالعربية، وأن القرآن لا يسمى قرآنا ولا يترتب ثواب التلاوة وتشترط الطهارة إلا إذا كان بالعربية، لذلك فإن ترجمة معاني القرآن لا تسمى [ ص: 8 ] قرآنا؛ ولا متسع لأن نؤكد أن الترجمة بشكل عام مهما كانت دقيقة وحاذقة لا يمكن أن تحقق الأبعاد المطلوبة، وأن ترجمة الألفاظ يمكن أن توقع بالكثير من المخاطر، وتزداد المخاطر أكثر فأكثر عند ترجمة النص الديني، هـذا إضافة إلى ما يصطلح عليه عند علماء فقه اللغة من ارتباط الأصوات بالمعاني، ودلالة الأصوات على المعاني.

لذلك امتازت اللغة العربية عن سائر اللغات، التي تعتبر إضافة لكونها لغة الحضارة والتاريخ والتفاهم والتواصل والمعرفة والعلم والإعلام، وتشكل ذاكرة الأمة، ووعاء تفكيرها، وطرائق تعبيرها، وملامح ثقافتها التراثية والمعاصرة والمستقبلية، وتواصل أجيالها... بأنها لغة التنـزيل للنص الإلهي الأخير للبشرية، الذي يعتبر من الناحـية الوثائقية أقدم وثيقة تاريخية وردت بالتـواتر، وهو ما رواه الجمع عن الجمع، الذي يحيل العقل تواطؤهم على الكذب، التي تفيد علم اليقين، وأن هـذا النص العربي نقل كتابة ومشافهة، فهو كتاب، وهو قرآن، وما يزال التواتر مستمرا حيث ينقل القرآن كتابة وتلاوة وحفظا إلى يومنا هـذا، وما تزال المحاريب والمنابر والمسـاجد والمدارس وحلقات الحفظ والتفسير والصلوات الجهرية تشكل المدارسة والمراجعة لنصوصه يوميا بشكل فردي وبشكل جماعي، إضافة إلى الجهود الفردية في الصـلوات السرية والتلاوات خارج أوقات الصلاة. [ ص: 9 ]

من هـنا ندرك البعد والدافع الحقيقي لجميع الدراسات والبحوث والتآليف في علوم اللغة، التي تمحورت حول القرآن وفي سبيل فهمه، من نحو وبلاغة وصرف وقراءات، إضافة إلى المعاجم والقواميس التي شكلت الحصون اللغوية، وضبطت دلالات الألفاظ، وحددت معهود العرب في الخطاب، ليشكل ذلك دليلا دائما لكيفية التعامل مع النص القرآني، ووسيلة لتحديد الدلالات لألفاظه، والاستنباط لأحكامه، وليست في أصل وضعها أسوارا وقوالب جامدة تحول دون امتداد اللغة ونموها وتطورها وتطويرها، لذلك فقد لا يكون مستغربا، في تاريخنا الثقافي، أن تأتي جميع كتب العربية وقواعدها ونحوها وصرفها وبلاغتها متمحورة حول القرآن الكريم، وخادمة لمعانيه، وأن أمثالها وشواهدها تكاد تكون جميعها من القرآن الكريم.

وفي تاريخنا الثقافي، أن بعض طلبة العلم طلبوا إلى شيخهم أن يضع لهم كتابا في تفسير القرآن وبيان معانيه، فوضع لهم كتابا في اللغة أسماه: «مغني اللبيب عن كتب الأعاريب» ليشكل مفتاحا لفهم معاني القرآن، أو تفسيرا للقرآن، فمن يدركه يدرك دلالات الألفاظ القرآنية وتفسير الآيات وإعجاز النص القرآني، لذلك يمكن القول: بأن العربية، لغة التنـزيل، تختلف وتمتاز من هـذا الوجه عن سائر اللغات الأخرى، وأن مقتضيات الحفاظ عليها والامتداد بها وحماية دلالات ألفاظها والاحتفاظ [ ص: 10 ] بمعهود العرب على غاية من الأهمية، ليكون وسيلة إدراك النص الإلهي.. وهي ميزة لم تتوفر لأية لغة من لغات العالم.

هذا العمل اللغوي -إن صح التعبير- الذي نشأ لحماية مدلولات النص وأحكامه والإيذان بخلودها واستمرارها أدى إلى خلود اللغة، وحقق تواصل الأجيال وارتباطها بجذورها، وحقق لها الحضور والاستيعاب الحضاري، ومنحها مفاتيح التراث، الذي شكل أحد أدلتها للعودة إلى النص، سواء بشكل مباشر أو من خلال فهوم الجيل الأول وعطائه، الذي لم يستعجم على الأجيال القادمة جميعا، فكان القرآن هـو محور الثقافة والحضارة واللغة وساحة التفاعل ووسيلة التشكيل الثقافي وإخراج الأمة، من خلال سطوره، لحمله إلى العالم وإلحاق الرحمة به.

والقرآن بهذا المعنى لم يقتصر على حفظ الله له، ومقتضى ذلك حماية اللغة وضمان امتدادها وتواصل أجيالها، وإنما حقق أيضا التبحر والامتداد ونشوء الدراسات اللغوية المتنوعة، أي أدى أيضا إلى تطوير اللغة، ذلك أن محاكاة الإعجاز، ومحاولة إدراك أبعاده أدى إلى الارتقاء بالإنسان ليكون في مستوى التحدي والإعجاز، وبلوغ مراميه، الأمر الذي يحتاج إلى إبداع أدوات ومفاتيح كانت كلها محل اجتهاد وجهد الإنسان.

وهنا قضية على غاية من الأهمية، وهي أن كون العربية لغة التنـزيل للرسالة الخاتمة الخالدة العالمية، فهذا يعني قدرة اللغة على الاستجابة للتطور [ ص: 11 ] الحضاري، والتعبير عنه، ليس العربي أو الإسلامي فقط وإنما العالمي؛ لأن الرسالة الإسلامية الخاتمة عالمية، وخلود اللغة، لسان الرسالة وأداتها متأتيا من خلود الرسالة نفسها، وهذا يعني قدرتها على الاتساع لكل تطورات العصور والتوليد والاستيعاب، بل والتعبير عن كل الحـالات والأحوال، والإجابة عن كل سؤال معلوماتي، علمي أو ثقافي أو تجاري أو صنـاعي أو سياسي أو أدبي... إلخ، فـ ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) زمانا ومكانا وإنسانا ولسانا؛ ومنطق الأشياء يقتضي هـنا أن العربية لو لم تكن مؤهلة للتعبير عن التنـزيل والامتداد به وتحقيق خلوده لما كانت محلا للاختيار، ولو لم تكن من محركات التفسير والتفكير والاجتهاد والاستنباط والتعبير، وكلـها من مقتضـيات النص ولوازمه، لما كانت مؤهلة لأن تكون لغة التنـزيل العالمي الخالد، فاليد الشلاء ليس مؤهلة للحمل الثقيل.

أما الإصابة بالجمود وغياب القدرة والإرادة على الامتداد باللغة إلى المجالات الحياتية جميعها، وامتلاك القدرة على التعبير عنها، وإبداع مصطلحات لكل علم وفن، وإيجاد المصطلحات لكل إبداع واختراع، وتطوير وسائل الوصول إلى توليد الألفاظ وتحديد دلالاتها، وإعادة ترتيب المعاجم والقواميس وإخراجها من صورتها القديمة، وتطوير وسائل التدريس، وإيجاد أساليب ووسائل وأدوات متطورة، والإفادة من علم [ ص: 12 ] الأصوات واللسانيات واللغات المقارنة، والإفادة من التقنيات الحديثة، فتلك مشكلة الإنسان وتخلف الإنسان، الذي لا يجوز بحال أن يحمل على اللغة ويتهمها، وعلى الأخص أنها كانت لغة العلم والحضارة والثقافة والسياسة والأدب.. والشيء المريب عندما يجيء الأمر من أكثر الناس عجزا وتخاذلا، ممن عقولهم في آذانهم، من الذين يهاجمون العربية من الخارج، أو يعتدون على حدودها من أرض (الآخر) ، واستخدام أدواته نفسها، ويحاولون تلبيس ألفاظها معاني أيديولوجيات وفلسفات غريبة الوجه واللغة واللسان!

وقد تكون الإصـابة التي تلحق بالعربيـة أقل الإصـابات تأثيرا، فلا خوف على العربية؛ لأنها لغة التنـزيل الخالد الممتد، المحفوظ بحفظ الله من خلال عزمات البشر واجتهادهم في فهم الخطاب الإلهي، واستنباط الحكم الشرعي، وما يتطلبه ذلك من امتلاك الأداة الأساس للفهم والبيان، العربية، لذلك فالمشكلة الأساس هـي إشكالية التخلف المركبة التي تنعكس على كل شيء بما في ذلك اللغة.

ونعتقد أن تركيز الهجوم على اللغة بهذه الضراوة والوسائل المتعددة؛ لأنها لغة التنـزيل، والهدف البعيد قطع الأجيال القادمة عن حضارتها وتاريخها وتراثها، وأولا وقبل كل شيء عن قرآنها، وإخراجه من المعاهد إلى المعابد، ليتحول إلى أصوات مبهمة غير مفهومة، كاللغات البائدة مثل [ ص: 13 ] السريانية والآرامية، لذلك يستخدم الهجوم في كثير من الأحيان وسائل التدليس، فيجعل بناء اللغة وتركيبها هـو السبب وليس الإنسان المتخلف العاجز عن التطور والتطوير.

وهذا التدليس إما أن يتأتى بسبب التخلف، الذي يحول دون تمكين الإنسان من الكشف عن السبب الحقيقي؛ وإما بسبب الخوف والجبن من كشف العوامل الأساسية وفي مقدمتها الاستبداد السياسي والظلم وغياب الأمن والحرية، عوائق الإنتاج والعطاء في كل المجالات؛ وإما بسبب العمـالة الثقافية؛ لأن تدمير اللغة ومحاصرتها هـو تعطيل لفاعلية الأمة وإطفاء لروحها، وتجميد لحركتها، وقطع لجذورها، وإقصاء لها عن تراثها، وتحويلها إلى عطاء (الآخر) والقضاء حتى على الأمل، وليس العقل فقط.

لذلك نرى أن الكثير من المعارك على المواقع الإسلامية المتعددة اشتدت وتعاظمت كثيرا، ثم تحولت أو أخمدت أو هـزمت إلا الهجوم على العربية، فإنه لم يتوقف، وإذا توقف فإنما يتوقف لاستعداد جديد، لهجمة جديدة، أو ابتكار وسائل جديدة أكثر خفاء ومكرا، حيث لم تبق وسيلة مواجهة إلا واستهدفت العربية، وما ذلك إلا لإدراك خصوم الإسلام والمسـلمين خطـورة اللغة ودورها الحضاري والثقافي والاجتماعي والتراثي والوجودي والديني أولا وأخيرا في حياة الأمة، وأن المعركة مع [ ص: 14 ] اللغة هـي المعركة الأم، الذي يعني الانتصار فيها استغناء عن كثير من المعارك والمواجهات.

ونستطيع القول: إنه على الرغم من العجز والتراجع والتخلف لأهل العربية فإنها بقيت صامدة باقية، بل خالدة خلود القرآن الذي اختارها لغة خطابه للعالمين، وإن حصونها قوية صامدة، ومحاضرها كثيرة على أكثر من مستوى، فهي جزء من برنامج المسلم اليومي، بها تؤدى العبادة، وتعلمها كوسيلة لفهم القرآن عبادة، وفيها تنتظم صلوات الجماعة في المساجد، وتقام حلقات الحفظ والذكر والتلاوة.

ولا نأتي بجديد إذا قلنا: إن مراكز تحفيظ القرآن وخلاويه، ابتداء من المدائن إلى أقصى الأرياف، كانت ولا تزال تحمي اللغة، وتشعر بقدسيتها وضرورتها لحياة المسلم وعقله ومشاعره وثقافته وتواصله مع الأجيال الماضية، وإن حفظها تابع لحفظ القرآن، الذي تعهد الله بحفظه من خلال عزمات البشر، ذلك أن خطابه ميسر للذكر، وخطابه عام للنخبة والأمة، والمدينة والقرية، والأمي والعالم والمتعلم، فلكل نصيب من عطائه، وللقرآن الكريم الفضل في الارتقاء بالعربية وحفظها وتطورها وإخراجها إلى المستوى العالمي.

والحقيقـة التي لا بد من التذكير بها والتأكيد عليها هـنا، أن القرآن لم يقم وزنا للون والعرق والجنس وما إلى ذلك من الفـوارق القسرية، [ ص: 15 ] إلا أنه لم يتنازل أبدا عن العربية لسان التنـزيل، ذلك لأن اللغة كسبية، ولأهميتها في تشكيل ثقافة الأمة وحضارتها وتحقيق تجانسها، فهي أشبه بالمعدة الثقافية الهاضمة، التي تصهر الفوارق وتعيد تصنيعها متجانسة متآنسة، لذلك إذا عدنا إلى مكتبة العربية وما ألف بها أو إلى عطائها بشكل عام، وعلى كل المستويات، نجد أنها أصبحت بالقرآن لغة عالمية إنسانية، شاركت فيها جميع الأجناس والأعراق والمناطق.

بل لعلنا نقول: إن خدمة العربية، كوعاء للتفكير ووسيلة للتعبير، جاء من غير العرب أكثر بكثير مما جاء من العرب أهل اللسان، وإن الكثير من المعاجم والقواميس اللغوية أو الاصطلاحية، التي تشكل حراسات للغة ولمعهود العرب في الخطاب، جاءت في معظمها من غير العرب، وبذلك لم تعد العربية لغة العرب كعنصر وجنس وإنما أصبحت لغة كل مسلم، يعتز بها ويحافظ عليها ويخف لتعلمها؛ لأن بها عقيدته ودينه وقرآنه وتلاوته وشخصيته وعبادته وتاريخه الثقافي، وأنه الأحق بخدمتها والحفاظ عليها.

وفي تقديري أن التوجهات والتيارات القومية، على الرغم من اعتمادها العربية كعامل أساس من عوامل تشكيل الأمة العربية، الأمر الذي أدى إلى خدمتها والدفاع عنها والوقوف في وجه كل التحركات والحركات المشبوهة لمحاصرتها واستبدالها باللهجات واللغات القديمة، التي [ ص: 16 ] كانت شائعة قبل الإسلام، إلا أن ما أضفي أحيانا على اللغة العربية من روح عصبية عنصرية منغلقة أحدثت ردود أفعال أدت إلى محاصرة اللغة من قبل كل النـزعات العرقية والعنصرية الأخرى، في محاولة لوضعها في خانة العرق العربي أو العنصر العربي.

وقد يكون من الأسباب الرئيسة لعدم تطور اللغة وامتدادها وتوالدها حالة التخلف، التي أصابت جميع جوانب الحياة الإسلامية بشكل عام وفي مقدمتها اللغة، حيث أعجز التخلف الأمة عن استيعاب الموجود اللغوي، عدا عن امتلاك القدرة على تطويره وتنميته وتوليده والامتداد به، هـذا إضافة إلى أن معظم الجهود التي بذلت في هـذا المقام هـي جهود يمكن تصنيفها على أنها دفاعية؛ ولعل ذلك بسبب أن المواجهات لم تتوقف على اللغة أبدا -كما أسلفنا- وأن حماية اللغة قد تكون أولى من تطويرها في مراحل معينة؛ لأن الحفاظ عليها على الأقل يحتفظ بخميرة النهوض والتوليد حال العافية، لكن مع ذلك فالإفراط في الموقف الدفاعي واستغراقه لجميع الجهود قد يحمل من السلبيات الشيء الكثير؛ لأنه ينشيء فراغات وفجوات حتى في مجال اللغة نفسها تستدعي (الآخر) ليملأها ويمتد فيها، هـذا إضافة إلى ما يكون من مكر الأعداء والخصوم، حيث الاستمرار في إثارة الشبهات والإلقاء بالمشكلات وتغيير أدوات المواجهة، الأمر الذي سوف يمتص كل طاقات الأمة، ويحدد ميدان [ ص: 17 ] معاركها مسبقا، ويحولها عن الكثير من المواقع المجدية وذات الأولوية، فيصبح العمل رد فعل ورجع صدى، الفاعل فيه خصوم الأمة، وخصوم اللغة، وأعداء الإسلام.

هذا من جانب، ومن جانب آخر يمكن القول: بأن الجانب الدفاعي، حتى على مستوى الداخل الإسلامي، يكاد يكون استغرق الجهود اللغوية جميعا، وأصبح الجهد كله مستنفرا في إطار علوم اللغة، التي هـي من وسائل الحماية، حيث غاب التمييز شيئا فشيئا وإلى حد بعيد بين اللغة وبين علوم اللغة، وأن اللغة شيء يتطلب الارتقاء بها وتطويرها والامتداد بها، ذلك أن للإنتاج العلمي والثقافي المقدور أدوات ووسائل ومنتجات قد تختلف عن ما تتطلبه علوم اللغة من وسائل وأدوات وجهود.

ونستطيع القول: إن معظم الجهود تحولت إلى علوم اللغة، فاكتفينا بإتقان الوسيلة عن صنع وإغناء الهدف، حتى أصبحت الوسيلة غاية بحد ذاتها، فأصبحنا نتعلم لنقرأ لا نقرأ لنتعلم، انقلبت المعادلة؛ وأكثر من ذلك نقول: إن الطريقة التي يتم بها تعليم علوم اللغة قد تحمل تأثيرات سلبية على اللغة نفسها، حيث هـم القارئ والكاتب والباحث يصبح استيفاء الشكل وعدم الوقوع في اللحن، والانصراف عن التفكير في المعاني وارتياد الآفاق الإنسانية إلى الاهتمام بإتقان الشكل، لاستصحاب حاجز الخوف من اللحن والخطأ. [ ص: 18 ]

حتى لقد انتهى بنا الأمر إلى التفكير بألسنتنا بدل عقولنا، والانتباه أكثر للألفاظ دون المعاني، خوف اللحن والخطأ النحوي، فلم تعد المصيبة الذهنية التلقي باللسان: ( إذ تلقونه بألسنتكم ) (النور:15) من العامة فقط دون مداخلة العقل، وإنما المصيبة الأكبر تمثلت بالتفكير باللسان أيضا من قبل الخاصة والنخبة، فتجمدت اللغة في قوالب ظنها بعضهم هـي اللغة، فتحولت وظيفتها من خادمة للغة إلى مخدومة.

ولا أزال أذكر ما سمعت من أن أحد طلاب الدراسات العليا في علوم اللغة، في المغرب العربي، استدرك على أحد المحاضرين، أصحاب الألقاب الأكاديمية والسمعة الأدبية الكبيرة، من الذين امتلأت به المكتبات إنتـاجا في الأدب والفـكر والرواية والسـير، أكثر من سبع عشرة غلطة نحوية! فأين ذلك الطالب وما أنتج من ذلك الأديب وما فعل؟ وقد لا يكون لهذا الطالب إلا هـذا الظهور الآني، الذي أعقبه الغياب الكامل.

ونحن هـنا لا نهون من شأن علوم اللغة، ولكن نقول: إنه لا بد من إعادة النظر في طرائق التعليم والتلقي، حتى تعليم التلاوة وأحكام التجويد، بحيث نقرأ لنفكر ونتعلم لا نتعلم لنقرأ، نتعلم الصواب ابتداء فإذا حصل اللحن تم التصويب، وبذلك تصبح الألفاظ محركات للتفكير وليس معطلات له، ذلك أن علوم اللغة شيء واللغة شيء آخر، وأن علوم اللغة تحمي اللغة وتحرسها ولا تنشئ لغة وتقيم أدبا، بكل أجناسه، لذلك فقد [ ص: 19 ] لا نستغرب انحسار تلك العلوم، التي تتراجع بتراجع اللغة، وتتقدم بتقدم اللغة، وتبقى وسيلة لغاية وليست هـدفا وغاية بحد ذاتها، وتتطلب بين وقت وآخر مراجعات لتحديث طريقتها وأدائها وتحديد مجالاتها وأولوياتها، أما أن نتركها تعاني غربة الزمان والمكان فهذا إشكال الإنسان وليس إشكال اللغة.

حتى طريقة الرجوع إلى معاجمها وقواميسها، أصبحت عملية شاقة بالنسبة لمتعلم اليوم، لم تحدث ولم تتطور، وتحتاج إلى علم خاص للوصول إلى المبتغى، في الوقت الذي تطورت فيه المعاجم، واستخدمت التقنيات المتقدمة، فلم يعد يتطلب الأمر أكثر من لمسة أصبع للوصول إلى المراد، فما ذنب الحساب والرياضيات إذا كنا نحن ما نزال نستخدم أصابعنا في العد، في عصر الحاسبات الإلكترونية الضخمة، التي تنهي أكبر وأعقد العمليات في ثوان، ليتفرغ العقل لوظائفه الإبداعية بدل إشغال وقته بعمليات باتت إجرائية إلى حد بعيد.

هذا إضافة إلى أن الكثير من برامج الكمبيوتر صممت في ضوء نوافذ معينة وبعض الكلمات المفتاحية، التي توصل بلحظات إلى المطلوب، بل وأكثر من ذلك تقوم بنفسها بعملية التصويب اللغوي والنحوي والصرفي؛ لأنها برمجت على الشكل الصحيح، فباتت لا تقبل الخطأ، عدا عن المعاجم الإلكترونية أيضا، التي بدأت تقدم خدماتها بأكثر من لغة.. فالتقنيات [ ص: 20 ] الحديثة تتطور بسرعات مذهلة، وتنجز في ثوان مالم ينجز في الماضي في سنوات؛ واللغات تتطور وتتبلور وتتوالد وتنمو ككل كائن حي اجتماعي، حتى أصبح لكل علم لغته، ولكل فن وجنس أدبي لغته، فللسياسة ومصطلحاتها معاجم، وللدبلوماسية معاجم، وللعلوم معاجم، وللمال والأعمال لغة، وللأدب لغة، وللفكر لغة، وللقانون لغة، وللاقتصاد لغة، وللرسائل لغة... وهكذا.

وهذا لم يعد يقتصر على لغة بعينها، فالعالم جميعه يتقدم بلغاته، حتى اللغات الأكثر تعقيدا بحروفها ومفرداتها ومحدودية تاريخها ومخزونها الحضاري كالصينية واليابانية وحتى العبرية، بعثت من مرقدها لتصبح لغة العلوم والفنون، وتطورت وسائل تعليم اللغات بشكل مذهل، حيث توظف كل تقنيات العصر ومعطيات العلم لخدمة لغاتها.. وبعض من يسمون بالمفكرين عندنا ما يزالون يجهدون أنفسهم للوقوع على عورة أو لاكتشاف نقطة سوداء أو نقيصة في اللغة والتاريخ والحضارة الإسلامية، ويبقون أكثر عجزا عن توليد أو إبداع أية فكرة تسهم بارتقاء اللغة أو انتشال الإنسان من وهدة التخلف، وجل عملهم الشغب وإثارة الشبهات ونقلها والتمكين لامتداد (الآخر) وهيمنة لغته وحضارته، والتمكين لمحاولته في الهيمنة والإقصاء باسم العولمة ، حيث لم تتوقف العولمة عند الاقتصاد والتجارة وإنما -وهذا شيء طبيعي- امتدت لعولمة الثقافة، [ ص: 21 ] وعولمة اللغة، وعولمة الإعلام، وعولمة التعليم، وعولمة الإعلان، والطعام والشراب، وإلغاء الخصوصيات بكل أنواعها باسم العولمة.

إن عولمة التعليم واللغة والثقافة هـي الأخطر؛ لأنها تقتلع (الذات) وتطمس الهوية وتلغيها وتستبدلها، فالعربية اليوم بدأت تخرج من المعاهد والجامعات، وحتى مراحل التعليم الأساس، تحت شتى الفلسفات والذرائع، لتحل محلها الإنكليزية أو غيرها، فتنشـأ أجيال لا ذاكرة لها، ولا تاريخ ولا ماضي ولا وطن ولا حاضر ولا مستقبل؛ ومؤسسات اللغة، مجامعها، يستغرقها الجدل حول بعض المصطلحات والحديث عن عظمة اللغة وإمكاناتها عن النـزول ومواكبة الواقع، وتطوير الخطاب اللغوي والارتقاء به، والإنتاج المؤثر، وتقديم المصطلحات العلمية للمعاهد والمدارس والجامعات، ذلك أن الكثير من المؤسـسات اللغوية تحولت إلى ما يشبه المتاحف، تنتسب للماضي، وإن شئت فقل: مخازن؛ لأن المتاحف تورث ثقافة، وتحرك حوافز، وتبصر بحضارة وثقافة وإمكانية يمكن استصحابها لبناء الحاضر ورؤية المستقبل.

نعود إلى القول: إن المعارك حول العربية مستمرة، ولا تكاد تهدأ حتى تبدأ، ولعل حقبة العولمة، أو حقبة الهيمنة، تحمل أشدها وتحاول اقتلاع العربية من المعاهد والمدارس والجامعات والإعلام، ابتداء من مرحلة الحضانة، ما قبل المدرسة، بحجج وذرائع شتى. [ ص: 22 ]

وقد يكون المطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، العودة للاعتصام بالأسرة والمسجد، والتمحور حول حفظ القرآن وتلاوته ومدارسته، ويكفي أن نذكر بأن عربية الجزائر وعروبتها، بعد استعمار أكثر من مائة وثلاثين عاما، اعتبرت خـلالها فرنسية، واستهدفت فيها اللغـة والثقـافة والتعـليم والإعـلام والتربية والعادات والتقاليد، وأخرجت العربيـة من مؤسـسات التعـليم والإعـلام، لكن العربية ارتحلت إلى الأرياف والجبال، وأقيمت مراكز لتحفيظ القرآن، التي حافظت على العربية واحتفظت بها، واستردت عروبة الجزائر وعربيتها، والمطروح اليوم: كيف نتعامل مع حقبة الهيمنة، على المستوى اللغوي والثقافي بشكل عام؟

والكتاب الذي نقدمه يعرض إلى لون جديد واستخدام سلاح قديم جديد من العدوان على العربية في محاولة للنيل من القيم الإسلامية، والحضارة الإسلامية، والحط من قدرها لصالح (الآخر) باستخدام مغالطات وتدليس لغوي وثقافي وسيكولوجي وتحميل بعض الألفاظ الكثير من المعاني والتفسيرات، التي لا تتطلب كثيرا من الجهد لكشف انحيازها وشعوبيتها، ذلك أن الهجوم على العربية، تاريخيا، تلون بكل الألوان الأيديولوجية والثقافية، واستخدمت له الكثير من المذاهب النفسية والاجتمـاعية في محاولة لإلصاق كل إصابات التخلف والانحراف [ ص: 23 ] والتراجـع الحضاري باللغة، وكأن هـذه اللغة لا تاريخ لها ولا حضارة ولا علوم ولا ثقافة.

صحيح أن هـذه الأسلحة الفاسدة والمشبوهة لم ولن تستطيع الصمود أمام الاختبار والدراسات الموضوعية والمنهجية، حتى ضمن السياق التي وردت فيه، إلا أنها رغم تهافتها وسقوطها وشبهاتها تستنـزف جهدا ووقتا قد لا تكون محصلته كبيرة، بل إن بعض الردود لهذه الشبهات والمواقف الدفاعية قد يساهم بشكل سلبي بإشاعتها وإعطاء دعاتها الذين ينعقون بما لا يسمعون بعض القيمة، وقد يكون من الأجدى في كثير من الأحيان تفويت أهدافها بتركها تسقط من تلقاء نفسها: كناطح صخرة يوما ليوهنها...

ولله الأمر من قبل ومن بعد. [ ص: 24 ]

التالي


الخدمات العلمية