حرية الرأي في الاسلام (مقاربة في التصور والمنهجية)

الدكتور / محمد عبد الفتاح الخطيب

صفحة جزء
3- القيم ( أو الآداب الشرعية ) الضابطة لحرية الرأي

في التصور الإسلامي

القيم الإسلامية وخصائصها

المجتمع المسلم مجتمع أخلاقي، منضبط.. يلزم أفراده ومؤسساته، بحشد من القيم والمعايير والضوابط، أو ( الآداب الشرعية ) التي تمثل ( مدونة ) أخلاقية، لا تجد لها نظيرا في تاريخ البشرية. وكل الأفعال والعلاقات توزن فيه بميزان تلك ( المدونة ) الأخلاقية -التي هـي بجملتها ترتكن إلى ما يحبه الله ويرضاه- فيزنها بهذا الميزان الثابت، ليرى قربها أو بعدها من الحق والصواب، من أجل ألا يجنح بالإنسان ميل أو هـوى، وألا ينحرف به نزوة أو شهوة، بل هـي التي تميز الإنسان، وتجعل له معنى أكبر من حدوده الحيوانية؛ إذ تضبط المسار، وتحول دون البغي، فلا تمضى الإنسانية شاردة على غير هـدى، كما وقع في الحياة الأوربية عندما أفلتت من عروة العقيدة، فانتهت إلى تلك النهاية البائسة، ذات البريق الخادع، الذي يخفي في طياته الشقوة والحيرة والنكسة والارتكاس

>[1] .

وهذه ( القيم الإسلامية ) أو ( الآداب الشرعية ) يحكمها مبدأ عام، وهو قوله تعالى:

( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى [ ص: 136 ] وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) ( النحل: 90) ،

قال العلماء: إن هـذه الآية الشريفة، أجمع آية في القرآن، ولو لم يكن فيه غير هـذه الآية، لكفى في كونه تبيانا لكل شيء وهدى

>[2]

ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هـذه الآية على المشركين، قال فصحاؤهم: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال >[3]

ومن خلال تلك القيم يحقق المسلم معنى ( الاستقامة ) التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن قول جامع في الإسلام، فقال: ( قل آمنت بالله فاستقم ) >[4]

، فالاستقامة هـي انضباط حركة المسلم في هـذه الحياة وفق منهج الله وشرعته، فتكون حركته مؤسسة على منظومة القيم الإسلامية، ومرتبطة بمقاصد الشريعة ، ومضبوطة بالمصالح الشرعية .

على أن هـذه ( المنظومة القيمية ) أو ( المدونة الأخلاقية ) في الإسلام، تقوم على ( المثالية العليا ) ، فهي قيم مستمدة من الله سبحانه وتعالى ، الذي جعل نفسه سبحانه ( المثل الأعلى ) لأخلاق المؤمنين، وطلب منهم أن يتخلقوا -على نمط ما علمهم من نفسه جل شأنه- بأسمائه وصفاته، [ ص: 137 ] مما جعلها على أسمى درجات السمو والارتقاء >[5]

قال تعالى: ( للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ) ( النحل: 60) ،

ويتأسس على تلك الخصيصة لمنظومة القيم الإسلامية:

- إنها مستمدة من الدين -بمفهومه الشامل- ولعل هـذا من أهم ما يتميز به المسلم دون غيره، وهو امتلاكه القيم والمعايير والثوابت المعصومة، التي تحققت من خلال معرفة الوحي والتي تشكل له مركز الرؤية والمرجعية، وتمنحه امكانية القدرة على التصويب، والتقويم، والمراجعة المستمرة، وتحصنه من كل محاولات الإلغاء، والاحتواء الثقافي.. تلك القيم والمعايير الإلهية، القادرة على حمايته وانتشاله؛ لأنها ليست من وضعه، ولم تأت ابتداء ثمرة لبيئته الثقافية، بل من وضع خالقه. فإذا حدث خروج عنها، اختل الإنسان، وانهار المجتمع بأكمله. فمرجع تلك ( القيم ) في التصور الإسلامي، إذن، ليس إلى " الرأي والهوى " وليس " العقل البشري " بلا قاعدة ولا ضابط، وليس ( المصلحة ) كما يتصورها الناس غير محكومة بأصل من دين الله، وليس أي اعتبار آخر، غير اعتبار واحد هـو " الله ورسوله " بما يضعه من ضوابط وقيم تتحكم في كل شأن من شئون الحياة. وهي ضوابط تحافظ على إنسانية الإنسان وطهارته ونظافة الحياة التي يعيشها من كل الوجوه، وفق ما يقرره الله وحده، وكفاية الضرورات والحاجيات "

>[6] [ ص: 138 ]

-إنها تتسم بالشمولية : والشمول لنظام القيم الإسلامي، مشتق من شمول العقيدة ذاتها، وتعبير عن صفات وسمات المثالية العليا، فالعقيدة التي ينبثق منها النظام القيمي منهج حياة شاملة؛ ومن ثم لا تقتصر مدونة القيم الإسلامية على جوانب معينة، وإنما تشمل كافة أوجه الحياة الإنسانية، الظاهرة والباطنة، الروحية والمادية، الخاصة والعامة، الفردية والاجتماعية، الداخلية والخارجية، المحلية والعالمية.. وأن ما حسنه الشرع مما يمس هـذا الجانب أو ذاك من جوانب تلك الحياة فهو حسن، وما قبحه منها فهو قبيح.

وجماع تلك ( المدونة ) الأخلاقية في الإسلام، بما فيها من دوافع وضوابط، وما ينبثق عنها من مقاصد، يعود إلى أمرين: ( الحق ) و ( الخير ) فلم يترك الإسلام شيئا من خلال الحق وخصال الخير إلا قرره وأكده وأمر به، وبغض للناس نقيضه، وأنذرهم على فعله، وجعلها دينا ملتزما، بل أصلا من أصول المنهاج الإلهي، وليست مجرد فضائل فردية، أو آداب اجتماعية، أو أذواق حضارية

>[7]

كما يشهد بذلك كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، التي تأتي في سياقات تبرز الغايات الأخلاقية لتشريع الأحكام، فالأحكام الشرعية تجعل جانبها الأخلاقي، يؤسس الجانب الفقهي، كما تجعل جانبها الفقهي يوجه الجانب الأخلاقي، مما يمكن القول معه: إن للحكم الشرعي - في الإسلام - بنيتين متكاملتين: إحداهما فقهية، والثانية أخلاقية تضبط من سلوك الفرد باطن [ ص: 139 ] الأعمال التي تعود بالصلاح أو الفساد عليه أو على غيره.

>[8]

وهذا ما يؤكده الشاطبي بقوله: " والشريعة كلها إنما هـي تخلق بمكارم الأخلاق؛ ولهذا قال عليه السلام : ( بعثت لأتمم مكارم ) >[9]

الأخلاق " >[10]

وهذا الشمول لا يقف عند حدود المعاني والدلالات، بل يتعداها إلى التعامل -أيضا- فهي قيم يلتزم بها المسلم في تعامله مع المسلم وغير المسلم؛ إنها قيم مطلقة لا تعرف التمييز، ولا تعترف به، طابعها إنساني يرفض العصبية >[11]

يقول تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) ( المائدة:8) .

والأمثلة كثيرة في الإسلام على هـذا، [ ص: 140 ] ( فأبو بصير -وهو عتبة بن أسيد ابن جارية حليف بني زهرة- أرسلت قريش تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح بينهم، وأن يرد إليهم أبا بصير: يا رسول الله تردني إلى المشركين يفتنونني في ديني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هـؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا، قال أبو بصير: يا رسول الله، تردني إلى المشركين ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انطلق يا أبا بصير فإن الله سيجعل لك مخرجا ) >[12] .

- أنها قيم ثابتة وراسخة، تبرز فيها الملامح الإنسانية التي تؤمن بالحق، تدعو إلى الفضيلة، وتحترم الكرامة الإنسانية، بخلاف القيم المستمدة من العقل المجرد، القائمة على التدافع الغريزي الذي تحكمه " الأنا " المؤدية إلى الخلل والتصادم في العلاقات الإنسانية، فـ " العقل لا يصلح وحده أن يكون ضابطا موزونا، ما لم ينضبط هـو على ميزان العقيدة الصحيحة، فالعقل يتأثر بالهوى كما نشهد في كل حين، ويفقد قدرته على المقاومة في وجه الضغوط المختلفة، ما لم يقم إلى جانبه ذلك الضابط الموزون " >[13] . فالمسافة هـائلة بين الضوابط والقيم التي تنبثق من تصور الألوهية فيه لله وحده وما سواه له عبد، وتصور الألوهية فيه للإنسان وعقله ومنافعه، وبذلك تفقد الصفة الأساسية للثباب والخلود، إضافة إلى افتقارها إلى عنصر الارتكاز النفسي والعقلي، الذي يضمن لها الاحترام، والقبول، ويحقق الالتزام بها.. فهي مرفوضة؛ لأنها من وضع البشر الذي يريد أن يتفضل ويمتاز عن الآخرين. [ ص: 141 ]

أما القيم المنبثقة من المثالية العليا فهي قيم ثابتة، وضوابط معصومة، وقيمة ذلك " وجود الميزان الثابت الذي يرجع إليه " الإنسان " بكل ما يعرض له من مشاعر وأفكار وتصورات، وبكل ما يجد في حياته من ملابسات وظروف وارتباطات... ومن ثم يظل دائما " في الدائرة المأمونة، لا يشرد إلى التيه، الذي لا دليل فيه من نجم ثابت، ولا من معالم هـادية في الطريق! وقيمته هـي وجود " مقوم " للفكر الإنساني، مقوم منضبط بذاته، يمكن أن ينضبط به الفكر الإنساني، فلا يتأرجح مع الشهوات والمؤثرات. وإذا لم يكن هـذا المقوم الضابط " ثابتا " ، فكيف ينضبط به شيء إطلاقا " ! إذا دار مع الفكر البشرى -كيفما دار- ودار مع الواقع البشرى -كيفما دار- فكيف تصبح عملية الضبط ممكنة، وهى لا ترجع إلى ضابط ثابت، يمسك بهذا الفكر الدوار؟ أو بهذا الواقع الدوار؟! إنها ضرورة من ضرورات صيانة النفس البشرية، والحياة البشرية، أن تتحرك داخل إطار ثابت، وأن تدور على محور لا يدور! إنها على هـذا النحو تمضي على السنة الكونية الظاهرة في الكون كله، والتي لا تختلف في جرم من الأجرام ! " >[14] .

- أنها قيم ملزمة، فممارسة المسلم لأي عمل، انطلاقا من هـذه القيم، وتوظيفا لها، هـي مناط الشرعية، فإن للإسلام في كل وجه من وجوهها أمرا ونهيا وإيجابا، وتحريما، وإباحية ومنعا؛ -ولعل ذلك سبب تسميتها في الفقه [ ص: 142 ] الإسلامي بـ ( الآداب الشرعية ) - ومن هـنا فإن توظيف تلك القيم في الممارسة من قبل الفرد، أو المجتمع، أو النظام السياسي في الدولة، هـي أساس شرعيته الحقيقة >[15] .

وهذا يعطي شعورا عميقا بالمسئولية تجاه الالتزام بها. والشعور بالمسئولية شرط أساس في فعالية الممارسة، وإتيانها نتائجها، وتجنبها عملية الميل والانحراف، فتحفظ لها حرمتها بوعي وحرص من جميع الأطراف، في غير محاولة لاستحلالها بالتحايل أو التأويل، مما نبه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة، رضي الله عنهما عنها، قال: ( إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضى له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ، فإنما أقطع له قطعة من النار ) >[16] .

أما القيم التي تنتجها المثاليات البشرية، فهي لا تخلق الشعور الموضوعي بالمسئولية، فهي قد تضع قيما وضوابط، ولكنها كلها -في التحليل الأخير- تعد غطاء قشريا وظاهريا، كلما وجد الإنسان سبيلا للتحلل منه، أو الالتفات حوله، فإنه سيفعل ذلك بكل تأكيد؛ لأنه لا يستشعر المسئولية تماما تجاه ما صنع بيده >[17] ،

قال تعالى: ( إن هـي إلا أسماء سميتموها أنتم [ ص: 143 ] وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) ( النجم: 23)

ومن ثم فهذه القيم البشرية محدودة ضئيلة، بل " تولد باردة لا تجدي فتيلا في تحريك النفوس، وبعث الحرارة فيها، بل إنها تزيدها صقيعا على صقيع.. لأنها تقوم على أساس واه، لا يكاد يثبت أمام عوادي الزمن وصروف الحياة. قال الفيلسوف الألماني " فيخته " : الأخلاق من غير دين عبث .. وقال الزعيم الهندي " غاندي " : إن الدين ومكارم الأخلاق هـما شيء واحد، لا يقبلان الانفصال، ولا يفترقان عن بعضهما البعض، فهما وحدة لا تتجزأ. إن الدين كالروح للأخلاق، والأخلاق كالجوارح للروح، وبعبارة أخرى: إن الدين يغذي الأخلاق وينميها وينعشها، كما أن الماء يغذي الزرع وينميه " >[18] .

ويقول محمد أسد >[19] : " نحن عندما يستقر في أذهاننا أن مفاهيمنا عن العدل والظلم والخير هـي من صنع البشر، وأنها مفاهيم تتغير بتغير العرف الاجتماعي والبيئة، فلا يمكن لها أن ترشدنا كأدلة موثوق بها في طرق الحياة، ولهذا فنحن في تنظيم شئوننا الحيوية نطرح جانبا كل الاعتبارات الخلقية، ونستهدف مصالحنا الخاصة فحسب لهذه المصالح التي تخلق بدورها اضطرابا متزايدا في العلاقات بين الأفراد والجماعات والأمم، وتهدم بأطراد هـذا القسط النسبي من السعادة التي منحها الإنسان. وهذا فيما نظن التفسير النهائي للبلبلة والقلق اللذين يسودان العالم اليوم. يستحيل على أى أمة أن تعرف طعم السعادة ما لم تكن متحدة من الداخل، ويستحيل على أي أمة أن تعرف طعم السعادة ما لم تكن متحدة من الداخل، ويستحيل على أي أمة أن تتحد من الداخل ما لم تصل إلى نوع من الاتفاق على تحديد واضح لما هـو عدل وظلم في شئون الحياة، ويستحيل الوصول إلى مثل هـذا الاتفاق بالتالي ما لم تتعارف هـذه الأمة على التزامات خلقية منبثقة من قانون أخلاقي دائم مطلق، ومن الواضح أن الدين -والدين وحده- هـو القادر على أن يقدم لنا هـذا القانون المطلوب " . [ ص: 144 ]

- إنها قائمة على المصلحة والتوازن، وهما الإطار العام الذي تنظم داخله مسالك الأفراد، وتمارس فيه الحريات الخاصة والعامة، بل إن مدار أحكام الشريعة في الجملة -لمن يتأمل- إنما هـو دندنة حول معاني المصالح ومعارجها، أي: تحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم. يقول العز بن عبد السلام : " ومعظم مقاصد القرآن: الأمر باكتساب المصالح وأسبابها، والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها " >[20] ، " والشريعة كلها مصالح، إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح " >[21] .

والمراد بالمصلحة : " المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده " >[22] ، والمراد بالمفسدة : " ما قابل المصلحة، وهي وصف للفعل يحصل به الفساد، [ ص: 145 ] أي: الضرر دائما أو غالبا، للجمهور أو للآحاد " >[23] ، " ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان، بأن هـذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هـذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس خاص؛ فإن فهم ( نفس الشرع ) يوجب ذلك ومثل ذلك: أن من عاشر إنسانا من الفضلاء الحكماء العقلاء، وفهم ما يؤثره ويكرهه في كل ورد وصدر، ثم سنحت له مصلحة لم يعرف قوله فيها، فإنه يعرف بمجموع ما عهده من طريقته وألفه من عادته أنه يؤثر تلك المصلحة ويكره تلك المفسدة " >[24] .

وهذه المصلحة في التصور الإسلامي، ليست -كما في التصورات الأخرى- محدودة بعمر الدنيا وحدها، أو بلذة مادية فقط، أو قائمة على أن الدين فرع المصالح الدنيوية، بل هـي -في التصور الإسلامي- ذات زمن ممتد مكون من الدنيا والآخرة معا، كما أنها جاءت لتحقيق مصالح الإنسان المادية والروحية، ثم إن الدين هـو أساس أية مصلحة أخرى، فهي متفرعة عنه، آتية من ورائه، لاحقة بآثاره، ويترتب على ذلك: ضرورة سير المصالح في ظل جوهر الدين ونصوصه وعدم الخروج عنها، بل إن مصالح الدنيا -في الحقيقة- ليست مطلوبة لذاتها، وإنما هـي وسيلة لمصالح الآخرة، فالصلاح والفساد في الأفعال أثران لأحكام الشارع على الأشياء من تحريم وإباحة [ ص: 146 ] وإيجاب. فمعيار المصلحة والمفسدة هـو الإسلام ذاته >[25] فالمصلحة لا تقرر بفائدة الفرد من العمل، وإنما تتحد بميزان الشريعة، يقول الشاطبي : " المصالح المجتلبة شرعا، والمفاسد المستبعدة، إنما تعتبر من حيث تماما الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية " >[26] .

ثم إن هـذه المصالح قائمة أيضا على التوازن بين مصالح الفرد ومصالح الجماعة، فما بين الفرد، والجماعة، تتحرك القيم الإسلامية، تشريعا وتوجيها؛ بغية الوصول إلى حياة متجانسة، محفوفة بالتواد والتراحم. فللإنسان حقوق وحريات، كما أن له حرما وعصما، وهذه الحريات تقف عند حدود العصم والحرم التي ( للغير ) .

والإنسانية بقدر ما يتوفر لديها من ضمانات لالتزام الأفراد بنظام توزيع الحقوق والواجبات بين الناس تكون أقرب إلى الاستقرار وتحقيق الأهداف العامة المتوخاة من ذلك النظام؛ فحين يستقيم تصور الإنسان لتلك القيم، تستقيم حركته وسلوكه، فيعلم أن لحريته حدا يقف عنده لايتعداه، لأن في تعديه ضربا من الإعتداء على الآخرين.

( فعن سمرة بن جندب ، رضي الله عنه : أنه كانت له عضد من نخل ( أي ثمر نخل يتناول باليد ) في حائط رجل من الأنصار ، قال: ومع الرجل أهله، قال: فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى [ ص: 147 ] به ويشق عليه، فطلب إليه أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى فطلب إليه أن يناقله فأبى، قال: فهبة له ولك كذا وكذا.. أمرا رغبة فيه فأبى، فقال: أنت مضار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري: إذهب فاقلع نخله ) >[27] . فقوله صلى الله عليه وسلم لسمرة: ( أنت مضار ) مع أنه يتعلق بملكه، دليل على ذلك التوازن الذي تقيمه الإسلامية بين مصلحة الفرد ومصالح الآخرين وبهذا يتم توجيه السلوك الإنساني، وتحقيق التوازن بين الإنسان وذاته، والإنسان والآخر.

وقد رتب الفقه الإسلامي -استنباطا من مفهوم المصلحة- مجموعة من القواعد، المتحكمة في منظومة القيم الإسلامية، وفرع عليها فروعا مهمة، تضبط حركة المسلم في هـذه الحياة، ومن أهمها مما يتعلق بقضية الحقوق والحريات:

1- أن الأمور بمقاصدها، وهذه القاعدة منبثقة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ) >[28] . فباعث الإنسان في كل حركاته منظور إليه من الشارع؛ إذ المقاصد أرواح الأعمال، وهذا معناه: أنه حينما يتصرف الإنسان في حريته، يجب أن يكون منطلقا من باعث غير مدخول، ولا ضمير غير سليم، بل ينبغي أن يكون قاصدا ما قصده الشارع، [ ص: 148 ] فالنية في منظومة القيم الإسلامية " روح العمل ولبه وقوامه، تابع لها، يصح بصحتها، ويفسد بفسادها، والنبي صلى الله عليه وسلم ، قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم، وهما قوله: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل إمرئ ما نوى ) ، فبين في الجملة الأولى، أن العمل لا يقع إلا بالنية، ولهذا لا يكون عمل إلا بنية، ثم بين في الجملة الثانية، أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه، وهذا يعم العبادات، والمعاملات، والإيمان، والنذور، وسائر العقود والأفعال " >[29] وهذا الضابط في منظومة القيم الإسلامية في غاية الأهمية، مما لا تجد له نظيرا في أي منظومة قيمية أخرى؛ إذ يضبط حركة الإنسان في الحياة على مراد الله تعالى ( الشارع ) فلا يجوز له مخالفة قصد معبوده " وكل تصرف لا ترتب عليه مقصوده، لا يشرع من أصله " >[30] و " كل من ابتغى في تكاليف الشريعة ما لم تشرع له فعمله باطل " >[31]

2- أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح : " فإذا تعارض مفسدة ومصلحة، قدم دفع المفسدة غالبا، لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :

( إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه [ ص: 149 ] ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ) >[32] >[33]

كما وهذا من معناه: أنه إذا ما أراد أحد جلب مصلحة لنفسه، أو حق من حقوقه، فتولد على ذلك مفسدة له أو لغيره منع منه؛ لأنه ( لا ضرر ولا ضرار ) >[34] كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والضرر هـو محاولة الإنسان إلحاق المفسدة بنفسه أو بغيره. والضرار أن يتراشق اثنان بما فيه مفسدة لهما، وهذه قاعدة كبرى أغلق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منافذ الضرر والفساد أمام المسلمين، فلم يبق في تشريع الإسلام إلا كل ما فيه صلاحهم في دنياهم وآخرتهم >[35] وهذا معنى قولهم: إن حرية الإنسان تنتهي عند حرية الآخرين.

وقد فصل الشاطبي ، رحمه الله، تلك القاعدة، وأثرها في ضوابط الحرية، قال: " جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه على ضربين: أحدهما أن لا يلزم عنه إضرار الغير. والثاني أن يلزم عنه ذلك. وهذا الثاني ضربان: أحدهما أن يقصد الجالب أو الدافع.. والثاني ألا يقصد إضرارا بأحد. وهو قسمان: أحدهما أن يكون الإضرار عاما.. والثاني أن يكون خاصا. وهو نوعان: أحدهما أن يلحق الجالب أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر [ ص: 150 ] فهو محتاج إلى فعله كالدافع عن نفسه مظلمة يعلم أنها تقع بغيره أو يسبق إلى شراء طعام أو ما يحتاج إليه أو إلى صيد أو حطب أو ماء أو غيره، عالما أنه إذا حازه استضر غيره بعدمه ولو أخذ من يده استضر. والثاني ألا يلحقه بذلك ضرر. وهو على ثلاثة أنواع: أحدها، ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيا، أعني القطع العادي كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه بلا بد وشبه ذلك. والثاني ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه.. وما أشبه ذلك. والثالث ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا نادرا. وهو على وجهين: أحدهما أن يكون غالبا كبيع السلاح من أهل الحرب والعنب من الخمار وما يغش به ممن شأنه الغش ونحو ذلك. والثاني أن يكون كثيرا لا غالبا كمسائل بيوع الآجال، فهذه ثمانية أقسام " ثم أخذ في تفصيل كل قسم وبيان حكم الشرع فيه بما لا يوجد له نظير في القوانين الوضعية على الإطلاق، من حيث التفصيل والتمثيل >[36] .

4- أن ما يكون طريقا لمحرم فإنه يأخذ حكمه وهذا ما يعرف بـ ( سد الذرائع ) والذريعة معناها: الوسيلة، فالطريق إلى الحرام حرام، والطريق إلى المباح مباح، فيأخذ الفعل حكما يتفق مع ما يؤول اليه، بناء على النظر إلى نتائج الأفعال وثمراتها؛ فيمنع ما يجوز من الوسائل إذا كانت مفضية إلى ما لا يجوز، بالنظر إلى مآلات الأفعال، ومعرفة تداعيات تنزيل [ ص: 151 ] الحكم المستقبلية. وبحسب عظم المفسدة في الممنوع، يكون اتساع المنع في الذريعة وشدته، فالشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم والتحرز مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة، و " النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة؛ وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل " >[37]

4- أنه يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام : وتطبيقا لهذه القاعدة، فان تصرف الفرد في حقوقه وواجباته، المأذون له فيها شرعا، إذا ترتب عليه ضرر عام يلحق جماعة المسلمين عامة، أو في قطر من الأقطار، ويغلب على الظن وقوعه، يمنع الفرد من التصرف؛ إذ " اعتبار الضرر العام أولى، فيمنع الجالب أو الدافع مما هـم به؛ لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة ، بدليل النهي عن تلقي السلع وعن بيع الحاضر للبادي واتفاق السلف على تضمين الصناع مع أن الأصل فيهم الأمانة، وقد زادوا في مسجد رسول الله من غيره مما رضي أهله ( وما لم يرضوا ) ، وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص، لكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة " >[38]

فـ ( منظومة القيم ) الإسلامية، بهذه القواعد الضابطة، وتلك الخصائص، والأسس الثابتة الواضحة المستمدة من الوحي الإلهي، تعد موازين [ ص: 152 ] يزن بها المسلم مسالكه، وسلما تنتظم على درجاته وتنظم مختلف شرائع الإسلام كبيرها وصغيرها، وضوابط تهتدي بها حريته، وتتحدد حقوقه وواجباته، فتستقيم حياة الفرد، ويتحقق صلاح المجتمع؛ ومن ثم توصف بأنها قيم " ضابطة أو حاكمة " فهي بارتباطها بأي مقصد من المقاصد تضبط حركة هـذا المقصد وتحدد اتجاهه من ناحية ( ما يمكن أن نسميه أخلاقيات الحركة ) ، كما تحدد محتواه ومكوناته من ناحية أخرى ( ما يمكن أن نسميه أخلاقيات المضمون والغايات ) في منهجية متكاملة تضبط حركة الإنسان ومساره على مختلف الصعد في هـذه الحياة.

- دور القيم في ضبط حرية الرأي:

تأسيسا على " منظومة القيم " الإسلامية، أو " الآداب الشرعية " وتوظيفا لها، تأتي ممارسة حرية الرأي في التصور الإسلامي، فتلك القيم والآداب الشرعية هـي التي تضبط الرأي، بدءا من دواعيه، ومرورا بموضوعاته،وانتهاء بضوابطه، ففي التصور الإسلامي تنطلق الكلمة الحرة لا يحكمها إلا ضوابط الخلق والنظام، وهي في الواقع ليست " قيودا وموانع " بل هـي " معايير وضوابط " ، ومنع الإنسان من استخدام حرية الرأي على وجه يسئ إلى الآخرين يعد منعا من الاعتداء، وليس منعا من الحق؛ فحرية الرأي لو أدت إلى تهديد سلامة النظام العام في الدولة، أو أدت إلى إشعال نار الفتنة في المجتمع، أو الإساءة إلى الآخرين، أو التشويش عليهم في آرائهم وأفكارهم ومعتقداتهم، وجب وقفها، وهذا لا يكون حرمانا من حرية، أو منعا من [ ص: 153 ] ممارسة حق، أو تقييدا لممارسة حرية الرأي، بل تنظيما لتلك الممارسة؛ حتى لا تنحرف عن القصد، وفرق بين التنظيم والتقييد >[39] .

فالإسلام لم يطلق حرية الرأي بلا ضابط لما في ذلك من الفوضى والفتنة، بل وضع لها ضوابط، وحد لها حدودا، منبثقة من نظامه القيمي، بحيث يقف في سبيلها إذا ما استهدفت الفتنة، أو خيف منها الفرقة، أو ألحقت ضررا بالغير، أو خدشا لكرامته، أو تعريضا به..

والأصل في ذلك قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ) ( الاحزاب: 70)

والقول السديد لا يكون -حتما- إلا بمراعاة أمانة الكلمة وضوابطها،

وقوله تعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هـي أحسن إن ربك هـو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) ( النحل: 125) ،

وقوله جل وعلا: ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما ) ( النساء: 148) ،

وكل ذلك تقرير لما يجب أن يكون عليه منهجية الرأي والخطاب والنقاش عند الممارسة من التزام بالقيم والآداب. وهي منهجية تقوم على الوعي بأهمية الرقي بالإنسان، وتأكيد حقه في الكرامة والحرية.

وليس في ذلك -كما يظن- إلغاء لحرية الرأي، ولكن توجيه لها وهداية. [ ص: 154 ]

يقول الطاهر ابن عاشور : " الأصل أن لكل أحد أن يقول ما شاء أن يقوله، ولا يمسكه عن ذلك إلا وازع الدين بألا يقول كفرا أو منهيا عنه، أو وازع الخلق بألا يقول قذعا أو هـذيانا، أو وازع التبعة على أذى يلحق غيره بسبب مقاله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم– إلا حصائد ألسنتهم ) >[40] " >[41] وما أشار إليه ابن عاشور من أن حرية الرأي لا يضبطها إلا ( وازع الدين ) و ( وازع الخلق ) و ( وازع التبعة ) هـو ما يمكن أن نسميه بـ " الأخلاق " أو " الأدبيات " المسيطرة على ممارسة حرية الرأي. وهي قيم تحرك الممارسة لحرية الرأي نحو الغايات والأهداف، حتى تتحقق المقاصد المطلوبة، التي تجعل من حرية الرأي طاقة موجهة للخير العام حتى في أخص مطالب الإنسان ومنافعه الذاتية.

ويتأسس على هـذا أن ممارسة حرية الرأي، انطلاقا من هـذه القيم، هـي مناط " الشرعية " التي تنتظم داخلها مسالك الأفراد، وتمارس في إطارها الحريات العامة والخاصة، وأي انحراف عن هـذه القيم يعد خروجا عن الشرعية، وانفصاما بين قيم الإسلام وحركة المسلم في الحياة، وهذا غير مقبول في التصور الإسلامي،

قال تعالى: ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) ( البقرة: 44) ،

( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) ( الصف: 2-3) ،

فالممارسة هـي التطبيق العملي للقيم، [ ص: 155 ] ويجب أن تتطابق معها " فالإسلام يعرف من جانب وحدة وتكاملا في نظامه القيمي عامة، ومن جانب آخر لا يؤمن بين القيم والممارسة، فأى مخالفة لأى جزء، أو جانب من القيم هـي انحراف بقدر تلك المخالفة " >[42] يحاسب عليه العبد يوم القيامة، مما يجعل المسلم حريصا على الالتزام بهذه القيم عند ممارسة لتلك الحرية، وتوقظ فيه الوازع الداخلي، والرقيب الذاتي الذي يحمله على الانضباط بالقيم، ومساءلة نفسه، وتقويم سلوكه، حتى لو غاب الرقيب المادي، فالرقيب الشرعي لا يغيب، وإن لم يساءل الفرد في الدنيا، فلن تفوته المساءلة في الآخرة، وهو ما لا يوجد له نظير في القوانين الوضعية على الإطلاق،

قال تعالى: ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) ( ق:18)

( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) ( الإسراء: 36) .

ولقد اجتهد علماؤنا في وضع الأصول والضوابط المستنبطة ( منظومة القيم ) الإسلامية لمنهجية ممارسة حرية الرأي، حتى تتحقق المقاصد المطلوبة، فهي -إضافة إلى كونها تنطلق من الرؤية العقيدية السليمة- تسهم في تدعيم الرأي، وإثرائه، وتوجيهه نحو الغايات والأهداف التي تسعى الممارسة لتحقيقها، فـ " لن تخلد الكلمة على الأجيال إلا إن إتصلت بالحق والخير، وكان لها من قوانين الله في خلقه سند، ومن إلهامه لعباده مدد. [ ص: 156 ]

ورب بارقة يرمي بها سلطان مسلط، أو صنم مشهور، فتدوي حينا، وتتألق زمانا، ثم تصمت وتنطفئ، وتكون كالشهاب يحور رمادا بعد التهاب، بما كان دويها من صوت الباطل لا الحق، وائتلاف من زخرف الكذب لا الصدق. ولا ينطق بكلمة الحق الخالدة إلا عقل مدرك، وقلب سليم، إلا قائل يعتد بنفسه ويثق برأيه، فيرسل الكلام أمثالا سائرة، وبينات في الحياة باقية، لا يصف وقتا محدودا، ولا أمرا موقوتا، ولا إنسانا فردا، ولا حدثا واحدا، ولكنه يعم الأجيال والأعصار، والبلدان والأقطار. وعلى قدر عظم القائل: تجد هـذا العموم في قوله، يبغي أن يجعل كلماته للناس منهاجا، وفي الظلمات الحياة سراجا وهاجا " >[43] .

وتتمثل هـذه الضوابط المنهجية، لحرية الرأى في التصور الإسلامي في الأمور الآتية ( وهذا التقسيم لا يعني استقلال كل منها ببنيته، واستغناءه بمضمونه، بل إن جميعها تتداخل فيما بينها وتتكامل) :

أولا: ضوابط أسلوبية

والمراد بها: اتباع طرائق وأساليب معينة تؤدي معها حرية الرأي نتائج أكثر إيجابية، فلكي يؤتي الرأي -بوصفه وسيلة تواصل، وآلية بلاغ- ثماره المرجوة، لا بد من مراعاة حسن الأسلوب، والتلطف في الخطاب، واحترام رأي ( الآخر ) ، وذلك باجتناب الألفاظ القاسية، والعبارات الجافة، ومراعاة أدب القول، والإعراب عن إيجابيات الرأي ( الآخر ) ، وإحسان الكلام عند [ ص: 157 ] النقد البناء الذي يرجى منه الإصلاح وتحقيق المصلحة العامة، والتجمل في إبدائه بكل الكلمات الطيبة المرنة التي تفتح القلوب على الحق، وتقرب الأفكار إلى مفاهيمه وأحكامه،

قال تعالى: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هـي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) ( العنكبوت:46) ،

وقال سبحانه: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هـي أحسن إن ربك هـو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) ( النحل: 125) ،

وقد حددت هـذه الآية الكريمة ثلاثة منطلقات أساسية تضبط أسلوب ممارسة حرية الرأي، وهي >[44]

1- منطق الحكمة ، الذي يعنى به: وضع الرأي في موضعه، وصواب الأمر وسداده، ووزن الأشياء بموازينها. وهو مبدأ جامع لسائر أشكال الرفق والتسامح وحسن الخطاب، ومخاطبة الناس على قدر عقولهم، واحترام رأي ( الآخر ) والصبر عليه.

2- منطق الموعظة الحسنة ، الذي يعني به: أن يراعى عملية الإقناع والتعامل النفسي في خطاب الآخرين من خلال مخاطبتهم بلغة الحق والإيمان.

3- منطق الجدال بالتي هـي أحسن، الذي يعنى به المحاججة لإظهار الحق بمنهج فيه صبر وأناه، بعيدا عن منزلقات الخطاب، وهو أمر شامل للمحتوى والأسلوب. [ ص: 158 ]

و " كل من يقوم مقاما من مقامات الرسول صلى الله عليه وسلم في إرشاد المسلمين أو سياستهم، يجب عليه أن يكون سالكا للطرائق الثلاث: الحكمة ، والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هـي أحسن، وإلا كان منصرفا عن الآداب الإسلامية وغير خليق بما هـو فيه من سياسة الأمة، وأن يخشى أن يعرض مصالح الأمة للتلف، فإصلاح الأمة يتطلب إبلاغ الحق إليها بهذه الوسائل الثلاث. والمجتمع الإسلامي لا يخلو عن متعنت أو ملبس وكلاهما يلقي في طريق المصلحين شواك الشبه بقصد أو بغير قصد. فسبيل تقويمه هـو المجادلة، فتلك أدنى لإقناعه وكشف قناعه " >[45]

والرفق هـو ملاك ذلك كله، فهو زينة العمل الصالح، والله تعالى يعطي عليه، ما لا يعطي على العنف، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب الرفق في الأمر كله ) >[46] ، وقال أيضا: ( إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه ) >[47] وقال يحي بن معاذ الزاهد: " أحسن شيء: كلام رقيق، يستخرج من بحر عميق، على لسان رجل رفيق " ويدل على وجوب الرفق " ما استدل به المأمون، إذ وعظه واعظ، وعنف له في القول، فقال: يا رجل ارفق... فقد بعث الله من هـو خير منك إلى من هـو شر مني، وأمره بالرفق،

فقال تعالى: ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) ( طه: 44) >[48] ، [ ص: 159 ] ولهذا قال ابن تيمية ، رحمه الله: " .. فلا بد من هـذه الثلاثة: العلم، والرفق، والصبر. العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة لا بد أن يكون مستصحبا في هـذه الأحوال.. وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف: لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها يأمر به، فقيها فيما ينهى عنه، رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه فيما يأمر به، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه " >[49]

ثانيا: ضوابط خلقية

فالكلمة هـي الدائرة التي يلتقي في مركزها تفاهم بني الإنسان بعضهم مع بعض؛ لذلك فإن الإسلام يفترض في الكلمة: الإخلاص ، والصدق ، والواقعية ، والجدية ، وسلامة القصد، وعدم تحريف الكلام أو إخفاء الحقيقة، وحفظ السمعة وصيانة الأعراض... فكل أولئك عوامل تتضافر في إنجاح الرأي، وتحقيق الغاية المتوخاة منه. والأصل في ذلك قوله تعالى:

( وقل لعبادي يقولوا التي هـي أحسن ) ( الإسراء: 53) ،

وقوله صلى الله عليه وسلم : ( ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " وفي رواية: " أو ليسكت ) >[50] .

بل جعل الإسلام مستقبل سعادة الإنسان وشقاوته مرتبطا بمدى التزامه بأدبيات الكلمة، وغاياتها المرجوة،

( فقال صلى الله عليه وسلم : إن العبد ليتكلم بالكلمة من [ ص: 160 ] رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم ) >[51] وفي رواية: ( .. وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه ) >[52] وفي رواية: ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها ( أي يتفكر أنها خير أم لا ) يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق ) >[53] وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: ( من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة، لقي الله عز وجل مكتوب بين عينيه: " آيس من رحمة الله ) >[54] ومن ثم:

1- ندد الإسلام بأي كلمة أو رأي يخرج عنه هـذا الإطار الأخلاقي، فذم الكلمة القائمة على السوء والفحش،

قال تعالى: ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما ) ( النساء: 148) ،

وقال سبحانه: ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ( النور: 19) ،

فالرأي منهي عنه حين يؤدي إلى إشاعة الفاحشة، والخوض في الباطل وأعراض الناس؛ لأن " إشاعة أخبار الأفراد السيئة أو تجريحهم، يترك المجال [ ص: 161 ] واسعا بعد ذلك لتجريح كل أفراد المجتمع، فتصبح الجماعة بمجموعها ذات سمعة ملوثة وكل فرد فيها مهدد بالاتهام، وفوق ذلك فإن إطراد التهم يوحي بأن جو الجماعة ملوث، وصفها غير نظيف، وجوها آسن، وبعد ذلك تهون التهم في حس الأفراد، وتقل بشاعتها بكثرة الترداد، والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة، كما تخسر بشيوع الاتهام والترخيص فيه، وعدم التحرج من الإذاعة به، وتحريض الكثر من المتحرجين على ارتكاب الفعلة التي كانوا يستقذرونها، ويظنون أنها ممنوعة أو نادرة الوقوع.

وفوق ذلك الآثار المترتبة عليها في حياة الناس.. >[55] ، ومن ثم توعد الله عز وجل ( المرجفين ) الذين يروجون الأخبار والأقوال الباطلة ويدلسونها، ويشيعون الأكاذيب بين الناس،

فقال تعالى: ( ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) ( الأحزاب: 60-62) .

2- حرم الرأي المبني على الكذب، والتدليس على الناس، فالقرآن يقبح عاقبة الاتصاف بالكذب، ويبين أن الكاذبين مغضوب عليهم من رب العزة، ويبرئ مجتمع المؤمنين منهم، يقول عز وجل : ( ألم تر إلى الذين تولوا قوما [ ص: 162 ] غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون ) المجادلة: (14) .

3- وحرم الخوض في خصوصيات الناس، ونهش أعراضهم بالإيذاء والتجريح،

قال تعالى: ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم ) ( النور: 23)

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من إتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته ) >[56] بل أوجب الإسلام ضرورة الرد عن عرض المسلم، فقال صلى الله عليه وسلم : ( من رد عن عرض أخيه المسلم كان حقا على الله عز وجل أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ) >[57] .

وحظر قذف الناس وسبهم، وشرع في ذلك حد القذف،

قال تعالى: ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هـم الفاسقون ) ( النور: 4) .

ونهى عن السب والهمز واللمز والسخرية والتنابز بالألقاب ،

قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب [ ص: 163 ] بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هـم الظالمون يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) ( الحجرات: 11-12 )

وقال صلى الله عليه وسلم : ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) . >[58]

كما حرم السخرية بالأديان والمعتقدات المخالفة، فما دام الإسلام يضمن حرية الاعتقاد وحرية التعبير فلا يجوز باسم حرية التعبير عن الرأي المساس بحرية الاعتقاد، أو السخرية بمعتقدات الآخرين بأي وسيلة من الوسائل، وقد نزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم موضحا هـذه الحقيقة،

فقال تعالى: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ) ( الأنعام:108) .

كما اعتبر الإسلام حركة اللسان المخالفة للحقيقة من علامات النفاق، قال صلى الله عليه وسلم : ( آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان ) >[59] [ ص: 164 ]

كما نهى الإسلام عن تتبع الزلات والهفوات، قال صلى الله عليه وسلم : ( ... ومن قفا ( أي تتبع ) مؤمنا أو مؤمنة حبسه الله في ردغة الخبال عصارة أهل النار... ) >[60] ، وقال: ( ومن رمى مسلما بشيء يريد شينه به حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال ) >[61] ، وخاصة العلماء، كما ليس له أن يتكلم على أهل العلم والإيمان إلا بما هـم له أهل فإن الله تعالى عفا للمؤمنين عما أخطأوا.. وأمرنا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا وألا نتبع من دونه أولياء، وأمرنا ألا نطيع مخلوقا في معصية الخالق، ونستغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.. وهذا أمر واجب على المسلمين في كل ما كان يشبه هـذا من الأمور، ونعظم أمره تعالى بالطاعة لله ورسوله، ونرعى حقوق المسلمين، لا سيما أهل العلم منهم، كما أمر الله ورسوله. ومن عدل عن هـذه الطريق فقد عدل عن اتباع الحجة إلى اتباع الهوى في التقليد، وآذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فهو من الظالمين. ومن عظم حرمات الله وأحسن إلى عباد الله كان من أولياء الله المتقين " >[62] . [ ص: 165 ]

ثالثا: ضوابط علمية

والمراد بها مجموعة من الأساليب، والأدوات، والخطوات المنهجية، التي تمكننا من الوقوف على الحقيقة، ومنها:

1- التحري في المعطيات ، والتأكد من فهمها وتمثل حقيقتها قبل بناء الرأي وإذاعته، مما يجعل المرء واعيا لما يطرح من فكر، فيأتي رأيه متصفا بوضوح الرؤية، وقوة الحجة، ووداعة الكلمة. فلا يجوز أن يلقى الرأي هـكذا جزافا دون ترو أو تفكير أو معيار أو تقدير؛ لذلك لم يقتصر الإسلام على تأكيد تحصيل المعرفة، وإنما أكد الالتزام بخلق وأدب المعرفة أيضا، لما لذلك من أهمية تعادل الكسب المعرفي،

قال تعالى: ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) ( يونس: 39)

ونهى المسلم عن اتباع الظن والهوى، قال تعالى: ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) ( النجم: 23)

( أرأيت من اتخذ إلهه هـواه أفأنت تكون عليه وكيلا ) ( الفرقان:43) ،

وجعل المعرفة مرتبطة ببرهانها ودليلها، كما جعل البرهان دليل صدقها، وكان الطلب الخالد المربي للعقل:

( قل هـاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) ( البقرة:111) ،

كما أمر الله بالتثبت والتحقق من صدق الوقائع قبل عرضها، فقال جل وعلا:

( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على [ ص: 166 ] ما فعلتم نادمين ) ( الحجرات: 6) ،

وذم القرآن هـؤلاء الذين يلقون بآرائهم جزافا ودون تثبت من وجهتها، وتحليلها، واستنباط أسبابها؛ والحلول اللازمة لمواجهتها،

فقال سبحانه: ( إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هـينا وهو عند الله عظيم ) ( النور: 15) ،

وقال تعالى: ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ) ( النساء: 83) .

2- الأهلية لتناول الموضوعات، وأن تكون لدى الإنسان القدرة على التعبير عن الرأي، عارفا بما يلزم عنه، وهذا معناه: أن يتحقق للإنسان، في الرأي الذي يعبر عنه، أمران، هـما: العلم والإتقان، وإلا كان صادرا في رأيه عن جهل وضلال واتباع للهوى؛ فليس من حق أي إنسان أن يتكلم في موضوع يجهله، أو أن يبدد طاقاته السمعية والبصرية والعقلية في أمور لم تتوفر لها الأدلة العلمية الكافية،

قال تعالى: ( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) ( الإسراء: 36) ،

فالمسئولية هـنا مزدوجة، مسئولية عن التشغيل والتحريك والكسب المعرفي، ومسئولية عن الالتزام بخلق المعرفة وأدبها وثمراتها،

وقال أيضا: ( ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ( آل عمران:66) ، [ ص: 167 ] قال القرطبي : " في الآية دليل على المنع من الجدال لمن لا علم له، والحظر على من لا تحقيق عنده " >[63] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) >[64] ، ومن ثم كان من كلام سلفنا الصالح: " لو سكت من لا يعلم لاستراح الناس " .

3- الموضوعية والإنصاف ، بمعنى أن يتحرر الإنسان من العوامل الذاتية والخارجية في تناوله الآراء، والتزام الصدق والأمانة، والبعد عن الهوى، والبعد عن المبالغة والتهويل في عرض الآراء، وكذلك البعد عن التعميم ، وهذا معناه: الرؤية المتوازنة في رصد النصوص والأوضاع المحيطة بالأشياء. والقاعدة الذهبية في ذلك قوله تعالى:

( ليسوا سواء ) ( آل عمران:113) ،

وقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هـو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) ( المائدة: 8) ،

وقوله عز وجل : ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ) ( الأنعام: 152) .

ومن أجل مظاهر الموضوعية: إنصاف الخصوم،

قال تعالى: ( فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) (الأعراف: 85) ،

ولعل من السوابق التاريخية في تأصيل ذلك، الكلمات المشهورة التي رويت [ ص: 168 ] عن عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، في وصف الروم، حيث قال: " إن فيهم لخصالا أربع: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين وضعيف، وخامسة جميلة: أمنعهم من ظلم الحكام " . ومن مظاهر الموضوعية كذلك: عرض آراء الآخرين كما هـي، دون كذب أو تحريف، وقد ذم الله أولئك الذين يحرفون كلامه،

فقال تعالى: ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) ( البقرة:75) .

4- الرجوع عن الرأي إذا تبين خطؤه، والبعد عن التعصب ، قال صلى الله عليه وسلم : ( ... ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه ) >[65] ، فـ " التعصب من أشد المهلكات خطرا، وهو أشبه بشخص يعيش وحده في بيت المرايا، فلا يرى فيها غير شخصه، أينما ذهب يمنة أو يسرة، وكذلك المتعصب لا يرى -رغم كثرة الآراء- غير رأيه، فهو منغلق على وجهة نظره وحدها، لا يفتح عقله لوجهة سواها، يزعم أنه الأذكى عقلا، والأوسع علما، والأقوى دليلا، وإن لم يكن لديه عقل يبدع، ولا علم يشبع، ولا دليل يقنع " >[66] [ ص: 169 ]

جدلية: ( الحق في التعبير ) و ( الثوابت الدينية )

وتأسيسا على هـذه الضوابط المستمدة من ( المدونة الأخلاقية ) و ( منظومة القيم ) الإسلامية، فإن الرأي في الإسلام لا يمكنه أن يحمل رسائل مناقضة لكليات الدين وفروعه الثابتة، وهو ما يعرف بـ ( الثوابت الدينية " ، والمراد بها: معارف الوحي الثابتة بنصوص محكمة قطعية الثبوت، وقطعية الدلالة، فهذا لا مجال للرأي فيها؛ إذ " لا اجتهاد مع النص " كما قرر أصوليا،

قال تعالى: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) ( الأحزاب:36) .

ومن هـنا قال الإمام الشافعي ، رحمه الله: كل ما أقام به الله الحجة في كتابه، أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، منصوصا، بينا، لمن يحل الإختلاف فيه لمن علمه >[67] ، ومجال هـذه " الثوابت " النصوص التي تتعلق بها مصالح ثابتة على مر الزمن، مهما تباينت الظروف، واختلفت العصور والبيئات، من مثل: الأمور العقيدية، والفرائض الركنية، والقيم الأخلاقية، وأحكام الإرث، والمحرمات من النساء... وما إلى ذلك من الأحكام المفسرة المحكمة. ويبقى دور العقل في هـذه ( الثوابت ) : الاجتهاد في ( مورد النص ) و ( محله ) فهما [ ص: 170 ] ( يهدف إلى تحصيل صورة المراد الإلهي في الأوامر والنواهي التي تتعلق بأجناس الأفعال مجردة ) وتنزيلا ( يهدف إلى جعل ذلك المراد الإلهي الذي حصلت صورته في الذهن قيما على أفعال الناس الواقعة، بحيث تصبح جارية على مقتضاه في الأمر والنهي ) >[68] .

أما ما وراء هـذه الثوابت من الظنيات، فهي موارد الاجتهاد واختلاف الآراء، فيمكن أن تختلف فيها وجهات النظر الفكري، والفقهي، ولا ضير، ما دام لم يعارض نصا محكما، أو قاعدة شرعية ثابتة، وهي تشمل الأحكام التي تتعلق بالمصالح المتغيرة كأحكام المعاملات، والشئون السياسية، والاقتصادية، وما إليها، يقول الإمام الشافعي : " وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياسا، فذهب المتأول، أو القايس، إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره، لم أقل إنه يضيق عليه ضيق الخلاف في المنصوص " >[69]

فالإسلام يسمح للفكر الإنساني أن ينطلق ويعلن عن نفسه، ما لم يتمرد على قاعدته الفكرية، التي هـي الأساس الحقيقي لتوفير الحرية للإنسان في نظر الإسلام، ومنحه شخصيته الحرة الكريمة التي لا تذوب أمام الشهوات، ولا تركع بين يدي الأصنام.

وإذا كانت العقيدة الإسلامية لا تقوم على الإكراه ( لا إكراه في الدين ) ( البقرة: 256) وتعطى لغير المسلمين -في ظل الدولة الإسلامية- [ ص: 171 ] حرية الاعتقاد كاملة، وحرية القيام على أمور عقيدتهم تعليما وتربية وتكوينا، وتفتح الكثير من قنوات حرية الرأي، بل توجبها في كثير من الأحيان، فإن ذلك في إطار عدم تشكيل تهديد للكيان العقيدي الإسلامي، بمعنى: ألا تتحول تلك الحرية إلى أداة لتمزيق وحدة المجتمع الإسلامي، والتشكيك في كلياته وثوابته المعصومة، الصحيحة في ثبوتها، الصريح في دلالتها " فالمجتمع يظل مجتمعا واحدا، لا يسمح لأية قوة اجتماعية في داخله، أن ترتفع بذاتيتها واستقلاليتها الفكرية لتشكك في المبادئ العامة، والقيم الكلية المتكاملة للعقيدة الإسلامية " >[70] . فهي حرية تلتقي والأهداف الإسلامية العليا، ولا تقترب من الأهداف والممارسات التي تعرض سلامة العقيدة والمجتمع للخطر، فهي ( حرية ملتزمة ) .

وبناء على هـذا، لا ينبغي أن تستخدم حرية الرأي في هـدم أسس ودعائم النظام الإسلامي، أو الإعلان عن نظريات ملحدة أو هـدامة، أو لإشاعة أفكار ضالة ووجهات نظر مغرضة، كالدعوة إلى الشرك بالله، أو التشكيك فيه، أو منع الفروض والاستهزاء منها، أو إباحة المحرمات والدعوة إلى إشاعتها، والعبث بالنصوص الشرعية، وخنق حقائق الدين بالتأويل الباطل لها، وتعطيلها بدعوى تاريخيتها، أو نسبية الأحكام الشرعية، ونشر البدع والضلالات؛ وتشويه الدين وتمويهه وتمييعه، لإشاعة الشك والبلبلة بين المسلمين، مما يعتبر [ ص: 172 ] هدما للمبدأ من أساسه، وسبيلا لاضطراب الحياة، واختلال الموازين. وهذا ما لا يسمح به الإسلام، والدولة الإسلامية، في إطار حمايتها للعقيدة، تقف في مواجهة هـؤلاء المشككين في ثوابت الإسلام، مع اختلاف أنواعهم وطبقاتهم، إذ ينبغي لها أن تحافظ على الدين، الذي هـو أساسها وركنها، نقيا خالصا:

( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هـم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هـو كاذب كفار ) ( الزمر: 2-3) .

فهدم الأسس التي يقوم عليها النظام، بحجة الليبرالية والتحرر ، لا يسمح به أي نظام من الأنظمة؛ وإذا كانت الحرية الفكرية تعني في الحضارة الغربية: السماح لأي فرد أن يفكر ويعلن أفكاره ويدعو إليها كما يشاء، فإنها تشترط -أيضا- ألا يمس فكرة الحرية والأسس التي ترتكز عليها بالذات؛ ولهذا تسعى المجتمعات الغربية ( الديمقراطية ) نفسها إلى مناوأة الأفكار ( الفاشستية ) والتحديد من حريتها، أو القضاء عيها؛ لأن هـذه الأفكار تحارب نفس الأفكار الأساسية والقاعدة الفكرية، التي تقوم عليها فكرة الحرية والأسس الديمقراطية عندهم؛ وكذلك أية ( أيديولوجية ) فإنها لا تتسامح -مطلقا- في الخروج على أصولها ( الأيديولوجية ) ؛ ومن ثم " فجميع دساتير العالم تشتمل [ ص: 173 ] على مبادئ رئيسية لا يمكن المساس بها، أو مناقشتها.. " >[71] فكل من الحضارة الغربية والإسلام يسمح بالحرية الفكرية بالدرجة التي لا ينجم عنها خطر على القاعدة الأساسية، وبالتالي على الحرية نفسها.

ومعنى ذلك -كما يقول د. طارق البشري - " أن حقوق البشر وحرياتهم، وهي نسبية، ينبغي أن تقف عن حدود ما هـو مطلق من ثوابت الدين. ولا تداخل بين الأمرين؛ إنما هـي هـيمنة المطلق على النسبي ، ولا يبقى مطلق إلا بهذا الضابط، والنسبي إذا نقص يستمر الباقي منه موجودا. أما المطلق فلا يلحقه نقص، وإن نقص لا يبقى منه باق. ولا مناسبة بين الأمرين، ولا بد من مهيمن، إما أن يهيمن المطلق على النسبي، وهنا يبقى النسبي موجودا ومحدودا، في إطار حاكمية المطلق، أو العكس بأن يهيمن النسبي على المطلق فلا يبقى هـناك ثوابت دينية " >[72]

وهذا يقتضي من الدولة الإسلامية، انطلاقا من ممارستها لوظيفتها العقيدية، حماية الثوابت الدينية من أي رأي يشكل نقضا صريحا لها، وذلك من خلال الحوار مع هـؤلاء بهدف إقناعهم وإزالة الشبه وسوء الادراك لديهم، وإلا اتخذت الوسائل التعزيرية، والعقوبات الشرعية، لمنعهم من ذلك؛ لأن ( حفظ الدين ) من أهم المقاصد الضرورية في الإسلام، وذلك بحسب طبيعة [ ص: 174 ] آرائهم، عظيمة المفسدة في الدين أم لا، صاحبها مشتهر بها أم لا، داع إليها أم لا، مستظهر بالاتباع أم لا. وللإمام الجويني كلام نفيس في هـذا الباب يمكن أن يعد أصلا، يقول: " إن نبغ في الناس داع في الضلالة، وغلب على الظن أنه لا ينكف عن دعوته، ونشر غائلته، فالوجه أن يمنعه ( أي: الإمام ) ويتوعده إن حاد عن إرتسام أمره، فلعله ينزجر، ثم يكل به موثوقا به من حيث لا يشعر به ولا يراه، فإن عاد إلى ما عنه نهاه، بالغ في تعزيره، وراعى حدود الشرع، ثم يثني عليه الوعيد والتهديد، يبالغ في مراقبته من حيث لا يشعر، ويرشح مجهولين يجلسون إليه على هـيئات متفاوتات، ويعتزون إلى مذهبه، ويتدرجون إلى التعلم والتلقي منه، فإن أبدى شيئا أطلعوا السلطان عليه، فيسارع إلى تأديبه والتنكيل به، وإذا كرر عليه ذلك أوشك أن يمتنع ويرتدع، ثم إن إنكف فهو الغرض، وإن تمادى في دعواته أعاد عليه السلطان تنكيله وعقوباته، فتبلغ العقوبات مبالغ تربي على الحدود، وإنما يتسبب إلى العقوبات بأن يبادره بالتأديب مهما عاد.. والمسلك الذي مهدناه يتضمن الزجر الأعظم، والردع الأثم، وإستمرار العقوبات مع تقدير المعاودات " >[73] .

ولنا في هـذا أسوة حسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، حينما أمر بهدم مسجد ( الضرار) الذي أقامه المنافقون بقصد هـدم الدين، وبث الفرقة بين جماعة المسلمين، قال تعالى: ( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين [ ص: 175 ] المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هـار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ) ( التوبة: 107- 110) .

وتبقى هـذه المسألة في حاجة إلى مزيد من الاجتهادات في إطار فقه الواقع المعاصر للدولة الإسلامية. على أن هـذا التنظيم لحرية الرأي، بما فيه من ضوابط لتلك الممارسة، يجب على " ولاة الأمر التريث فيه، وعدم التعجل؛ لأن ما زاد على ما يقتضيه درء المفاسد وجلب المصالح الحاجية من تحديد الحرية يعد ظلما " >[74] . [ ص: 176 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية