توطين العلوم في الجامعات العربية والإسلامية (رؤية ومشروع)

الدكتور / علي القريش

صفحة جزء
تقديم

عمر عبيد حسنة

الحمد لله، الذي بدأ وحيه الخاتم إلى الإنسانية بكلمة ( اقرأ ) ، وبذلك اعتبر القراءة وتحصيل المعرفة والعلم والتعلم والتعليم هـو مفتاح هـذا الدين وإدراك قيمه ومعرفة أحكامه، وهو سبيل النهوض والارتقاء بالإنسان والعمران، وإن شئت فقل: الارتقاء بخصائص الإنسـان، وتنمية قدراته، والارتقاء بأشياء الإنسان وتحسين ظروف وشروط حياته؛ فبالعلم والمعرفة تتم ولادة الإنسان الصالح بذاته، المصلح لمجتمعه ومحيطه.

ولذلك فإن أية إصابة للعملية التعليمية والتربوية، في أبعادها المتعددة، أو أي خلل في تركيبها النوعي، أو في ملاءمتها الاجتماعية، سوف ينعكس على جميع أنشطة الحياة وفعالياتها، وفي مقدمتها الإنسان، وسيلة النهوض وهدفه في الوقت ذاته.

ومن هـنا نرى أن أي بحث أو دراسة عن أسباب الفشل والقصور والتقهقر والتخلف واستعصاء التنمية خارج العملية المعرفية، بكل أبعادها وأنساقها، هـو تكريس للفشل، وهدر للطاقة، وإضاعة للعمر، وضرب في الحديد البارد، وأن أي اهتمام بالشكل دون المضمون وبالصورة دون الحقيقة [ ص: 5 ] هو تكريس للوهم، وخلط بين التكديس والإبداع، وبين الاستيراد والاستنبات، وبين التقليد والاجتهاد والتوليد، وبين التأصيل والتهجين، بين العدول عن الارتقاء بخصائص الإنسان إلى التطاول في البنيان، وبكلمة مختصرة: بين التوجه إلى الإنسان، كمحل للعملية التعليمية وهدف لها، وبين الاقتصار على وسائل الإنسان وأدواته واعتمادها في النهوض.

والصلاة والسلام على الرسول المعلم، القائل: ( إنما بعثت معلما ) (أخرجه ابن ماجه ) ، حيث بين القرآن أن من أخص خصائص العملية التعليمية والتربوية والمعرفية، حتى تؤتي ثمارها في الارتقاء، عملية توطـين التعـليم،

قال تعالى: ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعة:2) ،

وتوطين لغة التعليم ( بلسان قومه ليبين لهم ) (إبراهيم:4) .

وكم ستكون محصلة التدبر والتأمل والتفكير والاستكشاف لأبعاد وآفاق قوله تعالى:

( رسولا منهم ) ، ( بلسان قومه ) ، عظيمة الأثر في عملية التغيير والارتقاء: رسولا من بينهم، من بيئتهم، من مجتمعهم، من لغتهم، من أنسابهم، من وطنهم وقومهم... إن هـذه الاستحقاقات مجتمعة تشكل شروط نجاح العملية التربوية والمعرفية والتعليمية، أو إن شئت فقل: عملية التزكية بشكل عام. [ ص: 6 ] وبعد: فهذا «كتاب الأمة» الخامس والعشرون بعد المائة: «توطين العلوم في الجامعات العربية والإسلامية.. رؤية ومشروع»، للدكتور علي القريشي ، في سلسـلة «كتاب الأمة»، التي تصـدرها وقفية الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني، رحمه الله، للدراسات والمعلومات (مركز البحوث والدراسات سابقا) في دولة قطر ، في سعيها الدائب لاستكشاف الطاقات الكامنة في الأمة، واستنهاض الهمم، وبيان مواطن الخلل، والتعرف إلى أسباب القصور، وتحديد مواطن التقصير، وإحياء المنهج السنني، والدعوة إلى السير في الأرض والتوغل في تاريخ الحضارات، والتعرف إلى أسباب السقوط والنهوض، واستنطاق التاريخ، الذي يشكل المختبر الحقيقي والنضيج للفعل الإنساني، ومعرفة السنن التي تحكم حركة الحياة، وامتلاك الشروط والتخصصات المطلوبة لتسخيرها في محاولة لإدراك الحاضر وإبصار المستقبل، واسترداد الفاعلية، وتصويب المعادلة الاجتماعية، ومحاولة الإجابة عن سؤال النهضة وأسباب استعصاء العجز. ويمكن القول: إن جهدنا الفكري والثقافي بعمومه إنما يتمحور في العمل على بناء العقل الناقد، وإدراكه المعيار (قيم الوحي) الذي يجعله يعرف وينكر، يأخذ ويدع، يقبل ويرفض، يستطيع التمييز بين الولاء للفكرة والولاء للأشخاص، يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال، يتحرر من التعصب والتمييز والتحيز، يميز بين نص الشارع الحكيم ورأي الشارح المجتهد، بين قيم الدين ونصوصه وبين صور التدين؛ يبصر دور معرفة الوحي [ ص: 7 ] كدليل عمل ومعيار تقويم للفعل البشري، أو فلسفة حياة تقدم القيم والمعايير والضوابط وتضع الإطار المرجعي والضابط المنهجي لحركة الإنسان، ويدرك أبعاد معرفة العقل ودورها في وضع البرامج وإبداع الوسائل في إطار معرفة الوحي وانطلاقا منها.

العقل، الذي يميز بين الحماس ومساحته والاختصاص ومجالاته، بين دور الخبير الفقيه، وبين دور الخطيب الواعظ.

العقل الذي يميز بين التبادل المعرفي والغزو الثقافي؛ الذي يعرف ما يفيده من (الآخر) وما يستلبه ويلحق به الضرر؛ العقل الهاضم القادر على الإفادة في كل أنواع الطعام ليتقوى بها ويطرح فضلاتها.

ولعلنا نقول: إن استقراء التاريخ والتعرف إلى سنن السقوط والنهوض الحضاري يؤكد أن الإنسان المتخلف كان ولا يزال عاجزا عن الإفادة من تقدم الآخرين وعطائهم، وإنه سيبقى زبونا مستهلكا لأشياء (الآخرين) ، الأمر الذي سوف يكرس التخلف ويقضي على أمل النهوض؛ فهو الإنسان «الكل»، الذي حيثما تحرك لا ينتج، بينما الإنسان المتقدم المتحضر المنطلق من ذاتيته، الملتزم بمرجعيته، المدرك لمعادلة أمته الاجتماعية، هـو الإنسان «العدل» الحكيم، القادر على الإفادة من (الآخر) وتقديم العطاء الإنساني للناس جميعا.

وتبقى الإشكالية التي كانت مطروحة ولا تزال: كيف السبيل إلى إعادة إنتاج وصناعة الإنسان «العدل»، القادر على الانطلاق من قيمه ومرجعيته، [ ص: 8 ] القادر على استيعاب تراثه والقدرة على توظيفه وعدم الغيبوبة في جوفه، الإنسان الذي يمتلك القدرة على أخذ العبرة من تراثه لفقه حاضره ومستقبله، القادر على حمل رسالة الخير والرحمة إلى الناس جميعا، المؤهل للإفادة من (الآخر) وممارسة التبادل المعرفي؟ ذلك أن الإنسان «الكل» العاجز، لا يخرج في الحقيقة عن أن يكون وعاء يملأ من (الآخر) ، يفكر بعقله، ويعبر بلسانه، ويشرب في أوعيته؛ إنه يشكل رجع الصدى، لذلك فلا يؤمل منه نهوض ولا تنمية، فالله تعالى يقول عن حاله التي هـو عليها وحيلته التي يفتقدها:

( أينما يوجهه لا يأت بخير ) (النحل:76) .

فالسبيل إلى النهوض إنما يتحقق بإعادة بناء الإنسان «العدل»، الذي ينطلق من معرفة الوحي وقيمه كدليل حياة ومعيار حكم على الأشياء، معرفة وإنكارا، ويمتلك معرفة العقل فيتحقق بجميع العلوم والمعارف والتخصصات، التي تتطلبها مهمة الاستخلاف وإقامة العمران وامتلاك الأدوات والوسائل للشراكة الإنسانية، ومن ثم تحقيق الشهود الحضاري، استجابة لقوله تعالى:

( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة:143) .

ولا شك أن ألف باء تحقيق هـذا الشهود تبدأ من التحقق بمعرفة الوحي كمرجعية، ومن ثم يحصل الكسب العلمي والمعرفي؛ تبدأ من الاستجابة لتكليفه تعالى:

( اقرأ ) ، ( اقرأ وربك الأكرم ) (العلق:3) ،

الأمر الذي يعني القراءة القاصدة الهادفة، التي تنضبط بقيم الوحي، وتندفع لتحقيق [ ص: 9 ] الكسب بقوة العقل، فتكون القراءة باسـم الرب الأكرم، ذلك أن الدين بلا علم ومعرفة يورث تدينا مغشوشا، والعلم بلا قيم تضبط مسيرته وتوجه رحلته وتحدد هـدفه يدمر صاحبه ويشقي أمته، لذلك نرى كيف أن وجهة معظم العلم اليوم، تتجه إلى إنتاج أدوات الهيمنة والسيطرة والتسلط، وقد تتمثل المشكلة الإنسانية اليوم بـ «دين بلا علم، وعلم بلا دين» (!) .

نعود إلى القول: إن السبيل إلى بناء الإنسان «العدل» هـو طريق الكسب العلمي والمعرفي وإيجاد الرحم والمناخ العلمي والتعليمي الصحيح لتشكل الأجنة السليمة، التي تضطلع بمهمة الاستخلاف الإنساني، ذلك أن المعرفة هـي طريق النهوض ولا طريق سواه، مهما زين لنا الشيطان أعمالنا، وقال: لا غالب لنا اليوم من الناس.

إن المتأمل في مسيرة المسألة التعليمية، على مستوى العالم العربي والإسلامي، يبصر أنها تنذر بشر مستطير، لما لحق بها من الإصابات والتقهقر والتراجع وسيادة الغثائية والادعاء واللجوء إلى التكديس والتلقين والتقليد، والنقل لمناهج وتجارب (الآخر) كما هـي بدون معيار؛ ذلك أن العاجز المتخلف – كما أسلفنا- عاجز عن امتلاك المعيار، الـذي يعرف بموجـبه ما يأخذ وما يدع، ما يناسب وما لا يناسب، ما يعرف وما ينكر؛ لذلك ينقل تجارب (الآخر) دون إبصار لا لـ «الذات» وقيمها ومرجعيتها ومعادلتها الاجتماعية وتاريخها الحضاري ومناخها الثقافي ولا لـ (الآخر) بعمره الحضاري وتاريخه الثقافي ومعادلته الاجتماعية. [ ص: 10 ] والإشكالية المحيرة فعلا أن عمليات التحديث والنهوض والنقل الحضاري مضى عليها ما يقارب القرنين، تقدمت خلالها كثير من الأمم، ساهمت بالشراكة، وتميزت بشعب معرفية مهمة، أما نحن فما نزال نراوح في مكاننا، ولا ننجز إلا تقطيع نعالنا، ومع ذلك نرى الإصرار على السير في الطريق المسدود، دون المراجعة وتحديد مواطن الخلل وأسباب الفشل؛ ولما كانت السلطات السياسية غير المؤهلة لمثل هـذه المهام هـي الناقل والحامي للتجارب المستوردة بشكل أعشى أو أعمى فإن عمليات النقد والتقويم والمراجعة وبيان الفشل واكتشاف العلل والفجوات تصبح محرمة على الناس؛ لأنها تفسر بعداوة السلطة ومعارضتها، لذلك انتهينا إلى تكريس التخلف والعجز والتراجع في العملية التعليمية، على جميع المستويات، هـذا إضافة إلى ما يشيعه الاستبداد السياسي من المناخ المعطل للطاقات، الطارد للإمكانات، القاتل للإبداع.

إن الاستبداد السـياسي والظـلم الاجتمـاعي هـو عدو بطبيعة تكوينه وتسلطه للمعرفـة، فالجامعـات والمعـاهد التقـليدية أصبحت معزولة، لا تنتج إلا حفظة للقديم، والأكثر حفظا هـو الأفضل موقعا ومرتبة، وهي على أحسن الأحوال ومن عقود، أو إن شئت فقل: من قرون طويلة، تشتغل بحفظ وتحقيق المعرفـة والاشتغـال بنقلها من جيل إلى جيل، وتعجز عن امتلاك القدرة على توظيف المعرفة وإعمالها في واقع الناس؛ والجامعات والمعاهد الحديثة، في معظمها، مرتهنة في المنهج والكتاب [ ص: 11 ] والمدرس واللغة وأنمـاط التفكير وأنساق المعرفة ونوعيتها لـ (الآخر) وتاريخ (الآخر) ، لذلك لم تأت تاريخيا بخير، فهي ما تزال تمثل الإنسان «الكل» على مولاه.

وإذا كانت الجامعات والمعاهد التقليدية تعاني من العزلة والعقم وغربة الزمان، ويعيش بعضها حالات الغيبوبة، فإن الجامعات والمعاهد الحديثة تعاني من غربة المكان والبيئة والمناخ.

وفي كلا الحالتين، يبقى التقليد هـو السمة الطاغية على الجامعات عامة، منها من يقلد الماضي دون القدرة على توليد رؤى وحلول للحاضر، ومنها من يقلد (الآخر) ويفتقر إلى رؤية (الذات) ومرجعيتها وقيمها ومعادلتها وإصاباتها وأمراضها.

ويكفي أن نلقي نظرة ولو سريعة على المسيرة التعليمية في جامعاتنا لنرى أن الجامعات الشرعية أو الدينية أو التي تولت تدريس معرفة الوحي، على طريقتها، كيف حرمت على طلابها أي لون أو عـلم مدني غير شرعي، بالمعنى التقليدي، من معارف العقل، بل قل: إنها ألغت العقل، واعتبرت التفكير جريمة تقود إلى الزندقة والإلحاد، وإن العقل مقابل الوحي وليس أداة له (!)

والجامعات الحديثة والمعاصرة وقفت على الطرف المقابل، وعالجت الجمود والتقليد بانحراف أخطر أثرا، بادعاء العلمانية ، فحرمت كل ما يمت إلى معارف الوحي بصلة. [ ص: 12 ] لقد كنا، في جامعـاتنا الشرعية التقـليدية، نرفض كل علم ومعرفة غير العلوم العربية أو الشرعية، فأصبحنا في جـامعاتنا العـلمانية الحديثة نرفض كل علم ومعرفة غير العلوم العقـلية أو التجريبية، ونعتبر معرفة الوحي من الغيبيات التي لا عـلاقة لها بالعلم والمعرفة وحاجة الإنسان.. وما تزال هـذه المعادلة الصعبـة مستمرة في حياتنا، إلى حد بعيد: «دين بلا علم» يقابله «علم بلا دين»؛ لذلك لم تستطع الجامعات والمعاهد بأنماطها المتعـددة أن تسهم بمعـاودة إخـراج الأمة لتكون بمستوى إسلامها وعصرها.

ولا شك أن الإحساس بهذه الإشكالية، والفشل المريع الذي أثمرته التجارب الذاتية والمنقولة من (الآخر) ، بدأ يتنامى في كثير من المواقع الثقافية والفكرية والفردية، وتعقد له الندوات والمؤتمرات، وتطرح من خلالها إشكالية النهوض بالعمـلية التعليمية، سـواء على مستوى التعـليم الأساس أو التعـليم العالي، ويتوسـع هـذا الإحسـاس شيئا فشيئا إلى درجة يمكن أن نقـول معها: إنه بـدأ يصل إلى حد الإدراك، ومن ثم بدأت الطروحات الثقافية والفلسفية المأمـولة، التي تشكل المناخات المطلوبة، أو صناعة البيئة المطـلوبة، أو بعـبارة أخرى: محاولة تبيئة التعليم، أو العمل على توفير مواصفات الرحم التعليمية المناسبة لتنشئة الأجنة ذات النسب الشرعي. [ ص: 13 ] إن التقدم صوب تفكيك المعادلة الصعبة، التي أسلفنا الحديث عنها، والتفكير بكيفية التعامل معها، ليأتي التعليم منطلقا من معرفة الوحي وقيمه، كمرجعية ومنطلق وضابط منهجي، ومعتمدا على معرفة العقل وكسبه وتحقيقه في شعب المعرفة المتنوعة، أصبح أمرا لا مندوحة عنه.

فمعرفة الوحي تشـكل الإنسـان، وتصنع فلسفـة العلم، وتحدد هـدفه؛ ومعرفة العقل تبدع وسـائل الإنسـان، وتنمي قدراته، وتؤهله للقيام بمهمة الاستخلاف الإنساني وإقامة العمران؛ وقد لا نحتاج إلى كثير نظر وتفكير لنبصر أن الكثير من المعـارف الإنسـانية والاجتمـاعية مرتبطـة بفلسفـة أصحابـها ومرجعياتـهم ومنطلقاتـهم وتاريخهم الثقافي وعمرهم الحضاري ومشكلاتهم الاجتماعية، وأنها ليست حقائق علمية مجردة وواحدة في كل العالم، بل هـي مختلفة حتى في البلد الواحد، والاختصاص الواحد، وأنها ملونة بمرجعياتها ومذهبياتها وعقائدها، لدرجة بات بعضهم لا يعتبرها علما بعد.

لذلك، فنقلها بكل مكوناتها، يشكل استلابا ثقافيا وتربويا، وأخطارا مميتة تكرس التخلف، وتعطل الطاقات والفاعليات الثقافية، لافتقارها إلى مناخها، وليس ذلك فقط وإنما نعتقد أن العلوم التجريبية المجردة هـي أيضا بأشد الحاجة إلى القيم، التي توجهها وتضبط أهدافها، حتى لا تتحول إلى أدوات مدمرة للإنسان نفسه، فتقع في دائرة ما استعاذ منه رسول الله ( بقوله: ( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ) (أخرجه مسلم ) . [ ص: 14 ] فمعرفـة الوحـي هـي المؤشر والدليل والموجـه والضابط لحركة العقل ومعرفته والدافع لها، وليس المقيد والمانع منها، كما يتوهم أصحاب التدين المغشوش وأدعيـاء العلمـانية الطاغية، وفصـل قيم الدين عن مسيرة العلم.

ويمكن لنا أن نقول، من بعض الوجوه: إن معرفة الوحـي، إضافة إلى أنها تقدم فلسفة الحياة ودليل التعامل معها، بكل أنشطتها، هـي مصدر لمعرفة الفروض العينية والتكاليف الشرعية التي يناط بها بناء الفرد؛ أما في مجال الفروض الكفائية والاضطلاع بالتكاليف الاجتماعية وتحصيل الاختصاصات والشعب المعرفية المطلوبة لبناء الحياة فتبين معرفة الوحي أنها منوطة بمعرفة العقل وكسبه، حيث اكتفى الوحي باعتبارها، ولم يفصل فيها، وأطلق العقل ليحصلها واعتبر ذلك مصدر ثواب وأجر.

وقد تكون الإشكالية التي نعاني منها تتمثل في غياب الأبعاد الحقيقية لمفهوم فروض الكفاية، وقصرها على تشييع الجنازة والصلاة عليها، الأمر الذي قد يؤدي إلى مغادرة فعاليات الحياة وأنشطتها، مغادرة المجتمعات إلى المقابر، ذلك الفهم الحسير الذي أدى إلى عطالة الأمة وتخلفها وقتل نشاطها، بل تأثيم نشاطها، والانتهاء بها إلى الموت الواقعي، والعجز عن الاضطلاع بمهمة الاستخلاف الإنساني، وتوفير مستلزماتها.

وليس أقل من ذلك خطورة، من أمثلة ونماذج الفهم المعوج والتدين المغشوش، التوهم أن المسلم إنما خلق للعبادة، بالمفهوم الضيق للعبادة، بمعنى [ ص: 15 ] الصلاة والصوم وبقية الشعائر، وأن الكفار خلقوا لخدمتنا، خلقهم الله للصناعات والزراعات وتحصيل التخصصات العلمية، لاستهلاكنا وخدمتنا؛ دون أن ندري أننا بكل خبراتنا في خدمتهم، وأن خيراتنا وخاماتنا وأموالنا هـي السبب في تقدمهم، وقد لا يستـغرب ذلك الفهم من إنسان التخلف، فالتخلف يلف الواقع ويحكمه، وقد ينعكس على تشكيل العقل والفقه وفهم الدين.

لذلك فأول الطريق إلى النهوض العلمي والمعرفي وإصلاح الخلل التعليمي والثقافي يبدأ من استشعار أهمية إحياء الفروض الكفائية، والانطلاق إلى تحصل المعارف والعلوم المتنوعة، والاستشعار بأن ذلك دين من الدين، وأن الذي يختارها تصبح بالنسبة له فرض عين، وأن الانسحاب منها إلى منابر الوعظ والإرشاد دون مؤهل غش للدين والدنيا معا.

هذا إضافة إلى أهمية الانتباه إلى عملية توطين التعليم ومؤسساته والتدبر الواعي لقوله تعالى: ( رسولا منهم ) ، والخـلوص من الارتهان للمنهج واللغة والكتاب المدرسي والبيئة الثقافية.. وقد يكون المطروح اليوم بشدة، أولا وقبل كل شيء، عملية توطين الجامعات، التي ما يزال الكثير منها يشكل جزرا مرتهنة لـ (الآخر) في معظمها، لتشكل الحاضن الصحيح لتوطين العلوم.

فالتوطين له أبعاد واسعة وكبيرة ومعقدة، ويتطلب إمكانات واستعدادات ومؤهلات تتطلب جهودا كبيرة، فهو من الصناعات الثقيلة، [ ص: 16 ] ولا نقول ذلك من باب إشاعة ذهنية الاستحالة، كثمرة للعجـز والتخلف، وإنما لنحول دون المجازفات، التي يسبق الفعل فيها الفـكر، ويسبق العمل النية والرؤية والفلسفة الكاملة وتوفير الأدوات المطلوبة، بحيث تتحول الأمنية إلى إمكانية، فالتوطين ليس جغرافيا ولا لغويا ولا منهجيا ولا هـيئة تعليمية ولا مدرسـا ولا كتـابا ولا بحوثا مرتبطـة بالبيئة وحاجة المجتمع فقط، وإنما ذلك كله.

إن التوطين لا يعني النقل من هـناك والإلقاء هـنا؛ لا يعني الاستيراد والتكديس والتمظهر بالعـلم وإنمـا يعني قيما، يعـني القدرة على الاستنبات والوصول إلى مرحلة معرفة الإفادة من (الآخر) وكيفياتها، فالتوطين والوطن يعني - فيما يعني - اللغة والعقيدة والتقاليد الاجتماعية والتاريخ السياسي والثقافي والمناخ والبيئة والعمر الحضاري والنظر لـ (الآخر) ؛ وكيفية الاستفادة من منجزاته، يعني ذلك كله وأكثر، وأي توطين للعلوم يعني اصطباغ العلوم جميعها بهذه الصبغة، في لغته ومنطلقه ومرجعيته ومعادلته الاجتماعية وبيئته ومناخه الثقافي، وإلا كان التعليم كالذي يستورد ثمـارا ويعـلقها بخيوط على غير أشجارها ليوهم ويتوهم أن أشجاره تثمر.

وهنا قضية، قد يكون إلقاء الأضواء الكاشفة عليها من الأهمية بمكان، وهي أن مفهوم توطين التعليم، لا يعني انحباسه ضمن الحدود الجغرافية للوطن خاصة، ذلك أن ثورة الاتصالات ووسائل الاتصال ألغت الحدود الجغرافية [ ص: 17 ] وحولتها إلى حدود ثقافية وحضارية، وأسقطت المسافات، وقربت طالب العلم من المعلم والعالم والمعلومة، أينما كانت، وأن مجرد الضغط على أحد أزرار «الكمبيوتر»، يأتي بكمية من المعارف، تعتبر من العجب العجاب في شتى أنواع المعرفة، الأمر الذي يذكر بقوله تعالى، حكاية عن الذي عنده علم الكتاب:

( أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) (النمل:40)

فالإنسان اليوم بات يرى العالم ويسمعه من مكانه، ويستدعي المعلومة حيثما هـي من موقعه.

وبذلك أصبح العالم كله وطن للإنسان، رغب أو لم يرغب، لذلك فالدعوة إلى عملية التوطين للعلوم والمعارف لا بد أن يدرك أهلها تلك الأبعاد، ويفكروا مليا كيف أن التوطين لا بد يحقق ردم فجوة التخلف، والارتقاء بالمواطن إلى مستوى عصره، وذلك بالعمل على إطلاق مواهبه، ورعاية قابلياته، والارتقاء بقدراته، وتشجيع إبداعاته، ليصل إلى مستوى الشراكة الإنسانية، والمساهمة بالمشترك الإنساني.

وفي اعتقادي أن مفهوم توطـين التعليم، يعني أن تحقق وسائل التعـليم وتهدف مسـيرته كلها وتتمحور رحلة البحث العلمي لتكون في خدمة المواطن، وتتجه إلى معالجـة قضـايا الوطن ومشكلاته، والانطلاق به من حيث هـو، وأن يكون التخطيط للتعليم في ضوء حاجات الوطن والمواطن. [ ص: 18 ] ذلك أن العلوم الإنسانية والاجتماعية إنما توظف للارتقاء بخصائص وصفات الإنسان المواطن، وتعمل على تأصيل وترسيخ مفهوم المواطنة، وتبصر بوسائل إدراك الظواهر الاجتماعية وكيفية معالجتها، وتمتن أنسجة العلاقات الاجتماعية، وتؤهل المواطن لكيفية التعاطي مع نفسه ومجتمعه وبيئته ومحيطه و (الآخر) والعالم من حوله.

وأن العلوم التجريبية إنما توظف للارتقاء بأشياء وأدوات المواطن، وتحضيره للدخول في العصر الإلكتروني بجدارة، ليكون قادرا على بناء العمران، وقيام الحضارة أو المساهمة فيها، ويمكن أن نقول باختصار: المطلوب تبيئة التعليم وإعادة النظر بواقعيته ونوعيته.

وقضية أخرى لا بد من التوقف عندها والنظر في أبعادها، وهي القول: إن الحقيقة العلمية لا وطن لها، وإنها مشترك إنساني، وهذا صحيح إلى حد بعيد، وقد يكون أكثر صحة ودقة في مجال العلوم التجريبية؛ أما في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية فالأمر محل النظر، ذلك أن هـذه المعارف مشبعة بفلسفات ورؤى أصحابـها ومذاهبهم، حتى على مستـوى الوطن الواحد –كما أسلفنا- وأن حقيقتها نسبيـة وقابلة للنقض والإلغاء، فهي نظريات أو وجهات نظر؛ وإن كنا نعتقد أن الحقيقة العلمية في العلوم التجريبية أيضا وما يصاحبها ليست مجردة ولا محايدة وإنما تحمل ثقافة منتجيها، وتبدع وتستخدم لتحقيق أهدافهم. [ ص: 19 ] وحتى إذا سلمنا أن العلم لا وطن له، فإنما ذلك يعني في نظرنا أنه ليس حكرا على شعب أو عرق أو أمة، وإنما يجري ويتحول حيث المناخ والحاضن المناسب؛ وحتى إذا قلنا: إن العلوم تمثل المشترك الإنساني فأين موقعنا من هـذه الشراكة؟

ومن ناحية أخرى، فإننا نرى عملية التوطين ليست أمرا مستحيلا وإن كان صعبا، وليس العجز والتخلف عضويا، ذلك أن المبتعثين والمهاجرين من العرب والمسلمين استطاعوا، عندما توفر المناخ المناسب والبيئة الملائمة، أن يبدعوا ويسابقوا ويتفوقوا، وأن المشكلة الأساس إعادة النظر في حاجات الوطن ومواصفات الوطن وتحضيره قبل عملية التوطين.

إن إوطان الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي أوطان غير صالحة بطبيعتها لتوطين العلوم ولا العلماء، وإنما هـي طاردة للعلماء ومعطلة للعقول، تعتبر النور المعرفي عدوها الأول، وتكتفي منه ببعض التظاهرات التي تعتمد الشكل العلمي وتفتقد المضمون المعرفي.

وقد يكون لقضية المبتعثين، أو العقول العلمية المهاجرة، وجه آخر وموقع أساس في عملية التوطين العتيدة، ذلك أن الجسر إلى التوطين يبدأ من إعادة توطين هـؤلاء العلماء وتجسير العلاقة بهم، حتى وهم في غير أوطانهم الأصلية وإنما وهم في أوطانهم المختارة؛ لأنهم يمتلكون مرجعيات كامنة في شخصياتهم لا تحتاج إلا إلى إعادة بعث وتأهيل. [ ص: 20 ] وإذا لم تتغير الذهنية ابتداء، فنتيقن أن المعلومة والمعرفة هـي القوة الحقيقية، أو هـي القوة المرنة في المجالات جميعا، التي يشكل عدم تحصيلها حالة التخلف والارتهان المزمن، وقد لا نستغرب اليوم أنه حتى في المجال الاقتصادي، كيف أصبحت المعرفة والمعلومة هـي الرصيد المادي الذي يرقى باقتصاد البلد، ويمنح القيمة لعملتها، في العالم المعاصر، بدل الذهب والفضة والمعادن الثمينة والقطع الأجنبي.

من هـنا ندرك لماذا بدأ دين الله بالكلمة: «في البدء كانت الكلمة»، وأن الدين الخاتم افتتح خطابه بـ ( اقرأ ) ، وأن الرسول ( الذي جاء معلما ومربيا وهاديا ومبشرا ونذيرا، جاء من داخل الأمة، التي شكلت أنموذج الاقتداء، وأن قصة بدء الوحي تشير بشكل لا يقبل اللبس أن المعرفة والعلم هـي مفتاح هـذا الدين وسبيل الحضارة الإنسانية، وأن امتناع الرسول ( عن الاستجابة السريعة: «ما أنا بقارئ»، ومعاناته، ومعاودة الوحي الطلب مرة ومرتين وثلاث، مع مرافقة الضم بقوة، الأمر الذي يعني الرأفة والرحمة بالمتعلم، إنما هـو لتأكيد أن العلوم والمعرفة هـي الطريق إلى هـداية الناس، وأن الهداية تبدأ بالمعلومة.

فهل نتدبر، ونستشعر المسئولية، ونبصر المطلوب؟

وبعد:

فهذا الكتاب، إضافة إلى الندوات التي بدأت تبصر هـذا الموقع الخطير، يمكن أن نصنفه بأنه يشكل رؤية نضيجة ومنفتحة، مستوعبة لأبعاد القضية [ ص: 21 ] المطروحة؛ رؤية علمية وموضوعية، تجاوزت الواقع المتخلف، وانفلتت منه، واستطاعت أن تتجاوز مرحلة الإحساس الذي لا يولد إلا الحماس والانفعال، والذي لا يلبث أن ينتهي، إلى الارتقاء إلى عتبة الإدراك لأبعاد الموضوع ومناقشته والتدليل عليه بشكل علمي موضوعي هـادئ.

فالكتاب يمكن أن يشكل خطوة على الطريق الصحيح بعد هـذا الضلال الثقافي والتضليل العلمي وتحول جامعاتنا ومعاهدنا لتصبح مقابر أو لتكون محل رجع الصدى، الأمر الذي يكرس العجز والعقم والارتهان لـ (الآخر) .

والكتاب يعتبر محاولة لتخليص جامعاتنا ومعاهدنا من حالة العقم والانفصال عن روح الأمة وثقافتها ومعادلتها الاجتماعية، سواء كانت علمانية تفكر بأوعية (الآخر) ولغته وتحاول تقليده ومحاكاته، تفكر بعقل غيرها، أو كانت شرعية غائبة في الماضي، منفصلة عن واقع الأمة ومشكلاتها، تفكر بمشكلات مضت وانتهى عصرها، وتوفير المناخ المناسب لتوطين العلوم والارتقاء بالجامعات العربية والإسلامية إلى مستوى الشراكة الإنسانية.

ولله الأمر من قبل ومن بعد. [ ص: 22 ]

التالي


الخدمات العلمية