استشراف المستقبل في الحديث النبوي

الدكتور / إلياس بلكا

صفحة جزء
- من غلو بعض المتأخرين في علم الرسول

والعجيب أن بعض أهل العلم -ناهيك عن العوام- أرادوا أن يفتحوا ثغرة في هـذه العقيدة المحكمة فتعلقوا بشبهات ضعيفة فهموها خطأ، وقالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يمت حتى عرف جميع الغيب، فقلبوا الأمر، وجعلوا الاستثناء الذي في سورة الجن هـو الأصل >[1] .وقد حدثت بسبب ذلك خصومة بفاس في القرن الحادي عشر، فألف القاضي عبد الملك التجموعتي رسالة في تقرير هـذا القول الغريب. ثم رد عليه [ ص: 40 ] العلامة أبو الحسن اليوسي ، وأبى ذلك التجموعتي فحرر كتابا آخر في الرد على اليوسي. وخلاصة كلام التجموعتي أن النبي الكريم علم كل شيء بآخر حياته، وأن هـذا لا استحالة فيه، وأن الفرق بين العلم الإلهي والعلم النبوي هـو أن الأول أزلي كامل، والثاني مخلوق حادث >[2] .

وعمدة ما استدل به من الحديث عمومات؛ كقول أبي ذر رضي الله عنه ، الذي تقدم: تركنا رسول الله... إلخ. ( وحديث ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس»؛ ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ) (لقمان:34 ) . " وقول ابن مسعود رضي الله عنه : «أوتي نبيكم مفاتيح كل شيء غير خمس.» " وفي أسانيد هـذين الحديثين بحث >[3] . ولكنني أقول: ليت التجموعتي -ومن تبعه- اكتفى بمنطوق الحديث، وهو صريح في أن نبينـا لا يعرف المفاتح الخمس [ ص: 41 ] ولا ما وراءها من خزائن الغيوب. إذن لهان الأمر، ولكنه خالف ما احتج به. وقد بحثت هـذه القضية في موضع آخر، ولا أحب أن أكرر نفسي في التأليف، فهذا مبدأ ألتزمه >[4] ، غير أنني أنقل هـنا خاتمة ما كتبته هـناك:

«الخلاصة أن للتجموعتي دليلا على أن النبي يعلم كل شيء غير المفاتح الخمسة. وليس له أي دليل، ولا حتى شبهة دليل على دعواه أن النبي علم هـذه الخمس أيضا في آخر حياته. لقد أوصانا نبينا بألا نبالغ في تعظيمه، فقال: ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ) >[5] . فنحن نأخذ بوصيته، فلا نثبت له شيئا هـو أخص بمقام الألوهية وأليق به. فلا أحد يعلم الغيب على وجه الكمال إلا الخالق العظيم سبحانه. هـذا ما يجب اعتقاده، وما سواه زلة عالم لا يتابع عليها. وفي الحديث: ( أخاف على أمتي ثلاثا: زلة العالم، وجدال منافق بالقرآن، والتكذيب بالقدر ) . أما الدخول في أمر التكفير فمما لا ينبغي لأحد أن يفعله >[6] . [ ص: 42 ]

- العلم النبوي في الحديث إن العقيدة المحكمة التي ينبغي التمسك بها هـي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، كما قال تعالى:

( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون ) (النمل:65) ،

قـال الطـبري : أي الغيب الذي قد استـأثر الله بعلمـه وحجبـه عن خلقه >[7] . فقد أمر الله عز وجل نبيه أن يوقفهم على أن الغيب مما انفرد الله بعلمـه، ولذلك سمي: غيبا؛ لغيبه عن المخلوقين >[8] .

" بهذه الآية احتجت أمنا عائشة رضي الله عنها في قولها لمسروق : «ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية:...من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه... ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله... ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد...» ثم قرأت آية النمل " >[9] .

وفي البخاري ( عن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها ، قالت: «جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل حين بني علي، فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف، ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر ، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد؟ فقال: دعي هـذه، وقولي بالذي كنت تقولين ) >[10] . قال [ ص: 43 ] البدر العيني : «أي اتركي هـذا القـول؛ لأن مفاتح الغيب عند الله لا يعلمها إلا هـو. قوله: ( وقولي بالذي كنت تقولين ) ؛ يعني: اشتغلي بالأشعار التي تتعلق بالمغازي والشجاعة ونحوها» >[11] .

التالي السابق


الخدمات العلمية