استشراف المستقبل في الحديث النبوي

الدكتور / إلياس بلكا

صفحة جزء
- التوكل والمستقبل

قد يرى بعض الناس أن الإعداد للمستقبل ينافي مقاما إيمانيا رفيعا هـو التوكل، وأنه لا يجدر بالمؤمن الموقن أن يهتم بشأن الزمان الآتي أو أن يغتم لاحتمالاته. وربما استدلوا لذلك بالحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر في صفة السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم: ( الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون ) >[1] . قالوا: نحن لا ننظر للأسباب الظاهرة ولا نأبه بها، وإنما نترك أنفسنا وأحوالنا لتصاريف ربنا.

- بين التوكل والتواكل

وهذا ما أدى بالأمة إلى أن سيطر عليها العجز والتواكل والاستسلام لغيرها، يقول الشيخ القرضاوي : «خطر هـذه الأفكار أنها شاعت في دنيا المسلمين وأنشأت جوا من السلبية وإغفال سنن الله وإهمال أمر الحياة بين جماهير المسلمين، وباتت هـذه الأدبيات «المخدرة» هـي القوت اليومي لعقول العوام في ديار الإسلام، وكانت من أسباب التخلف الذي جعل المسلمين في مؤخرة الأمم» >[2] . [ ص: 85 ] والحقيقة أن التوكل هـو -بالدرجة الأولى- عبادة قلبية، ولذلك يقول ابن الجوزي : «التوكل اعتماد القلب على الوكيل وحده، وذلك لا يناقض حركة الأبدان في التعلق بالأسباب ولا ادخار المال، فقد قال تعالى:

( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ) (النساء:5) ؛ أي: قواما لأبدانكم» >[3] . فالتوكل كما يقول رشيد رضا : «محله القلب، والعمل بالأسباب محله الأعضاء والجوارح، والإنسان مسوق إليه بمقتضى فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومأمور به في الشرع» >[4] .

- التوكل واتخاذ الأسباب

إن الناس يغلطون في الطرفين: إما يهملون الأسباب ويرون ذلك توكلا، وإما يركنون إليها وحدها وينسون خالقها، لذلك يقول ابن تيمية : «قال بعضهم: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع» >[5] . فالأدب الذي أمر به الشرع هـو اتخاذ الأسباب بحسب أقصى الإمكان، ثـم تفويض النتائـج إلى الله تعالى توكلا عليه لا عـليها، كما بينه الشيخ رضا : «لما كان من المعلوم من الشرع والطبع والعقل بالضرورة أن للإنسان كسبا اختياريا كلفه الله العمل به وأن يؤمن بأنه [ ص: 86 ] يجازى على عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وجب على الإنسان أن يسعى في تدبير أمور نفسه بحسب ما علمه من سنن الله تعالى في نظام الأسباب وارتباطها بالمسببات، معتقدا أن الأسباب ما يعقل منها وما لا يعقل لم تكن أسبابا إلا بتسخير الله تعالى، وأن ما يناله باستعمالها فهو من فضل ربه الذي سخرها وجعلها أسبابا وعلمه ذلك. وأما ما لا يعرف له سبب يطلب به فالمؤمن يتوكل فيه على الله وحـده وإليه يتوجه وإياه يدعو فيما يطلبه منه، وأما ترك الأسباب وتنكب سنن الله تعالى في الخلق وتسمية ذلك توكلا فهو جهل بالله، وجهل بدينه، وجهل بسننه، التي أخبرنا بأنها لا تتبدل ولا تتحول» >[6] .

- البيان النبوي في الموضوع

وربما كان أصرح حـديث يوضح هـذا الأدب ما جـاء ( عـن أنس بن مالك رضي الله عنه حول سـؤال الرجـل الذي جاء على ناقة، قـائلا: يا رسـول الله، أعقـلها وأتوكل؟ أو أطلقها وأتوكل؟ قال: «اعقلها وتوكل ) >[7] . فقد أرشـده النبي الكريـم إلى أن التدبير يسبق التوكل، وأن الاعتمـاد على الله تعـالى لا يتعـارض مع اتخاذ الأسباب والاحتياطات اللازمة. [ ص: 87 ] واستدل المتواكلون بقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : ( لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصا وتروح بطانا ) >[8] . والحق أن الحديث حجـة عليهم؛ لذلك احتـج به الإمام أحمد لما سئل عن الرجل يجلس في المسجد ويقول: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي. فقال: هـذا رجل جهل العلم. فذكر الإمام هـذا الحديث نفسه، وأن الطير تغدو في طلب الرزق >[9] .

وقال صاحب المنار في الخبر: «استدل به على أن التوكل يكون مع السعي؛ لأنه ذكر أن الطير تذهب صباحا في طلب الرزق، وهي خمـاص البطون؛ لفراغـها وترجع ممتلئة البطـون، ولم يقل إنها تمكـث في أعشاشها وأوكارها فيهبـط عليها الرزق من غير أن تسعى إليه» >[10] .

وكأن بعض العلماء أراد التمسك بأن ظاهر الحديث يفيد تخفيف التسبب، فقالوا عن غدو الطير: إنه سعي، ولكنه سعي يسير، والسعي اليسير لا ينافي التوكل. ورد عليهم القرضاوي ردا وجيها، فقال: «والحق أنه السعي الممكن لهذه الطير، فليس عندها سعي أكثر منه، فكل ما تملكه هـو العدو والانتشار. وبعضها يطير مسافات طويلة من أجل رزقه» >[11] .

وعلى مراعاة الأسباب والإعداد لها دلت الأخبار، وهي كثيرة، فمنها: [ ص: 88 ] 1 - ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن أناسا من أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنـزل تعالى:

( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) (البقرة:197) >[12] ؛ وأورد ابن حجر عن المهلب قوله: «في هـذا الحديث من الفقه أن ترك السؤال من التقوى... وفيه أن التوكل لا يكون مع السؤال، وإنما التوكل المحمود أن لا يستعين بأحد في شيء، وقيل: هـو قطع النظر عن الأسباب بعد تهيئة الأسباب، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( اعقلها وتوكل ) >[13] .

2 - روى البخاري ( عن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أرق ذات ليلة، فقال: «ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة؛ إذ سمعنا صوت السلاح، قال: من هـذا؟ قال سعد : يا رسول الله، جئت أحرسك. فنام النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا غطيطه ) >[14] .

قال ابن حجر : «ورد في عدة أخبار أنه صلى الله عليه وسلم حرس في بدر وفي أحد وفي الخندق وفي رجوعه من خيبر وفي وادي القرى وفي عمرة القضية وفي حنين » >[15] .

وهذا مع قوله تعالى: ( والله يعصمك من الناس ) (المائدة:67) .

إن التوكل يكون بعد استيفاء الأسباب الظاهرة لا قبلها، ولنا في [ ص: 89 ] النبي صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة؛ إذ أعد للهجرة إلى المدينة إعدادا محكما، وأخذ بكل سبب ممكن، واحتاط أشد الاحتياط، بل حسب لكل احتمال حسابه. ورغم ذلك استطاع بعض فرسان قريش أن يصلوا إلى الغار، ويقفوا على بابه يتداولون أمرهم، حتى دخل أبا بكر من ذلك جزع عظيم، لكن الرسول الذي اتخذ من الأسباب أقصى ما يمكن كان قد توكل على ربه وفوض الأمر إليه، فهو يقول لصاحبه:

( لا تحزن إن الله معنا ) (التوبة:40) .

فحقيقة التوكل إذن عـدم الركون التام إلى الأسباب الدنيوية، والغفلة عن خالقها ومدبرها، يقول القرضاوي في هـذا المعنى: «إنما تذم الأسباب إذا تعلق القلب بها وحدها، وجعل كل اعتماده عليها، ونسي مسببها وخالقها، وجهل أن الأسباب لا تعمـل وحـدها، فربما أهمـل سببا بعيدا أو خفـيا، أو أغفل شرطا لازما، أو كان هـناك مانع قوي يعوق سببه ويبطل تأثيره» >[16] . [ ص: 90 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية