استشراف المستقبل في الحديث النبوي

الدكتور / إلياس بلكا

صفحة جزء
- من إشكالات أحاديث الفتن

لهذا كانت لأحاديث الفتن والملاحم أهمية خاصة >[1] . فهي تثير في ذهن القارئ المتعجل أسئلة كثيرة، وفي نفسيته مشاعر متضاربة. لعل الشيخ الغزالي -رحمه الله- نموذج لذلك، فلنستمع إليه يقول: كلما قرأت أبواب الفتن في كتب السنة شعرت بانـزعاج وتشاؤم، وأحسست أن الذين أشرفوا على جمع هـذه الأحاديث قد أساءوا من حيث لا يدرون ومن حيث لا يقصدون إلى حاضر الإسلام ومستقبله. لقد صوروا الدين كأنه يقاتل في [ ص: 165 ] معركة انسحاب، يخسر فيها على امتداد الزمن أكثر مما يربح، ودونوا الأحاديث مقطوعة عن ملابساتها القريبة، فظهرت وكأنها تغري المسلمين بالاستسلام للشر والقعود عن الجهاد، واليأس من ترجيح كفة الخير؛ لأن الظلام المقبل قدر لا مهرب منه. وماذا يفعل المسلم المسكين وهو يقرأ حديث أنس بن مالك الذي رواه البخاري ( عن الزبير بن عدي ، قال: شكونا إلى أنس بن مالك ما نلقى من الحجاج ، فقال: «اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم عليه السلام ». ) وظاهر الحديث: أن أمر المسلمين في إدبار، وأن بناء الأمة كلها إلى انهيار على اختلاف الليل والنهار، وهذا يخالف أحاديث كثيرة تحمل مبشرات بظهور الإسلام واتساع دولته وانتشار دعوته. كما يخالف الأحداث التي وقعت في العصر الأموي نفسه؛ كالفتوح العظيمة، وظهور عمر بن عبد العزيز ... ولقد أتى بعد أنس بن مالك عصر الخلفاء والمحدثين الذين أحيوا الثقافة الإسلامية، وخدموا الإسلام أروع وأجل خدمة، فكيف يقال: إن الرسالة الإسلامية الخاتمة كانت تنحدر من سيئ إلى أسوأ؟ والواقع أن أنسا كان يقصد بحديثه منع الخروج المسلح على الدولة بالطريقة التي عاثت في عهده ومن بعده، فمزقت شمل الأمة وألحق بأهل الحق خسائر جسيمة، ولم تنل المبطلين بأذى يذكر، وأنس بن مالك أشرف دينا من أن يمالئ الحجاج.. ولكنه أرحم بالأمة من أن يزج بأتقيائها في مغامرات فردية تأتي عليهم. وتصبير الناس حتى يلقوا ربهم لا يعني أن الظلم سوف يبقى إلى [ ص: 166 ] قيام السـاعة، وأن الاستـكانة الظـالمة سنة ماضية إلى الأبد. والقضية المحدودة التي أفتى فيها أنس لا يجوز أن تتحول إلى مبدأ قانوني يحكم الأجيال كلها >[2] .

إن الشيخ يخشى أن يفهم القارئ غير المتبصر هـذه الأحاديث مقطوعة عن ملابساتها القريبة، فتتسرب إلى نفسه أفكار اليأس من ترجيح كفة الخير. وهذا تخوف مشروع، لكنني لا أتفق معه رحمه الله في كل ما قال، وفيما يلي تفصيل ذلك:

1 - إن أهل الحديث التزموا بتدوين السنة النبوية وفق منهج علمي موضوعي، لا يترك مجالا للانتقاء أو للتقدير الشخصي، وأحاديث الفتن جزء مما وصلهم، فلا يعاب عليهم حفظه وتدوينه.

2 - إن ذكر الملابسات المحتفة بالنص ليس من مسئولية أصحاب المصنفات الحديثية، حسبهم أنهم نقلوا إلينا السنة الشريفة بأمانة، بل هـذه مسئولية الشراح والمعلقين على الحديث.. ( رب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هـو أفقه منه ) >[3] .

3 - إن أهل الحديث أسندوا أيضا أخبارا كثيرة في البشارة بظهور الإسلام، وعلوه فوق الأديان، ووصوله إلى أرجاء المعمور. فالخطأ إذن هـو في [ ص: 167 ] إهمال مجمل السنة، وعدم النظر إليها باعتبارها كلا واحدا يفسر بعضه بعضا. وهذه آفة النظر التجزيئي الاختزالي للنصوص، ما أشد ضرره على الإسلام وأهله؛ قديما وحديثا.

على أنني أوافق الشيخ الغزالي رحمه الله وأسكنه فسيح جناته حول خطورة أخبار الفتن إذا غاب الفقه وحضرت العاطفة.

- خطر إساءة فهم أحاديث الفتن

وهذا الإطلاق في حديث أنس رضي الله عنه استشكل من قديم، وذكرت فيه أجوبة >[4] والحق أن أحاديث الفتن خطرة؛ إذا أسيء فهمها. فقد تؤدي إما إلى الانعزال والتشاؤم أو إلى الفوضى والهرج، لذلك حين قرأ بعض الناس في عصرنا حديث أبي سعيد الخدري رفعه: ( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن ) >[5] . فإنهم تركوا أمصار المسلمين والتحقوا بالفيافي والجبال.

وقبل هـذا اشتـكى الأفغـاني من بعض المسلمين، ومن «فهمهم لبعض الأحـاديث الشريفة الدالـة على فسـاد آخر الزمان أو قرب [ ص: 168 ] انتهائه، فهما يثبط هـممهم عن السعي وراء الإصلاح والنجاح، مما لا عهد للسلف الصالح به» >[6] .

- صحة أصول أخبار الفتن:

لكن هـذا لا يجوز أن يدفعنا إلى إنكار هـذه الأحاديث؛ لأنها من الدين، ومما حدث به الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ، ولها أيضا مقاصدها وغاياتها، كما سيأتي بعد قليل.. ( فعن حذيفة رضي الله عنه ، قال: قام فينا رسـول الله مقاما، ما ترك شيئا يكون في مقـامه ذلك إلى قيـام الساعة إلا حدث به ) >[7] . وليس ذلك على سبيل التفصيل الجزئي الدقيق، فالمقام الواحد لا يتسع لذلك، قال القرطبي : عمومات هـذه الأحاديث يراد بها الخصوص، وإنما مقصود هـذه العمومات الإخبار عن رءوس الفتن والمحن ورؤسائها >[8] .

إن المشكلة ليست في الأحاديث نفسها، بل في فقهها، وفي كيفية تنـزيلها على واقع المسلمين. لذا نحتاج إلى قراءات علمية جديدة لهذه الأخبار.

وأيضا ربما كانت لطريقة وضع وترتيب بعض أئمة السنة لهذه الأخبار أثر في هـذا التعامل السلبي لبعض المسلمين مع بعض أحاديث الفتن. أعني أنه [ ص: 169 ] لو وضع كتاب الفتن مع كتاب آخر نسميه مثلا: «كتاب المبشرات» كان ذلك حسنا. والله تعالى أعلم وأحكم.

إذن الإشكال الأهم هـو في فقه هـذه النصوص. وقد لاحظ الشيخ رضا هـنا أمرا مهما، وهو أن لأحوال الأمم العامة تأثيرا عظيما في فهم أفرادها لنصوص الدين. فهي في حال ارتقائها بالعلم والحكمة، وما يثمران من العزة والقوة، تكون أصح أفهاما وأحسن استفادة وأكثر اعتبارا، وفي حال الضعف والجهل تكون بالضد من ذلك. ثم ضرب لهذا مثلا من النصوص التي تذم حب المال وزينة الدنيا، كيف أنها لم تكن بصادة للأمة في طور حياتها وارتقائها عن الفتح والكسب والإنفاق والبناء في جميع المجالات، وكيف فهم منها الناس آخرا أن الخمول والتواكل والفقر من مقاصد الدين، ثم قال الشيخ: إذا تدبرت هـذا المثال فاجعله مرآة لما ورد في الأحاديث النبوية من أنباء مستقبل الأمة الإسـلامية، فهي أساءت فهم هـذه الأخبار. إذ وطن جماهير المسلمين أنفسهم منذ قرون على الرضا بجميع الفتن والشرور التي أنبأت الأحاديث بوقوعها في المستقبل، فقعدت هـممهم عن وظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدفاع عن الحق.. معتذرين لأنفسهم بأن ذلك قدر، قد ورد بوقوعه الخبر. وتراهم مع هـذا قد تركوا السعي والعمل لما وعدوا به في الآيات والأحاديث من الخير والسيادة، كما كان يسعى ويعمل له سلفهم >[9] . وهي الأخبار المبشرة. [ ص: 170 ]

- أحاديث البشارات:

لهذا على الذي يدرس كتب الفتن أن يراعي وجود مبشرات كثيرة في القرآن والسنة. فتجدد الأمة أصل لذاته، كما روى أبو داود عن أبي هـريرة رضي الله عنه ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) >[10] . وفي الأحاديث أيضا: ( مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره ) >[11] . وفي خبر آخر: ( أمتي أمة مباركة، لا يدرى أولها خير أو آخرها ) >[12] . قال المناوي : ذلك «لتقارب أوصافهم وتشابه أفعالهم؛ كالعلم والجهاد والذب عن بيضة الإسلام وقرب نعوت بعضهم من بعض في ظواهرهم... فيحكم بالخير لأولهم وآخرهم. ولذا قيل: هـم كالحلقة المفرغة، لا يدرى أين طرفاها» >[13] .

أما قول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام : ( بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء ) >[14] .

فقد فسر بأن الغرباء هـم المهاجرون؛ لأنه في رواية أخرى: ( قيل من هـم الغرباء ؟ قال: «النزاع من [ ص: 171 ] القبائل ) >[15] . وإذا قلنـا بالعمـوم، فكما قال عياض : «ظاهر الحديث العموم، وأن الإسـلام بدأ في آحاد من الناس وقلة ثم انتشر وظهر، ثم سيلحقه النقص والاختلاف حتى لا يبقى -أيضا- إلا في آحاد وقلة، غريبا كما بدأ» >[16] .

فهذا يكون في آخـر الزمـان، وهو من أشراط السـاعة، لهذا أورد الإمـام مسـلم بعد هـذا الحديث: باب: ذهاب الإيمان آخر الزمان، وفيه ( حـديث أنس: «لا تقـوم السـاعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله ) >[17] .

لكن كما قد ينحرف بعض الناس بأخبار الفتن إلى البحث عن مسوغات للقعود والاستسلام والتشاؤم، كذلك يمكن لآخرين أن يأخذوا هـذه البشارات مأخذ التواكل والانتظار السلبي، مثل ما جاء في المهدي عليه السلام . فهذا أيضا كما قال صاحب المنار: من أسباب تقاعد المسلمين عما أوجبه الله تعالى في كل وقت من إعلاء دينه وتعزيز سلطته؛ اتكالا على أمور غيبية مستقبلة لا تسقط عنهم فرائض الحاضر >[18] . [ ص: 172 ]

- الاستغلال السياسي لأخبار الفتن: نموذج المهدوية:

لقد قامت عقيدة الغيب في الإسـلام، التي بمقتضاها لا يعلم المستقبل حق العلم إلا الله تعالى، حـتى النبي الكريم وآله وصحـابته، كما تقدم في الفصل الأول قامت بتحصين الأمة الإسلامية من جميع الطرق والأسـاليب التي تدعي الاتصال بالمستـقبل بغـير إخبار قـرآني أو نبوي صحيح، وبغـير منهاج علمي موضوعي. لكن بعض المسلمين فتحوا ثغرة في هـذا البناء العقدي المحكم، وذلك بترويجهم لفكرة المهدي، وكان ذلك طريق الكثيرين للوصول إلى السلطة والحكم، والثورة على الحكام القائمين.

- ملخص الفكرة:

المهدي -في الصيغة الأكثر انتشارا- هـو رجل يسمى محمد بن عبد الله، من ولد فاطمة بنت نبينا صلى الله عليه وسلم ، يظهر في آخر الزمان حين تكون الساعة وشيكة الحلول، فتظهر بعض أماراتها الكبيرة. ثم يحكم هـذا الرجل مدة سبع سنين، تكون أمنا وسلاما حيث يعم الخير، ويسود العدل، ويهيمن الإسلام على العالم. وفي عهده ينـزل عيسى عليه السلام إلى الأرض، ويعينه في هـذه المهمة >[19] . [ ص: 173 ] والذين رسموا هـذه الصورة، قالوا: إن هـذا ما يتحصل من أحاديث مختلفة عن النبـي صلى الله عليه وسلم في هـذا الموضـوع، أهمها في سنن الترمذي وأبي داود وابن ماجة.

- اختلاف العلماء في أحاديث المهدي:

قال السيوطي : «الأحاديث في المهدي مختلفة، وكذلك العلماء؛ ففي بعضها: (لا مهدي إلا عيسى بن مريم) . وأكثر الأحاديث على أنه غيره، وأنه من أهل البيت. ثم في بعضها أنه من ولد فاطمة ، وفي بعضها أنه من ولد العباس » >[20] .

وآراء العلماء في هـذه الأحاديث ثلاثة:

الأول: تصحيح بعضها، وأن قصة المهدي حقيقية، وأنها ستقع كما أخبرت بذلك الأحاديث. وهذا رأي الكثيرين، خصوصا من علماء الحديث.

وقد لخص السيوطي الأحاديث والآثار عن الصحابة والتابعين التي جمعها الحافظ أبو نعيم الأصبهاني ، وأضاف إليها ما في كتاب الفتن للحافظ نعيم بن حماد شيخ البخاري، ثم زاد على ذلك ما تحصل عنده عن غيرهما، وجمع ذلك في رسالته: «العرف الوردي في أخبار المهدي» >[21] .

الثاني: تضعيف جميع أخبار المهدي. وهذا صنيع ابن خلدون في المقدمة، فقد جمع الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المهدي، وأوردها [ ص: 174 ] بأسانيدها، ثم بين موضع الضعف من كل سند، وبالاعتماد على أقوال أئمة الجرح والتعديل. وانتهى إلى الحكم على أحاديث المهدي جميعها بالضعف، بما في ذلك الحديث الذي يستـدل به من يرد قصة المهدي، أعني حديث: ( لا مهدي إلا عيسى بن مريـم. ) فلا يصح في هـذا الباب شيء، لا بالنفي ولا بالإثبات >[22] .

الثالث: أحاديث المهدي موضـوعة مكذوبة. وهذا رأي جماعة منهم ابن عاشور >[23] ، والشيخ عبد الله آل محمود الذي كتب رسالة طويلة في رد قصة المهدي، وتكلم في طرقها على نحو ما فعل ابن خلدون، وسماها: «لا مهدي ينتظر بعد بعث الرسول محمد خير البشر» >[24] .

- وسواس المهدوية في تاريخ الإسلام:

اقتبست هـذا التعبير من المرحوم المختار السوسي من زعماء الإصلاح بالمغرب الأقصى الحديث، حيث ذكره في موسوعته: «المعسول»، ويعني به: كثرة من كان بالمغرب الإسلامي من مدعي المهدوية، وهم طلاب سلطة ودنيا لا غير، لكنهم أفسدوا البلاد والعباد بهذه الدعوى. ولعل ابن خلدون أهم [ ص: 175 ] المؤرخين الذين وعوا خطورة فكرة المهدي المنتظر وخطرها على الأمة. فهو مؤرخ لاحظ بالاستقراء والتتبع أثرها الهدام على أوضاع الشعوب والدول في تاريخنا الإسلامي؛ لذلك اعتنى في مقدمته بنقض أخبار المهدي كافة.

- القول الوسط:

ذلك كان اجتهاد ابن خلدون في موضوع المهدي، وهو رأي جماعة من العلماء >[25] . لكن القول بتصحيح أخبار المهدي هـو قول الأكثر، ولعلك إذا درست هـذه الأخبار لاحظت أن بعض أسانيدها مقبول، وأن مخارجها مختلفة، وطرقها متنوعة، وكل ذلك علامة الصحة.

لكن علماءنا اعتبروا مع ذلك أن الاعتقـاد في المهدي أمر ثانوي ليس له كبير شـأن ضمن العقائد الإسلامية، فليس هـو من عقائد الدين الكبرى، ولا مما يجب أن يعـلم من الدين بالضـرورة، ولا أهمية له بالنسبة إلى حاضر الإسلام ولا إلى مستقبله القريب والمتوسط. وهذه اعتبارات العلماء في هـذا الموقف:

1 - إن المهدي لم يرد له ذكر في القرآن الكريم الذي قص علينا كل شيء >[26] ، حتى أخبرنا عن نملة سليمان عليه السلام ، وما وقع للهدهد [ ص: 176 ] معه، فلو كانت عقيدة المهدي مركزية في الدين لذكرها الكتاب الكريم، كيف وقد قال اللطيف الخبير: ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) (النحل:89) ،

وقال: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (المائدة:3) .

2 - ليس في أصح كتب الحديث ذكر للمهدي >[27] ، وأعني جوامع: البخاري ومسلم، ثم مالك والنسائي. ولو كان الاعتقاد في المهدي دينا واجبا، أو ركنا في العقيدة لأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وألح، ولكثرت الرواة عنه، ولتواتر، أو على الأقل لاشتهر. وإنما هـي الآن أحاديث معدودات، ليس عن الطبقة الأولى من الرواة، اختلف فيها الناس ومازال الاختلاف قائما.

ومن جهة أخرى، من المعلوم أنه يوجد خلاف بين علمائنا حول جواز استنباط العقائد من أخبار الآحاد.

3 - ويتحصل من الكتب الأخرى -التي أشارت إليه- أن المهدي رجل من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، يكون في آخر الزمان، حيث تحدث الملاحم وتتتابع أشراط الساعة، ولذلك سيعاصر المهدي الدجال وعيسى بن مريم، وتكون إمرته على الأمة حوالي سبع سنين.

فليس المهدي نبيا، ولن يأتي بوحي جديد، ولن يغير من شريعة الإسلام شيئا، فلا يزيد فيها ولا ينقص، إنما هـو رجل متبع للكتاب والسنة، اللذان هـما بين أيدينا الآن. [ ص: 177 ] فالمهدي -إذن- أشبه بزعيم أو مصلح ديني عادي، ولو أردت أن أضرب لك مثلا يشبهه في تاريخ الإسلام لقلت لك إنه عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عن الجميع.

- بدعة انتظار المهدي:

وعليه فإن انتظار المهدي، وبناء الآمال العظام على بروزه، وصرف الأزمان في الكسل والسلبية بدعوى انتظاره كل هـذا بدعة في الدين وتحريف لروحه، وشيء لا يجوز.

لقد جاء في رواية أبي داود وابن حبان أن المهدي يمكث في المسلمين سبع سنين، ألحكم رجل سبع سنوات تتوقف حياة الأمة ويعلق مصيرها وتركد حركتها ويتوقف جهادها سبعين قرنا؟

- وظيفة أحاديث المستقبل:

وهي -بالأساس- وظيفة الإنذار والتحذير، فأحاديث الفتن وأشراط الساعة وإن كان ظاهرها الإخبار عن المستقبلات -ولذلك فهي تؤدي وظيفة عقدية؛ أعني أنها من مكملات الاعتقاد- إلا أنها ترمي أيضا إلى تحقيق حكمة آنية؛ هـي تحذير المسلمين من أسباب الفساد ومن عوامل الانحلال، التي إذا دبت إلى الأمم نخرتها وقوضتها، فهي نذر. وهذه تقريبا نفسها وظيفة القصص القرآني والنبوي عن الماضي وأحداثه. يقول رشيد رضا : «إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يخبر أمته بما سيقع فيها من التفرق والشيع، وركوب سنن أهل الكتاب في الأحداث والبدع، وبغير ذلك من [ ص: 178 ] أخبار الفتن، الخاصة بهم والمشتركة بينهم وبين الأمم، إلا لأجل أن يكونوا على بصيرة في مقاومة ضرها واتقاء تفاقم شرها، لا لأجل أن يتعمدوا إثارة تلك الفتن والاصطلاء بنارها، والاقتراف لأوزارها» >[28] .

ويبدو لي أيضا أن من مقاصد أحاديث الفتن: منع اغترار الأمة بكونها خير أمة أخرجت للناس، والتحذير من الركون السلـبي إلى ما وعدها الله به من الانتشـار والعز، حـتى تبقى دائما -في كل عصر وجيل- على حذر من نفسها ومن تقلبات الزمن؛ وإن بني إسرائيل مثال لمآل الأمم المغرورة بنفسها.

وربما أراد النبي الأكرم -بإخباره بهذه الأحاديث- أن ينبهنا على أمر أوتيت منه الأمة كثيرا، ولا تزال؛ وهو: الخلاف الداخلي، وذاك معنى الفتنة في الأكثر. فكأن هـذا تحذير لعلماء الأمة ومفكريها وقادتها من هـذه الثغرة الخطرة، ولذلك يجب أن تنصب جهود الجميع في البحث عن أفضل الصيغ لإدارة الصراع الداخلي. وقد قيل: إن أضعف شيء في الحضارة الإسلامية هـو أنها لم تضع حلولا كافية للاختلاف السياسي.

أما البشارات، فمن وظائفها إعطاء الأمل للأمة في فترات ضعفها وتقهقرها؛ لكي لا تنهزم نفسيا. [ ص: 179 ]

- من قواعد فقه أحاديث الفتن:

أذكر بعضها؛ علما مني أن الموضوع بحاجة لدراسة مستقلة:

1 - التثبت من صحة الحديث: إذ من المعروف -كما اشتهر عن الإمام أحمد - أن ثلاثة كتب لا أصل لها، منها الملاحم. ولذلك اعتبر ابن القيم من مظان الوضع أحاديث التواريخ المستقبلة، خاصة إذا كانت محددة >[29] . وأضرب لهذا مثالا من أشهر الكتب المستقلة في الفتن وأهمها، وهو: «الفـتن» لنعيم بن حماد، من شيوخ البخاري، لكنه روى عنه مقرونا بغيره. قال فيه صالح بن محمد الأسدي : «كان نعيم يحدث من حفظه، وعنده مناكير كثيرة لا يتابع عليها. وقال: سمعت يحيى بن معين سئل عنه، فقال: ليس في الحديث بشيء، ولكنه صاحب سنة». وقال النسائي : قد كثر تفرده عن الأئمة المعروفين بأحاديث كثيرة، فصار في حد من لا يحتج به. وقال مسلمة بن القاسم : كان صدوقا، وهو كثير الخطأ، وله أحاديث منكرة في الملاحم انفرد بها. الخلاصة إذن هـي كما قال الدارقطني : إمام في السنة، كثير الوهم >[30] .

فالواجب هـو التأكد من صحـة هـذه الأحاديث، فإذا ثبتت لا ترد، فلا يليق بالعالم مثلا إنكار أخبار المهدي ونـزول عيسى وظهور الدجال ونحوها؛ لأن أصلها صحيح.

2 - أرى أن تعتبر أحاديث المستقبلات من باب الفقه والأحكام، لا من باب الرقائق والمواعظ، وبين البابين فروق لا تخفى >[31] . لذا لا يجوز في رأيي [ ص: 180 ] لغير المجتهد أن يحكم بها ويفسرها، وما يذكر في الفتوى من شروط وآداب يسري على هـذا الجانب أيضا من النصوص الشرعية؛ إذ القول في أحاديث الفتن تتعلق به أحيانا دمـاء وحقوق، بل قد يتعلق به مستقبل أمة. وهذا لا ينفي الجانب الوعظي لهذه الأخبار، لكنه ليس وحده.

3 - من القواعد عدم تيئيس الناس بأحاديث الفتن، والأصل العام للشريعة هـو التبشير وفتح باب الأمل. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا قال الرجل: هـلك الناس. فهو أهلكهم ) >[32] . قال ابن القيم : وفي معناه: فسد الناس، وفسد الزمان، ونحوه >[33] . وقال القرطبي : «إن الذي يسمعه قد ييأس من رحمة الله فيهلك، وقد يغلب على القائل رأي الخوارج فيهلك الناس بالخروج عليهم» >[34] .

4 - من القواعد: الحكمة في التحدث بأخبار الملاحم والفتن. وأذكر مثالا لذلك أن أحد وزراء اليمين بإيطاليا أشار -في سنة 2004م- إلى أن بعض المسلمين ببلاده يتداولون حديث فتح رومية >[35] . فهذا يخوف أهل البلد [ ص: 181 ] من المسلمين المستقرين بينهم، ولذلك آثار وتبعات سياسية واجتماعية ونفسية معروفة، نحن اليوم في غنى عنها. وفي زيارة لي لإيطاليا نصحت بعض الشباب المسلم الذين سألوني عن الحديث بمراعاة الحكمة، وأنه من الأولى أن ينصرفوا إلى حفظ الوجود الإسلامي بأوربا من الذوبان، وهو الخطر الفعلي حاليا، وهو واجب الوقت. ثم قلت لهم: إن الفتح المذكور من أشراط الساعة، كما في الحديث، ولعله يكون باقتناع أهل البلد أنفسهم بهذا الدين واختيارهم الحر له.

5 - تجنب تنـزيل هـذه الأحاديث على وقائع جزئية، خصوصا إذا كانت من الحاضر أو الماضي القريب.

6 - وهاهنا تنبيه أخير، وهو أن الكلام في الفتن والملاحم -خصوصا من جهة تطبيق ما ورد فيهما على الحوادث الأرضية- ينبني على تحديد عمر الدنيا ومدة بقائها، ولو على وجه التقريب. وهذا لا سبيل إليه؛ لتعلقه بعلم الساعة، وكون النبي عليه السلام بعث بقرب الساعة، قال العلماء: هـو قرب نسبي؛ أي أن الذي بقي من الدنيا قليل بالنسبة إلى ما مضى منها، وإن كان الذي بقي في نفسه كثير. ولم يصح في عمر الدنيا حديث صحيح صريح. لذلك كثير ممن رام توقع بعض الحوادث -من خلال ظواهر بعض النصوص- أخطأ >[36] . [ ص: 182 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية