استشراف المستقبل في الحديث النبوي

الدكتور / إلياس بلكا

صفحة جزء
ختم ما لا يختم

المستقبلية قيمة نبوية وحضارية كبرى

كيف أختم هـذا الموضوع الواسع والشائق، والرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام يفيض بالحكمة، وهو المؤيد بالوحي الرباني، فكيف للبشر أن يحيط بحكم الله في كتابه وسنة نبيه، لقد كشف هـذا البحث عن نتائج مهمة في الإرشاد النبوي إلى منهج التعاطي مع قضية المستقبل باعتباره حقلا خصبا للفعل البشري. إن الرسـول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنه لا يعـلم الغيب، إلا ما أطلعه الله على بعضه مما يتعلق بالرسالة، ولذلك فإنه عليه السلام كان يسلك المسلك البشري في توقع المستقبل والإعداد له. لأجل هـذا نبهنا عليه السلام إلى نظام السننية في الوجود، وإمكان استشراف المستقبل بناء على إدراك هـذا النظام، وأنه لا بد من مراعاة مآلات الأمور. وميز النبي الكريم بين طرق التنبؤ الخاطئة وعلوم التوقع الصحيحة، وهو تمييز عظيم الشأن لا يقدره قدره إلا أهل الاختصاص. ولم يكتف بهذا، بل أعد المسلم إعدادا نفسيا للتعامل مع المستقبل، فمنع التطير والـ «لو».

وقدم عليه السلام أمثلة حية للتخطيط المستقبلي، كما في تشريع الادخار والعزل والحجر الصحي والإحصاء السكاني. وعلمنا نبينا أيضا أدب التعاطي مع المستقبل من الاستثناء والاستخارة، ونحو ذلك.

ويمكنني القول: إن السنة الشريفة أصلت للمستقبلية تأصيلا تاما، ورفعتها إلى درجة قيمة حضارية كبرى، وأدمجتها في حياة الفرد والأمة والدولة. لكن [ ص: 183 ] هـذه السنة غنية جدا، وفي موضوع المستقبل بالذات، لهذا لا بد من مواصلة الجهود في استنباط القيم الحضارية المتعلقة بالمستقبل في الحديث. وهذا يمكن أن يتم عبر مستويين؛ الأول: من أقوال النبي العظيم، ودرر كلامه. والثاني: من سيرته بدءا من نشر الدعوة بمكة ثم حياته بالمدينة باعتباره إماما وقائدا حربيا. وانتهاء بعلاقاته «الدولية» مع الأمم القريبة من الجزيرة.

وفي اعتقادي أن من أهم القضايا المستعجلة، التي يجب بحثها وضبطها الآن: الإخبارات النبوية عن المستقبل، فكثير من الناس يسيئون فهمها وتوظيفها، يكفي أن أذكر من تجربتنا التاريخية مثال استغلال أحاديث المهدي. وقد حاولت وضع بعض القواعد بالفصل الأخير، إلا أن الموضوع بحاجة لدراسات أوسع يمكن عنونتها بـ «فقه الفتن». ويمكن أيضا البحث من جديد في أحاديث العدوى في ضوء كشوفات الطب والإحياء من جهة والخطر المتجدد لأوبئة عالمية من جهة أخرى.

وما أتمناه على ربي هـو أن يسهل لي شرح أحد دواوين الحديث شرحا يجمع بين القديم والجديد، يستفيد من تراثنا وفي الوقت نفسه يخاطب عصرنا، وأركز فيه على إبراز القيم الحضارية اللازمة للأمة، وأسميه: «الفتح الحديث بشرح الحديث»، تيمنا بفتح ابن حجر ، إن صاحب هـذه السطور كتب في علوم مختلفة وله اهتمامات متنوعة، ولكنه يسأل ربه أن يحشره مع أهل الحديث، ليس لأنه منهم، هـيهات ذلك، ولكن كما قال القائل: أحب القوم ولست منهم. آمين، والحمد لله رب العالمين. [ ص: 184 ]

السابق


الخدمات العلمية