فقه التوسط (مقاربة لتقعيد وضبط الوسطية)

الدكتور / نوار بن الشلي

صفحة جزء
إذا تعذر السداد وجبت المقاربة قدر الإمكان

الأصـل في هذه القاعـدة حديث أبي هريـرة ، رضي الله عنه ، ( عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ) >[1] .

فقوله عليه الصلاة والسلام : ( فسددوا وقاربوا ) معناه كما ذكر ذلك ابن أبي جمرة ، رحمه الله: احتمل أن يكون هذان اللفظان لمعنى واحد، واحتمل أن يكونا لمعنيين، فإن كانا لمعنى واحد فيكون المراد بهما الآخذ بالحال الوسط؛ لأن السداد والتقريب هو ما قارب الأعلى ولم يكن بالدون فهو متوسط بينهما، وإن كانا لمعنيين: فيكون المراد بسددوا الآخذ بالحال الوسط -على ما تقدم- والحال الوسط: هو ما نص النبي صلى الله عليه وسلم عليه في حديث عبد الله بن عمرو حين ( قال له النبي صلى الله عليه وسلم :

وإن لنفسك حقا، ولأهلك حقا، فصم وأفطر، وقم ونم -ثم عمم له بعد ذلك فقال- وأعـط كل ذي حق حقه )
>[2] ، فهذا هو السـداد، وهو أن يمشـي المرء في الأمـور كلها على ما فرض وندب، من غير [ ص: 60 ]

تفان ولا تقصـير من جهة من الجهات، ويكون المراد بقـاربوا: أي من لم يبلغ منكم إلى حد السـداد -الذي هو ما ذكرنا- ويعجز عن ذلك لعذر به فليقارب منه، لأن ما قرب من الشيء أعطي حكمه» >[3] .

وبمعناه أيضـا ورد قـوله صلى الله عليه وسلم : ( لن ينجي أحدا منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا ) >[4] . فأكد لهم الأمر بملازمة السـداد والتقريب، وأرشدهم إلى ما يعين على ذلك من اغتنام أوقات النشاط والراحة وفراغ البال، مع القصد والاقتصاد في ذلك كله.

وهذه القاعـدة من محددات ملامح الوسـطية إذ بمقتضاها يترك التنطـع الذي نراه عند بعض المسـلمين فيما ينحون به من اللائمة على غيرهم في التقصـير الحاصل، كما أنها تضـبط حركة التقصـير هذا كي لا يتحول إلى تفريط تضـيع فيه المعـالم والحدود بجعل المقـاربة حينئذ أمرا لازما قدر الإمكان. [ ص: 61 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية