فقه التوسط (مقاربة لتقعيد وضبط الوسطية)

الدكتور / نوار بن الشلي

صفحة جزء
المتعذر يسقط اعتباره والممكن يستصحب فيه التكليف

هذه القـاعدة بمعنى قول الفقـهاء: «الميسور لا يسقط بالمعسور» ، ومعناها: أن المكلف إذا أمر بفعل شـيء فقدر على فعل بعضه دون بعض فإن عليه الإتـيان بما قدر عليه، ولا يسـقط بالمعجـوز عنه؛ لأن ما أمكن فعله لا يترك. فالقـاعدة كما ترى هي: تعبير عن المنهج الوسـط وتقرير الاعتـدال بين التكـليف الذي تهدر فيه المشـقة، والتكـليف الذي لا تهدر فيه، فلا ينبغي إهمال ما أمكن الإتيان به من التكاليف بحجة الإتيان بالجميع أو ترك الكل.

وقد قرر هذا المعنى القرافي ، رحمه الله، فقال: «والقاعدة: أن المتعذر يسـقط اعتباره، والممكن يستصحب فيه التكليف» >[1] . وقد ألمح إلى أهمية هذا الاعتدال الذي يجب أن يسـتقر في نفس المسلم، الإمام الجويني ، رحمه الله، فذكر أن هذه القاعدة من الأصـول الشـائعة التي لا تكاد تنسى ما أقيمت أصول الشريعة >[2] . [ ص: 64 ] وقد أشار إلى هذه القاعدة الإمام ابن تيمية ، رحمه الله، حين قال: «فإن أصول الشريعة تفرق في جميع مواردها بين القادر والعاجز، والمفرط والمعتدي، ومن ليس بمفرط ولا معتد، والتفريق بينهما أصل عظيم معتمد، وهو الوسـط الذي عليه الأمة الوسـط، وبه يظـهر العدل بين القـولين المتباينين» >[3] .

والأصـل في هذه القاعدة، ( قوله صلى الله عليه وسلم : فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) >[4] ، فقد دل هذا الحـديث على أن المكلف إذا أمر بشـيء فإنما عليه أن يفعل منه ما قـدر عليه، وما عجز عنه فهو سـاقط عنه، وهذا الحديث تفسير وتفصيل لقوله تعالى: ( فاتقوا الله ما استطعتم ) (التغابن: 16) .

ومن أمثلة هذه القاعدة: أن من أراد أن يحرم في الصلاة ولم يستطع أن يرفع يديه رفعا كاملا فعليه أن يرفعهما بالقدر الذي يستطيعه، وليس عليه ترك الرفع بالمرة ما دام قادرا على بعضه، لأن المقدور عليه لا يسقط بالمعجوز عنه. وفي عصرنا هذا الذي غيبت فيه الشريعة عن أن تهدي الحياة في كثير من مجالاتها كالاقتصاد والعقوبات مثلا، فإن المقدور عليه (كتشريعات قانون الأسرة) مثلا، لا يسقط بالمعسور من ذلك. [ ص: 65 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية