فقه التوسط (مقاربة لتقعيد وضبط الوسطية)

الدكتور / نوار بن الشلي

صفحة جزء
اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا

هذه القاعدة مهمة جدا في حياة الإنسان المسلم وفي التوسط بين الميل بإطلاق إلى الدنيا وما فيها من الطيبات والشهوات، وبين الميل إلى الآخرة بإطلاق وترك الدنيا بالزهد فيها.

والأصل فيها حديث مشهور على الألسنة وهو لا يصح مرفوعا، وأصح منه ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما ، ( قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) >[1] ، " وكان ابن عمر رضي الله عنهما ، يقول: إذا أمسـيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء؛ وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك " >[2] .

غير أن الناظر في النصوص -وفي شروحها- يلمح الدعوة إلى الزهد في الدنيا أحيانا كما يلمح الدعوة إلى الأخذ منها والتمتع بطيباتها أحيانا أخرى، بحيث لو وقف المرء على إحداهما دون الأخرى مجتزءا بما وقف عليه لكان له على ذلك دليل، وهو ما يستدعي أن نبين حقيقة هاتين النظرتين ثم وجه الفهم الصحيح لهما بما يحقق الموازنة المقررة في هاته القاعدة، فنقول:

وصف الله سبحانه الدنيا بوصفين:

وصف يقتضي ذمها وعدم الالتفات إليها وترك اعتبارها. [ ص: 145 ] ووصف يقتضي مدحها والالتفات إليها وأخذ ما فيها بيد القبول؛ لأنه شيء عظيم مهدى من ملك عظيم.

فمن الوصف الأول:

قوله تعالى: ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم ) (الحديد: 20) ،

فأخبر أنها مثل اللعب واللهو الذي لا يوجد في شيء ولا نفع فيه إلا مجرد الحركات والسكنات التي لا طائل تحتها ولا فائدة وراءها.

وقال تعالى: ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) (آل عمران: 185) ،

فحصر فائدتها في الغرور المذموم عاقبته. وقـوله تعـالى: ( وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ) (العنكبوت: 64) ،

إلى غير ذلك من الآيات. وكذلك الأحاديث في هذا المعنى ( كقوله صلى الله عليه وسلم : لو كانت الدنيا تعـدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء ) >[3] ، وهي كثيرة جدا. وعلى هذا المنوال نسـج الزهاد ما نقل عنهم من ذم الدنيا وأنها لا شيء >[4] .

ومن الوصف الثاني:

أن الله تعالى جعلها طريقا للدلالة على وجود الصانع ووحدانيته وصفاته العلى، فقال تعالى: ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها [ ص: 146 ] وزيناها وما لها من فروج ) ... ... ( كذلك الخروج ) (ق:6-11) ،

وقال تعالى: ( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله ) (المؤمنون: 84-85) .

كما امتن الله بها على عباده، وتعرف إليهم بها في أثناء ذلك، واعتبرها ودعا إليها بنصبها لهم وبثها فيهم،

كقوله تعالى: ( الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) ... . ( وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها ) (إبراهيم: 32-34) ،

وقوله: ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) ... ( والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ) (النحل: 5-8)

فامتن تعالى ههنا وعرف بنعم من جملتها الجمال والزينة، وهو الذي ذم به الدنيا في قوله: ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة ) (الحديد: 20) ،

إلى غير ذلك، بل حين عرف بنعيم الآخرة امتن بأمثاله في الدنيا، كقوله: ( في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود ) (الواقعة: 28-30) .

فإذا تأملت في الوصف الأول وما ذكر فيه وجدته مضادا للوصف الثاني وما جاء تحته، وإذا كانت الشريعة مبرأة عن التضاد ومنـزهة عن الاختلاف، لزم من ذلك أن توارد الوصفين على جهتين مختلفتين أو على حالين متنافيتين، وبيان ذلك: [ ص: 147 ] أن من نظر إلى الدنيا مجردة من الحكمة التي وضعت لها، فرآها مجرد عيش واقتناص للذات، وتمتع بالشهوات، -كما تفعل البهائم- فمن هذه الناحـية لا تعدو أن تكون قشرا بلا لب، ولعبا بلا جد، وباطلا بلا حق؛ لأن صاحب هذا النظر لم ينل منها إلا مأكولا ومشروبا وملبوسا ومنكوحا ومركوبا، من غير زائد ثم يزول عن قريب، فلا يبقى منه شيء.

ومن هذه الناحية فالدنيا كأضغاث الأحلام، فكل ما وصفته الشريعة فيها على هذا الوجه حق، وهو نظر الكفار الذين لم يبصروا منها إلا ما قال تعالى من أنها لهو ولعب وزينة وغير ذلك مما وصفها به، ولذلك صارت أعمالهم ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ) (النور: 39) ،

وفي الآية الأخرى: ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) (الفرقان: 23) .

وأما من نظر إلى الدنيا غير مجردة من الحكمة التي وضعت لها، وجد كل نعمة فيها يجب شكرها، فانتدب إلى ذلك على حسب قدرته وتهيئته، صار ذلك القشر محشوا لبا، بل صار القشر نفسه لبا؛ لأن الجميع نعم طالبة للعبد أن ينالها فيشكر لله بها وعليها.

ومن هنا أخبر تعالى عن الدنيا بأنها جد وأنها حق،

كقوله تعالى: ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ) (المؤمنون: 115) ،

وقوله: ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ) (الأنبياء: 16) . [ ص: 148 ]

- مدح الدنيا بإطلاق لا يستقيم وذمها بإطلاق لا يستقيم:

فالدنيا من جهة النظر الأول مذمومة، وليست بمذمومة من جهة النظر الثاني، بل هي محمودة. فذمها بإطلاق لا يسـتقيم، كما أن مدحها بإطلاق لا يستقيم. والأخذ لها من الجهة الأولى مذموم، يسـمى أخذه رغبة في الدنيا وحبا في العاجلة، وضـده هو الزهد فيها، وهو تركها من تلك الجهة، ولا شك أن تركها من تلك الجهة مطلوب. والأخذ لها من الجهة الثانية غير مذموم، ولا يسمى أخذه رغبة فيها، ولا الزهد فيها من هذه الجهة محمود، بل يسمى سفها وكسلا وتبذيرا. ومن هنا وجب الحجر على صاحب هذه الحالة شرعا، ولأجله كان الصحابة طالبين لها، مشتغلين بها، عاملين فيها؛ لأنها من هذه الجهة عون على شكر الله عليها، وعلى اتخاذها مركبا للآخرة، وهم كانوا أزهد الناس فيها، وأورع الناس في كسبها.

هذا هو الضابط والميزان في فهم حقيقة طلب الدنيا، وحقيقة الزهد فيها، وهو المحكم في مدحها أو ذمها.

وبهذا الميزان أيضا يقع الفصل بين المختلفين في مسألة المفاضلة بين الفقر والغنى، وأن ليس الفقر أفضل من الغنى بإطلاق، ولا الغنى أفضل بإطـلاق، بل الأمـر في ذلك يتفصـل، فإن الغنى إذا أمال إلى إيثار العاجلة كان بالنسـبة إلى صـاحبه مذموما، وكان الفقر أفضـل منه. وإن أمال إلى إيثار الآجلة فإنفاقه في وجهه والاستعانة به على التزود للمعاد فهو أفضـل من الفقر؛ والله الموفق بفضله. [ ص: 149 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية