نحو فقه للاستغراب

الدكتور / محمد البنعيادي

صفحة جزء
الفصل التاسع

المغرب الأقصى

الحفاظ على الأصالة والندية أخر الانبهار بالغرب

- وعي مبكر مزدوج بالخطر الغربي والضعف الذاتي

كما أن الأبدان لا ترد الفعل على الإصابات المرضية ولا تستجيب للدواء بطريقة واحدة، فإن اكتساح الفرنسيين للجزائر دفع المغرب الأقصى، سلطة وساسة وفقهاء، إلى التساؤل عن المصير المتوقع.. وبعد قصائد الرثاء والتحسر والتباكي على الأندلس الثانية - الجزائر المحتلة- بدأت إصلاحات سياسية وإدارية وعسكرية محتشمة أو مترددة، لكنها تؤكد انبثاق وعي أكبر بالخطر الداهم وبضعف القدرة على الرد. فمن مشروع دستور إلى إصلاح التعليم والإدارة إلى ترجمة بعض الكتب العلمية، إلى إدخال الطباعة، إلى إرسال بعثات لأروبا ومصر، حاول سلطان المغرب الأقصى دخول العصر وتلافي بعض الضعف الذي انتابه >[1] .

وترجع بدايات النظر إلى أوروبا إلى نهاية القرن السابع عشر عبر تقارير كتبها سفراء >[2] أوفدهم السلطان مولاي إسماعيل إلى إسبانيا وفرنسا وإنجلترا.. ويعتبر حكم هذا السلطان المديد (1672/1727م) تجربة تتمتع

[ ص: 212 ] ببعض الخصوصية في التاريخ المغربي. إذ حاول أن يوطد حكما راسخا وأن يقيم علاقات متكافئة مع أوروبا، لكن هذه العلاقات التي حتمها الجوار بقيت محكومة بمشاكل القرصنة والرهائن. لقد أوفد مولاي إسماعيل عددا من السفراء: الوزير الغساني (إسبانيا1690م) وكان لتقريره تأثـير خاص لما احتواه من تفاصيل، ولأنه شكل الأساس الذي سيبني عليه السفراء من بعده في مراحل لاحقة تقاريرهم وتصوراتهم. كما أوفد عبد الله بن عائشة إلى فرنسـا لمقابلة - لويس الرابع عشـر - عام 1699م، وأرسل الحاج عبد القادر إلى إنجلترا عام 1721م. وكان لدى مولاي إسماعيل بعض المستشارين مثل الطيب سيدي محمد الأندلسي المختص بأحوال فرنسا. إضافة إلى ذلك استخدم مولاي إسماعيل عددا من الخبراء الأوروبيين في ميدان التدريب العسكري ومجال العمران وغير ذلك. لكن هؤلاء في الأغلب كانوا من الرهائن المحتجزين. وقد أسهم كل هذا في تكوين نظرة إلى أوروبا مبنية على معرفة، ولكن متسمة بروح الأصالة والحفاظ على الذات والندية،في تقرير الوزير الغساني الذي راقب بدقة أحوال إسبانيا >[3] .

كما أرسل سيدي محمد بن عبد الله وزيره محمد بن عثمان المكناسي في عدد من السفارات من بينها سفارته إلى إسبانيا عام 1779م لمقابلة الملك كارلوس الثالث لتجديد الصلح بين الدولتين ولتحرير الأسرى الجزائريين

[ ص: 213 ] المحتجزين في إسبانيا. وقد ترك ابن عثمان تقريرا مسهبا حول سفارته بسبب طول المدة التي أمضاها في إسبانيا ولتعدد المدن التي زارها: إشبيلية، قرطبة، مدريد، غرناطة وعشرات غيرها... >[4] .

ولا شك أن بعض مظاهر التطور والتقدم التي عرفتها إسبانيا في ذلك الوقت قد لفت انتباه ابن عثمان إلى تطور العسكرية والعمران والحياة السياسية والمدنية، ويذكر مثلا: «دار كبيرة في غاية الإتقان، عليها قيم من قبل الطاغية (يقصد الملك) مجموع في هذه الدار من أنواع الغرائب البحرية والبرية والمعادن الذهبية والحجرية»، وبشأن الناحية العسكرية يتحدث عن «دار معدة لصنـع المدافـع الكبار والمهارس، وبها من الحركات والآلات ما يقصر عنه الوصف... وعندهم بالبيت المذكور كثير من الآلات التي يتوقفون عليها في البحر مثل: القوس والبوصلة وكورة العالم» >[5] .

إن النظرة ذاتها التي قدمها ابن عثمان في تقريره عن رحلته عام 1779م نـجدهـا عند الوزير الغسـاني أول أصحـاب التقارير عام 1690م، كما سنجدها عند الطاهر عبد الرحمن الفارسي الذي زار إنجلترا سنة 1860م. وبالرغم من الفواصـل الزمنية بين تقـرير وآخر، فـإن النظرة إلى أوروبا لم تتطور – عكس تركيا- ولم يطرأ عليها سوى تبدل طفيف.

[ ص: 214 ] ويطلق ابن عبد الرحمن على التقرير الذي كتبه عن رحلته العنوان التالي: «الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية» >[6] . ويفرد في تقريره القصير الحيز الأكبر لوصف مظاهر التقدم الأوروبي، ابتداء من المركب الضخم مرورا بوصف ميزان الطقس، وصولا إلى «مدينة لنديز (لندن) التي هي مدينة من المدائن العظام ما رأيت أعظم منها ولا أحظى، حتى تكرر على أسماعنا أن طولها ستة أيام وعرضها كذلك، وبها سلطانة الجنس الإنجليزي وغالب بنائها بالحجر المنحوت» >[7] .

ويصف عسكر المدينة، ويذكر الاستعراض العسكري، ويحضر مناورة حربية،كما أنه يذكر - في مجال حسن التنظيم - حديقة الحيوان ومعامل السلاح والمدافع، ويقول: «إنهم – أي الإنجليز - أتعبوا أنفسهم أولا في إدراك المسائل النظريات، وكابدوا على تحصيلها حتى صارت عندهم ضروريات، ولا زالوا يستنبطون بعقولهم أشياء كثيرة، كما أحدثوا البابور (Vapeur) وغيره»>[8] .

إلا أن المدهش عقلا هو تفسيره لظهور قوة البخار، يقول: «وسبب إحداثهم له أن صبيا بيده ناعورة صغيرة من كاغيد، فجعلها متصلة بجعب في

[ ص: 215 ] فم بقرج (إناء) على نار، وبعد اشتداد غليان الماء فيه، فجعلت تدور الكاغيد (المروحة من الورق) بقوة ذلك البخار، فرآه رجل فتعجب واستنبط هذا (البابور) المعروف بعقله الظلماني» >[9] .

ويمضي في التفسير موضحا موقفه الفعلي من تقدم العلوم: ...لأن العقل قسمان: ظلماني ونوراني، فالظلماني به يدركون هذه الأشياء الظلمانية، ويزيدهم ذلك توغلا في كفرهم، والنوراني به يدرك المؤمن المسائل المعنوية كالإيمان بالله وملائكته ورسله وكل ما يقرب من رضى الله، ومن ذلك وصفهم الله في غير آية بعدم العقل وبعدم التفكر وبعدم الفقه >[10] .

ونحن إذ نلاحظ أن التجارب المشرقية قد انفتحت أكثر، وفي كثير من الأحيان، على المنظومة الغربية، فإن التجربة المغربية ظلت منغلقة على نفسها، بل بقيت متقوقعة على ثقافة محافظة ومنغلقة على الذات. ورغم ملاحظة المغاربة للتقدم العلمي والتقني في المجالات العسكرية والعمران، فإن ذلك لم يؤد بالضرورة إلى اتخاذ موقف مؤيد من جانب السفراء أنفسهم. فالنظرة إلى أوروبا لا يمكن أن تتأسس فقط على المشاهدة العيانية بل هي في الأصل ناجمة عن مواقف الداخل ومدى تأثرها بأوروبا. إذن لماذا اتخذ المغرب موقف اللامبالي المبالغ في المحافظة ؟ [ ص: 216 ]

يمكن إيجاز الجواب في النقاط التالية:

- العداء المتواصل بين المغرب وجيرانه الأوروبيين (النزاعات العسكرية والقرصنة في المتوسط) .

- كان السفراء يعكسون في تقاريرهم مواقف ترضي سلاطينهم في صراعهم مع أروبا.

- وحدة في النظر إلى الغرب، ويعكسه عدم وجود صراعات داخلية وتيارات متباينة داخل المجتمع.

- جل السفراء كانوا من الفقهاء والعلماء، أي متصلون بالمهمات الدينية، حيث كانت نظرتهم ترتبط بالموقف الديني من غير المسلمين.

وإذا قمنا بمقارنة مع تركيا في الفترة نفسها فإننا نلاحظ:

أن السفراء الذين يمثلون الدولة العثمانية كانوا يمثلون أولئك السلاطين الراغبين في إحداث إصلاحات تحصر نفوذ الانكشارية ورجال الدين المنافسين، وكانوا يتوسلون التجربة الأوروبية لتأسيس إصلاحهم، من هنا فإن هؤلاء السفراء كانوا من الجهاز الإداري المستقل تماما عن جهاز العلماء، لهذا تجنبوا- دون استثناء تقريبا- الخوض في مسائل الصراع الديني بين الإسلام والمسيحية، عكس السفراء المغاربة >[11] . [ ص: 217 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية