قيم السلوك مع الله عند ابن قيم الجوزية [الجزء الثاني]

الأستاذ الدكتور / مفرح بن سليمان القوسي

صفحة جزء
المبحث الأول: الإيمان بالله تعالى

أول ما يجب على العبد ليصح سيره إلى الله تعالى: أن يكون مؤمنا به سبحانه، فالإيمان أساس الأعمال الصالحة وقاعدة بنيانها، «ومن أراد علو بنيانه فعليه بتوثيق أساسه وإحكامه وشدة الاعتناء به، فإن علو البنيان على قدر توثيق الأساس وإحكامه. فالأعمال والدرجات بنيان، وأساسها الإيمان، ومتى كان الأساس وثيقا حمل البنيان واعتلى عليه، وإذا تهدم شيء من البنيان سهل تداركه، وإذا كان الأساس غير وثيق لم يرتفع البنيان ولم يثبت، وإذا تهدم شيء من الأساس سقط البنيان أو كاد. فالعارف همته تصحيح الأساس وإحكامه، والجاهل يرفع في البناء عن غير أساس فلا يلبث بنيانه أن يسقط،

قال تعالى: ( أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين ) (التوبة:109) .

والأساس لبناء الأعمال كالقوة لبدن الإنسان، فإذا كانت القوة قوية حملت البدن ودفعت عنه كثيرا من الآفات، وإذا كانت القوة ضعيفة ضعف حملها للبدن وكانت الآفات إليه أسرع شيء» >[1] .

ويبين -رحمه الله- حقيقة هذا الأساس المتمثل بالإيمان فيقول: [ ص: 10 ] «وهذا الأساس أمران:

الأول: صحة المعرفة بالله وأمره وأسمائه وصفاته.

والثاني: تجريد الانقياد له ولرسوله دون ما سواه.

فهذا أوثق أسـاس أسـس العبـد عليه بنيانـه، وبحسبه يعتلى البناء ما شاء» >[2] .

ويؤكد أنه لا يتحقق الإيمان إلا بتضافر أربعة أمور هي: قول القلب، وقول اللسان، وعمل القلب، وعمل الجوارح، فنراه يقول: «حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل، والقول قسمان:

- قول القلب، وهو الاعتقاد.

- وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام.

والعمل قسمان:

- عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه.

- وعمل الجوارح.

فإذا زالت هـذه الأربعة زال الإيمـان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لـم تنفـع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة.

وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق، فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة، فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع [ ص: 11 ] التصديق مع انتفاء عمـل القـلب، وهـو محبته وانقياده، كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول، بل ويقرون به سرا وجهرا ويقولون: ليس بكاذب ولكن لانتبعه ولا نؤمن به.

وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب، فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، ولاسيما إذا كان ملزوما لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم، فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح، إذ لو أطاع القلب وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت. ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، وهو حقيقة الإيمان، فإن الإيمان ليس مجرد التصديق، وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد» >[3] .

ويقول أيضا: «الإيمان له ظاهر وباطن. وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه تصـديق القـلب وانقياده ومحبته. فلا ينفع ظاهر لا باطن له وإن حقن به الدماء وعصم به المـال والذرية، ولا يجزئ باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف وهلاك. فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان، ونقصه دليل نقصه، وقوته دليل قوته. [ ص: 12 ] فالإيمان قلب الإسـلام ولبه، واليقين قلب الإيمان ولبه. وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول» >[4] .

ومدار الإيمان -في نظره- على أصلين اثنين:

أحدهما: التصديق بخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .

والثاني: طاعة أوامرهما.

ويتبع هذين الأصلين أمران هما:

- رد شبهـات الباطـل التي توحيـها شيـاطـين الجـن والأنس في معارضة الخبر.

- ومجاهدة النفس في دفع الشهوات التي تحول بين العبد وكمال الطاعة >[5] . [ ص: 13 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية