الآثار الاجتماعية للتوسع العمراني (المدينة الخليجية أنموذجًا)

عبد الله بن ناصر السدحان

صفحة جزء
ثانيا: مظاهر التوسع العمراني

في دول الخليج العربي

إن ظـاهرة التركز الحضري تكاد تكون عامة في المجتمعات العربية، فقد توسعت المدينة العربية توسعا هائلا في العقود الأخيرة، وهي لم تكف عن التغير قبل هذا التاريخ، غير أن العشرين عاما الأخيرة شهدت تغييرا ملحوظا في ملامحها.. ويمكن توزيع السكان بين الريف والحضر، وتصنيف المجتـمعات العربية إلى ثلاث مجمـوعات، الأولى: دول تزيد فيها نسبة سكان الحضر عن الريف، وبفروق ملموسة وصـلت إلى مثـلين أو ثلاثة أمثال في بعض الدول العربية، ومن بين دول هذه المجموعـة الدول الخليجية في المرتبـة الأولى، إضافة إلى الأردن، وليبيا، وتونس؛ ومجمـوعة أخرى تزيد فيها نسبة سـكان المجتمعات الريفية عن الحضرية زيادة ملموسة تصل إلى ما بين مثلين وثلاثة أمثال، وتكاد تكون اليمن هي النموذج الأكثر وضوحا في هذه المجموعة، وتأتي الصـومـال وجيبوتي وموريتانيا وجزر القمر ضمن هذه المجموعة كذلك؛ والمجموعة الثالثة تتقارب فيها نسب [ ص: 49 ] سكان الريف والحضر، مع بعض الفروق اليسيرة جدا ومن هذه الدول سوريا والمغرب >[1] .

وبناء على ذلك، فإن مستويات التحضر بدول مجلس التعاون الخليجي من أعلى المستويات، ويمكن تفسير هذه النسبة العالية بعاملين رئيسين سبقت الإشارة لهما، وهما: العمالة الوافدة، والنـزوح والهجرة من الأرياف والبوادي إلى المدن >[2] ، وإن كان هناك من يرى أنه يمكن تصنيف المدن الخليجية من حيث توسعها إلى ثلاثة أصناف رئيسة على النحو الآتي:

1- مدن تقليدية توسعت بسبب التوسع العام في الاقتصاد وليس بسبب الصناعة النفطية مباشرة، ومن ذلك مدن من أمثال مدينة الرياض وجدة، أما الرياض فقد توسعت لأنها أصبحت العاصمة السياسية ومركز جذب للمستوطنات البدوية المحيطة بـها، وأما مدينة جدة فلـكون موقعها مدخلا للحرمين الشريفين وكميناء تجاري للمملكة العربية السعودية.

2- مدن تقليدية توسعت بسبب تأثير النفط مباشرة، وهذا النوع يشمل غالبية المدن الكبرى المطلة على الخليج العربي مثل مدينة: الكويت، [ ص: 50 ] والدوحة، والمنامة، وأبو ظبي، ودبي، ومسقط، فهذه المدن كانت موجودة ورئيسية ولكن مع إمكانات حضرية محدودة؛ أما مع اقتصاديات النفط والحاجة الماسة لاستقرار إعداد متزايدة من العمال والخبراء والعاملين في قطاع صناعة النفط فقد أدى ذلك إلى التوسع في التخطيط العمراني واتساع رقعة تلك المدن.

3- مدن جديدة تم استحداثها بسبب صناعة النفط أو للتقليل من الازدحام أو معدلات التحضر العالية في المدن التقليدية الأخرى النامية، ومن أمثال هذه المدن: الخبر والظهران والدمام والخفجي ورأس تنورة والجبيل في السعودية وكذلك مدينة عيسى في البحرين >[3] .

وعلى كل حال فإنه يمكن وضع العديد من المدن الخليجية في الصدارة من حيث حجم التوسع العمراني والسكاني بين العديد من المدن العربية، وكذلك شكل العمارة ومن ثـم الملامح، حتى إن زائرها في مطلع الثمانينيات الميلادية قد لا يتعرف اليوم بسهـولة على شوارعها وبناياتها.. وفي بعض مدن الخليج العربي كان هذا التوسع مطلبا ملحا لترسيخ شكل الدولة الحديثة ومتطلباتها، وقد تشاركت الدول والقطاع الخاص وبخاصة تجار الأراضي في إحداث هذه المتغيرات التي كان لها أثر واضح على العلاقات الاجتماعية لسكان المدن، إضافة إلى ظهور مشكلات اجتماعية أخرى لسكان المدن. [ ص: 51 ] إن النظر لهذه الظاهرة في الجزيرة العربية والدول الخليجية يلحظ أن هذه المنطقة قد عاشت لفترة طويلة من الزمن حياة بسيطة قوامها الريف والصحراء وظلت بعيدة عن حياة المدينة والتحضر بأبعاده المختلفة، ولكن هذا التغير حدث تبعا لما حبا الله عز وجل به هذه المنطقة من أمن واستقرار مقترن بنمـو اقتصـادي متـلاحق بدأت ذروته بعد ارتفاع أسعار النفط في منتصف السبعينيات الميلادية، وقد أثر هذا كله على معيشة السكان وحياتهم، فازدادت الهجرة نحو مراكز الاستيطان - المدن - حيث فرص العمل المتوفرة والخدمات الميسرة وبريق المدينة الخلاب مقارنة بقسوة الصحراء وبطء حيـاة الريف مما حقق نموا مطردا للمدن بمستوياتـها المختلفة، وتراجعا ملحوظا لمعدلات البداوة وحياة الريف، وليس هذا فحسب بل إن التطور الاقتصادي والنماء غير ملامح بعض القرى والمستوطنات الريفية الكبرى فجعل منها مدنا صغرى أو متوسطة الحجم، وعلى العكس من ذلك تلاشت مكانة كثير من التجمعات السكانية الريفية الصغرى بشكل مطرد مما كان له الأثر في تغيير معالم المشهدين الحضري والريفي في المنطقة >[4] . [ ص: 52 ] ويشير أحد المختصين إلى إمكانية تحديد عدد من الخصائص لشكل التحضر الذي تم في المدينة الخليجية، من خلال مجموعة من السمات المشتركة إلى حد كبير، ومن ذلك:

- تزايد عدد السكان وتنوعهم، فهم مزيج من الأصول والإثنيات.

- غربة سكانية أنتجت غربة مادية عن المحيط والبيئة مما أنتج غربة عاطفية.

- تطور سكني سريع نتج عنه إسراف في التخطيط العمراني، يتصف بعماراتها الهائلة والضخمة وطابعها التجاري.

- اضطراب سلوكي، خاصة لدى فئة الشباب، وخروج عن المألوف، واهتزاز السلطة داخل الأسرة، وتراجع بعض القيم الأسرية، ومزاحمة جهات أخرى للأسرة في التربية.

- المعاناة داخـل المدينة الحضرية الخليجية المشابهة لمعاناة المدن الكبرى في العـالم الصناعي مثل: التلوث، الضجيج، الازدحام، أزمة السكن، اختناق المرور.

- انتهت بعض المدن إلى أن تصبح مدنا باهتة بلا ملامح ولا شخصية، ولا تميز >[5] . [ ص: 53 ] إن من أبرز مظـاهر التوسـع العمراني في المدن الخليجية هو تزايد عدد سكانها بشكل مطرد، وأحيانا أخرى في صـورة قفزات إحصائية ملفتة، وهناك أسباب لذلك، منها ما هو داخـلي كتزايد نسبة النمو الطبيعي بين السـكان أو الهجرة الداخـلية، وهـذه تمثـل العامل الأكبر في هـذه الزيـادات، فعـلى سبيل المثال يمثل النازحون من الريف إلى مدينة الرياض ثلثي حجم النمو لسكانها خلال خمس سنوات فقط (1991-1996م) >[6] ؛ ومنهـا ما هـو خارجي مثل تزايد القـادمين إليها من خارج الدولة بعقود العمل أو للبحث عن عمل أو للسياحة والتسوق كما في بعض المـدن الخليجيـة.

ويوضـح الجدول الآتي تزايد عدد السـكان في المدينة الخـليجـية من خـال رصـد إحصـائي لثلاثة عقـود سابقة وتوقع للعقـد القـادم من خـلال التعرف على تطـور سـكان المناطـق الحضرية في دول الخليج >[7] : [ ص: 54 ]

جدول رقم (2)

تطور نسبة سكان المناطق الحضرية في دول الخليج

C4
سكان المناطق الحضرية فى دول الخليج العربي بالنسبة إلى جملة السكان
R2
الدولة
2015 م
2004 م
1975 م
1950 م
83.2%
80.8%
58.4%
% 9
المملكة العربية السعودية
77.4%
76.7%
83.6%
% 25
الإمارات العربية المتحدة
98.5%
98.3%
89.4%
% 51
دولة الكويت
98.2%
96.3%
% 85
% 71
مملكة البحرين
96.2%
95.3%
88.9%
% 50
قطر
72.3%
71.5%
34.1%
% 3
سلطنة عمان
87.6%
86.5%
73.2%
34.8%
جميع دول الخليج العربي


وكما يتضح من الجدول النقلة الكبيرة جدا في تحضر سكان دول الخليج العربي، فبعد أن كانت نسبة سكان المناطق الحضرية في عام 1950م تصل إلى حدود ثلث السكان فقط، نجد أن النسبة أخذت في التزايد بشكل كبير جدا لتصل إلى قرابة (86.5%) من جملة السكان، ويتوقع لها التزايد في الأعوام العشرة القادمة، وإن كانت نسبة التزايد لن تكون كبيرة، وذلك [ ص: 55 ] بسبب استـقرار الوضع إلى حد كبير في المدن الخليجية. وعلى كل حال فإن المقصود من تزايد نسبـة سكان المناطق الحضرية هو ما يقابله من تناقص في سكان الريف والمناطق المحيطة بالمدن، فهو نمو في المدن على حساب الريف والمناطق المحيطة به، ومن هنا فقد يحدث أن تنمو المدن دون أن يكون هناك تزايد في التحضر نتيجة لتزايد النمو كذلك في سكان الأرياف وبشكل يتناسب طرديا مع التزايد في سكان المدن، وبالتالي لا يقال إن هنـاك تزايدا في التحضـر على الرغم من تزايد عدد سكان المدن وبشكل كبير، كما في دول آسيـا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية >[8] . وهذا بطبيعة الحال ما لم يحدث في الدول الخليجية وفي مدنها، فقد كان التوسع حضريا بمعنى الكلمة، من حيث تزايد سكان المدن على حساب سكان الريف والبوادي.

ولاشك أن أسباب ذلك التزايد في عدد السكان في المدن الخليجية بشكل عام يعود إلى جملة من الأسباب يمكن إيجازها في الجوانب الآتية، مع ملاحظة أن تزايد عدد السكان يستلزم بالضرورة توسع المدن ونموها:

أ - العوامل الاقتصادية والتحسن في المستوى المعيشي للسكان، بعد اكتشاف البترول وتوجه الدول الخليجية إلى تحقيق الرفاهية الاجتماعية [ ص: 56 ] لمواطنيها، فضلا عن اتجاه خطط التنمية الوطنية لكل دولة نحو التصنيع، الأمر الذي يعطي التنمية طابعا حضريا وليس ريفيا، وهذا أدى إلى النـزوح إلى المدن والاستقرار فيها.

ب - انحسار ما يسمى بالأسرة الممتدة، والمقصود بها سكن الابن بعد زواجه مع أبيه، وكذلك بقية الإخوة الذكور، حيث تضم الأسرة الوالدين، والأبناء وزوجاتهم وأبناء الأبناء، وبروز ظاهرة الأسرة النووية، وهي استقلال الأبناء مع زوجاتهم وأبنائهم في مساكن مستقلة بعيدة عن والديهم، خلاف الوضع سابق، مما يعني تفتت الأسرة، وهذا يتطلب المزيد من المساكن، وبالتالي التوسع في المدينة كنتيجة طبيعية لذلك الطلب المتزايد على المساكن المستقلة.

ج- التقاليد المجتمعية وأنماط السكن، وهي قد تكون السبب الرئيس، فالمواطن الخليجي بشكل عام يميل إلى السكن المستقل، فنجده يحرص على السكنى في بناية مستقلة، وعدم الرغبة في الإقامة في شقة ضمن عمارة، ويحـرص على ذلك أشـد الحرص ما لـم يجـد خلاف ذلك، لذلك كان هذا العامل الاجتمـاعي سببا من أسباب توسع المد بشكل كبير، وذلك نتيجة لتشييد المساكن في أطراف المدن هربا من ارتفاع الأسعار داخل الكتلة السكنية >[9] . [ ص: 57 ] د- سياسـات الدول والاتجاهات العامة نحو إنماء المدن من خلال توفير المسـاكن للمواطنين في المدن ومنح الأراضي وما يستتبع ذلك من تقديم قروض ميسرة من قبل الحكومات للمواطنين لبناء المسكن في معظم الدول الخليجيـة، فضـلا عن المشروعات الإسكانية والمجمعات السكنية التي تقيمها الدولـة لبعض منسوبيها من العسكريين أو بعض القطاعات الحكومية. وقد أدى التوسع في سياسـة منح الأراضي للسكن، ومنح القروض الميسرة للمواطنين إلى انحسار الأراضي الصالحة للسكن داخل المدن، مما استدعى التمـدد الأفقي في أطراف المدن ومنح الأراضي للمواطنين، وهذا بطبيعة الحال أدى إلى التوسع الجغرافي للمدينة، وبخاصة أن التوسع في ذلك «المنح» كان من نصيب المدن الكبرى على حساب المدن الصغرى، أو الأرياف.

هـ- سياسات بعض الدول في عدم تنوع التنمية وشمولها لمختلف مناطق الدولة، فيكون التركيز على المدن الكبرى في المشاريع التنموية الكبرى كالمستشفيات والجـامعـات، والمدن الصناعية، وإهمال الأطراف، أو المناطق الريفية، مما أدى بالضرورة إلى تتبع المواطنين لهذه المشاريع للاستفادة منها، سواء في العمل أو من الخدمات التي تقدمها، وهذا أدى بدوره إلى تزايد الهجرة الداخلية إلى المدينة.

و- تواصل الهجرة من الريف أو من البادية إلى المدينة بحثا عن فرص العمل أو مواصلة الدراسة؛ ففي المدينة تتوفر الفرص الوظيفية بسبب النهضة [ ص: 58 ] التي تعيشها المدينة الخليجيـة لجملة من الأسباب الاقتصادية، وقد تكون هذه الهجرة إلى المدينة مؤقتة في بدايتها لأي سبب من الأسباب المذكورة آنفا، لكنها تطول، وقد تستمر طوال حياة المواطن. وقد أثبتت بعض الدراسات أنه كلما طالت مدة الهجرة قل احتمال عودة المهاجرين إلى مواطنهم الأصلية >[10] .

ز- العمالة الأجنبية الوافدة والتي ترافقت مع النهضة العمرانية والاقتصادية التي عاشتها المدن الخليجية في عملية محورية تبادلية، أي عملية قدوم العمالة ومساهمتها في زيادة عدد السكان وبالتالي توسع المدينة من جهة ونمو المدينة لأسباب داخلية من جهة أخرى، يتصاحب مع ذلك استقرار بعض هذه العمالة وتوطنها مع مرور الزمن، وليس ذلك فحسب، بل دعوة غيرهم من بلدانهم الأصلية ليحذوا حذوهم لما يتوفر من فرص عمل قد لا تكون موجودة في بلدانهم الأصلية.

ح- الزيادة الطبيعية للسكان، وقد لا يكون لها الأثر الأكبر في الزيادة ولكن لها دور لا يمكن تجاهله وبخاصة أن النمو في الدول الخليجية يعد من المعدلات المرتفعة على مستوى العالم بشكل عام. [ ص: 59 ] ط- محدودية المساحة الجغرافية لبعض دول الخليج مما يجعل التركز والتوجه الحضري للمدينة الرئيسية كما في دولة الكويت ومملكة البحرين ودولة قطر على سبيل المثال، حيث تمثل عواصم تلك الدول أكبر مراكز التركز السكاني والتوسع انطلاقا من ذلك المركز والتمدد من خلاله.

ومن هنا يمكن القول: إن تزايد السكان في المدينة يعد المؤشر الأول والأبرز في ظاهرة التوسع في المدن الخليجية، فالانتقال من الريف إلى الحضر يعني التوجه إلى المدينة والاستقرار بها، والدراسات تظهر أنه كلما طالت مدة بقاء المهاجر تناقصت رغبته في العودة إلى بلده الأصلي بشكل واضح. وسنة بعد أخرى تتزايد الأعداد المهاجرة أو المستقرة جراء الهجرة إلى المدينة، مما يتطلب إنشاء الجديد من المساكن لاستيعاب هذه الأعداد القادمة، ومن هنا فإن لم تبادر الحكومات بإنشـاء المباني وتنظيمها فإنه سيخرج في المدينة ما يسمى بالأحياء العشوائية ومدن الصفيح في الأطراف لتستوعب المهاجرين الجدد، الذين يستقرون في الأحياء العشوائية أو مدن الصفيح في أطراف المدن >[11] ، فالعديد من الدراسـات الميدانية تؤكد أن غالبية المهاجرين [ ص: 60 ] يسكنون أطراف المدينة حال وصولهم ويحولون هذه الأطراف إلى ما يشبه القرى التي قدموا منها >[12] .. وبالإضافة إلى هذه الجموع المتزايدة من السكان التي تأتي إلى المدينـة بحثا عن فرص عمل أو الدراسة الجامعية أو العلاج، هناك علاقة بين هذه الاحتيـاجات للسـكان ونمو أي مدينة من المدن، وإن كان مكمن الخطورة الأكبر يتمثل في وجود هذه الأحياء العشوائية حول المدن، حيث تفتقر إلى الخـدمات، والمرافـق وتتحول بمرور الوقت إلى جيوب للفقر، فضلا عن تهيئتها للبيئة المناسبة للجريمة، وانتشار المخدرات، وتصنيـع الخمور وترويجها، وانحراف الأحداث والفتيات، وانتشار الأمية، والفساد الأخلاقي المتولد جراء الظروف السكنية والبيئة والثقافية السائدة في تلك الأحياء العشوائية، مع ضرورة الحذر من ربط تلك الانحرافات بالفقر وحسب، فهو عامل من العوامل يتعزز بتوافر البيئة والظروف السيئة.

إن الاستمرار في تضخم المدينة الخليجية سيجعلنا نرى مجتمعات مختلفة السمات، وتسيطر عليها مشكلات التفكك الاجتماعي، حيث لا يرى الأخ أخاه ولا يعرف الجار جاره وتبرز مشكلات التوسع العمراني المعروفة من [ ص: 61 ] الازدحامات المميتة والتلوث البيئي والبصري والسمعي والجريمة بأنواعها، وقد تعجز السلطات آنذاك عن التحكم فيها، إضافة إلى مشكلات عدم القدرة على توفير البنية التحتية ومتطلبات الحياة الأساسية من خدمات المياه والكهرباء والاتصالات والصرف الصحي.. وهذا الأمر ليس بالجديد على العالم، فقد ظهرت نذره في تجارب مدن أخرى من العالم حيث إن نمو المدن فوق طاقاتها أو ما تملكه من مقومات يعتبر من أكبر وأبرز المشكلات التي تواجه المدن الكبرى في العالم.

إن ظاهرة تضخم المدن وما يستتبع ذلك من مشكلات عدة ليست جديدة، بل إنها إحدى قواعد علم الاجتماع التي أكدها العالم الفرنسي «دوركايم» في نظريته لكيفية تماسك المجتمع، حيث يرى أن مجتمعات المدن تمر بنوعين من المجتمعات: النوع الأول هو المجتمعات الميكانيكية: وهي المرحلة الأولى، حيث يعيش الناس ببساطة لمرحلة ما قبل المجتمع الصناعي، حيث يربطهم بعضهم ببعض التجانس والتساوي والقيم الاجتماعية وصلة الرحم (المجتمـع الريفي) . والنوع الثـاني هو المجتمعـات العضوية، وهي مجتمعات المدن وهي معقدة تمثل عصر الصناعة، وتكون مبنية على الاحتراف المهني، والاختلافات بين الناس والطبقيات، وتجزئة أنواع العمالة، واعتماد كل منهم على مهنة ووظيفة الآخر، أو الاعتماد المشترك، ويحكمها القانون والشرطة والقيود والأنظمة الاجتماعية والمدنية، التي إذا خالفها سيعاقبه [ ص: 62 ] المجتمع، وأن الناس تتجمع ليس على مبدأ التساوي بل على اختلاف المهن والأنشطة التخصصية >[13] .

ولكن ماهو الحجم المعقول لمدينة ما، قبل أن تصاب بالأمراض الاجتماعية والعلل الاقتصادية المستعصية ووقف النمو أو الضمور؟ ولاشك أن المعـادلة المطـلوبة في ذلك هو أن يتوازى حجم الخدمات التي تقوم عليهـا المدينـة مثل: شبـكات الميـاه والكهرباء وشبكة الهاتف والصرف الصحي، وبنوكها وأسواقها ومرافق الترفيه، أن يتوازى كل ذلك مع عدد السكان فيها، فإن لكل من هذه الخدمات طاقة وحجما معقولا، يجب أن لا يزيد عدد سكانـها عنه لتكون مدينة حضارية وإلا أصبحت وبـها العـديد مـن بؤر الأمـراض والعلل الاجتمـاعيـة والصـحية والاقتصـادية، وغـدت صعبة على الإدارة، ولهذا يلجأ المخططون إلى تكوين الضواحي حول المدينة لتبقى بحجم معقول سهلة الإدارة وتعطي الفرص لمنطقة أخرى لتنمو وتصبح مناطق حضـرية جديدة ونواة لمدن جديدة تنمو بنمو عدد السكان بشكل متزن ومتوازن مع الخدمات المطلوبة لكل تجمع بشري. [ ص: 63 ] وعلى كل حـال، فإنه لا بد من التنبيه إلى خطورة التوسـع العمـراني الكبير دونمـا استعـداد مسبـق له أو في حالة تجاوز أي مدينة طاقتـها وحـدودها؛

وقـد حـذر عـالم الاجتمـاع (فيبر) قبل مائة عام من النمو العمـراني غـير المخطط للمـدن، وأن ذلك يؤدي إلى تضاؤل إمكانية الاستفادة من مواردها، فوق ما ينشأ من مشكلات اجتماعية وإدارية وسياسية >[14] . [ ص: 64 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية