العولمة والتربية (آفاق مستقبلية)

الأستاذ الدكتور / أحمد علي الحاج محمد

صفحة جزء
العولمة والأمركة

ليس بالأمر العجيب أن ترادف العولمة الأمركة؛ لأن الولايات المتحدة تمثل الصورة الناصعة للرأسمالية، وتحاول بشتى السبل أمركة العالم قسرا بوصفها تمثل نموذجا لا بديل له، وعلى جميع دول العالم الالتزام به دون استثناء؛ لأنه نجح في صنع أمريكا وحقق تفوقها المطلق، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. وكون هذا النموذج يقوم على إشاعة اللامركزية وإطلاق حرية السوق والفصل بين السلطات، فإنه يملك المقومات التي تكفل نجاح تطبيقه في كل دول العالم >[1] ، وهي على هذا النحو تتصدر عولمة العالم، بحكم سعيها الحثيث إلى إعادة صياغة النظام العالمي وفقا لمصالحها؛ لذلك تمارس شتى أنواع الضغوط والهيمنة على البلاد العربية الإسلامية خصوصا. ومع أن الدول الأوربية واقعة تحت عولمة الأمركة، إلا أن عولمة النظام الرأسمالي وتنميـط الحياة الغربية في البلاد العربية والعـالم الثالث هو في مصلحة الغرب عموما.

ومن المسلم به أن عولمة النظام الرأسمالي للحضارة الغربية هو هدف الغرب عموما، سواء أكانت وراءه الدول الأوروبية، أو الولايات المتحدة الأمريكية، غير أن الخلاف بينها هو أن الولايات المتحدة -بحكم عوامل داخلية وخارجية حالية ومستقبلية- تسعى لعولمة أنماط حياتها على العالم [ ص: 48 ] كله، بما فيها الدول الأوروبية؛ نتيجة لما طورته من أساليب حياة تميزها عن الدول الأوروبية، ولكن في إطار الحضارة الغربية، بمعنى أن النتائج النهائية لعولمة العالم هي في صالح الحضارة الغربية عموما، وإن كان المستفيد الأول منها هي الولايات المتحدة؛ ولا مانع أن تكون هذه الفوائد على حساب الدول الأوروبية، وضد مصالحها أحيانا؛ لأن الرأسمـالية نظام طفيلي جشع لا يعيش إلا على حساب الآخرين.

أما هيمنة الغرب على البلاد العربية فهي قديمة، فبالعودة إلى الماضي، يبدو جليا أن علاقة الغرب بالإسلام والمسلمين لا تزال مسكونة أو مشدودة إلى الماضي منذ الحروب الصليبية، عندما انضوى الغرب تحت راية الصليب لشن الحروب المقدسة ضد الحضارة العربية الإسـلامية، وما نجم عن ذلك مما تعرض له المسلمون من شتى أنواع الظلم والاضطهاد والتصفية الجماعية في كل قارات العالم القديم تقريبا. وليس خافيا محاكم التفتيش في أوربا، وتصفية المسلمين في قارتي آسيا وإفريقيا، وغيرها من الشواهد التاريخية التي يصعب حصرها.

وغني عن البيان أن علاقة العرب والمسلمين بالغرب أخذت أبعادا جديدة منذ القرن الثامن عشر عندما تشكلت معالم النظام الرأسمالي واندفاع الدول الاستعمارية الأوربية إلى السيطرة على قارات العالم القديم والجديد؛ لنهب ثروات شعوبها، ومنها الوطن العربي الذي بدأت موجات الاحتلال الأوروبي تعم مناطقه، حتى أطبقت -في الربع الأول من القرن العشرين- [ ص: 49 ] على معظم أراضيه، يدفعها إلى ذلك هاجس الخوف من الإسلام والمسلمين، وخاصة كلما واجهت رفضا ومقاومة من سكان المناطق العربية الإسلامية.

ولم تتوان الدول الاستعمارية من طرق مختلف الأساليب والوسائل لإحكام قبضتها على المناطق العربية؛ لنهب مواردها ومقدرات شعوبها، وإعادة ربط اقتصاديات مناطقها بالاقتصاد الرأسمالي وجعلها تابعة له، وحتى تضمن ذلك عمدت إلى تمزيق الكيانات الاجتماعية والسياسية، وإحياء النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية، لينتهي استعمار الوطن العربي -وهو مقسم- إلى كيانات سياسية مجزأة مقطعة الأوصال، وبحدود بينية تحمل قنابل موقوتة تفجرها الدول الكبرى متى اقتضى الأمر ذلك، ومثقل بهموم ومشكلات من مختلفة الأصناف -تقريبا- لتتحول البلاد العربية إلى نوع جديد من الاستعمار هو الاستعمار الاقتصادي والسياسي، بعد أن زرع الكيان الصهيوني في خاصرة الأمة العربية؛ حتى يضمن استمرار تقسيم الوطن العربي، وإجهاض أي مشروع تنموي، أو مشروع وحدوي، وحتى يضمن تبعية الدول له وهيمنته عليها. وما أن دنت الألفية الثالثة إلا وعولمة العالم، وفي مقدمته البلاد العربية، تشق طريقها بأساليب وآليات عدة.

فالدول الغربية -عموما- لا تختلف حول مواجهة البلاد العربية والإسلامية، وأن الإسلام هو العدو الأول للغرب، ولكنها تختلف فيما بينها في أسلوب المواجهة، بين من تفضل الصدام والعنف عبر العمل العسكري، وبين من تفضل التغلغل الفكري والعمل على نشر الثقافة الغربية، وبين من [ ص: 50 ] تفضل الحصار والعقوبات، وتعطيل مسيرة التنمية، وبين من تفضل الجمع بين هذا وذاك.

والملاحظ أن تلك المواجهة التي تقودها الولايات المتحدة تسير بالتوازي بين استخدام الأساليب السابقة، ولكن يأتي في مقدمتها الغزو الفكري لطمس منظومة الثقافة العربية في عقر دارها كسبيل لعولمة البلاد العربية والإسلامية، ووقف تمدد الإسلام في بلدان العالم، وذلك بتشويه الإسلام وإظهاره بأنه دين تخلف وعنف وإرهاب، ومحاصرة الجاليات العربية والإسلامية في الغرب، وممارسة التمييز العنصري ضدها، والإساءة للإسلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنع النقاب، ليظهر مؤخرا إيقاف بناء المساجد، وغيرها من الأمور المدعومة بتصريحات رسمية >[2] من الأوساط الدينية والسياسية والفكرية والصحافية في البلاد الغربية، إلى غيرها من شواهد الحاضر الماثلة للعيان، التي تفصح عن نفسها في نواح عديدة ومن كل دولة غربية، الكثير منها وصل إلى أقصى حدود الإذلال والاحتقار، وتحت شعارات براقة.

وعلى كل حال، ترجع هيمنة أمريكا على عولمة العالم إلى تفوقها المطلق، اقتصاديا وتقنيا وماليا وعسكريا، حيث مثلت الولايات المتحدة النموذج النقي لتطبيق النظام الرأسمالي العالمي الشره للربح، الساعي إلى استغلال كل ما هو متاح وممكن لتراكم الثروة لديها، بافتعال الأزمات، [ ص: 51 ] وبالتدخل في صنع الأحداث، وبترتيب الأوضاع التي توجد فرصا سانحة لتحقيق مكاسب تقوي النظام الرأسمالي وتدعم نمو السوق، دون اعتبارات لأي شيء، كغاية تبرر كل الوسائل؛ حتى يصبح السوق وقيمه المادية نموذجا لتنظيم الحياة المجتمعية، ومرجعية للحكم على كل شيء.

وترجع قوة الولايات المتحدة إلى تفوقها المطلق في العديد من المجالات، ومؤشرات ذلك أنها:

- تعتمد على التصدير والاستيراد، ثم اعتماد اقتصاديات دول عديدة على التصدير لسوق الاستهلاك الأمريكي في ظل هيمنة شركات الإعلان الأمريكية التي تصنع الأذواق.

- تتفوق في إنتاج تقنيات الاتصالات والإعلام على الصعيد العالمي، واحتكارها للمعلوماتية، تنظيما وتبادلا، وتحديد نطاق البث وغيرها، رافضة إسناد هذه المهمة لأي منظمة عالمية >[3] .

- تحتكر التقنية الرفيعة والمؤسسات المالية ذات النشاط العالمي؛ بقصد "تحويل صناعات الأطراف التي تنتج من أجل الأسواق العالمية المفتوحة إلى نوع من الإنتاج من الباطن"، وهيمنة المراكز الرأسمالية على التصنيع من الباطن، والاستحواذ على الجزء الأكبر من الأرباح >[4] . [ ص: 52 ]

- تمكن الثقافة الأمريكية من النفاذ إلى كل ثقافات العالم؛ نتيجة لتفوقها في صناعة الثقافة الشعبية، وفي الإعلام المنتشر في كل دول العالم للإعلان والتسويق لنشر الإنتاج الفني والصناعات الترفيهية.

- تتفوق عسكريا، فهي تملك 80% من أسلحة العالم، وهيمنتها على حلف الناتو وتوظيفه للدفاع عن مصالحها، ومشروعية سيطرتـها العالمية؛ ما مكنها من أن تكون اليد الخفية لنجاح أمركة العالم >[5] .

- تنفرد بالاستقطاب الأحادي العالمي، محتلة القطب الواحد المهيمن على العالم، ساعية إلى احتواء الدول في قارات العالم، وفي المقدمة الوطن العربي، أو "الشرق الأوسط"، وهي التسمية التي فرضتها أمريكا وصارت متداولة عالميا.

وتأتي الدول العربية أو دول الشرق أوسطية أو دول اليورو أوسطية -كما تسميها الدول الرأسمالية الكبرى لتغيير هوية الوطن العربي- في مقدمة اهتمامات الولايات المتحدة المعلنة؛ لفرض هيمنتها عليها، وسعيها الحثيث لنشر العولمة؛ لأسباب وعوامل عدة أهمها >[6] :

- ضمان هيمنتها على النفط واحتياطياته في المنطقة العربية في العقود المقبلة؛ للسيطرة على المنطقة أولا، والدول المتطورة ثانيا. [ ص: 53 ]

- إدارة النظام الإقليمي العربي القادم للشرق الأوسط، وترتيب الأوضاع المواتية لفرض التسوية بين العرب والكيان الصهيوني.

- ضمان التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية؛ للتحكم في سياسات هذه الدول، وتغيير مؤسساتها وأجهزتها، واحتواء الحركات الإسلامية (الراديكالية)، والوقوف ضد من يعارض خططها.

- تسريع آليات دخول دول المنطقة في مشروع العولمة.

ويرجع فرض المشروع التوسعي الأمريكي لعولمة العالم إلى تخوف أمريكا من التدهور. فنـزعة أمريكا إلى التفوق والاكتمال من جهة، وشعورها بالتهديد من الإسلام، ومن دول صاعدة كالصين والهند واليابان من ناحية ثانية، يدفعها إلى أن تصيغ مشروعها، ومن بنية تتكامل وظائف عناصرها؛ حتى تكون أمركة العالم مخططا للهيمنة.

ويتبين من منطق وأسلوب أمركة العالم أن الولايات المتحدة لا تقبل المنافسة في الانفراد بالقرار على مستوى العالم، ولا تهمها المبادئ والقيم في سبيل الوصول إلى غايتها. والشواهد على ذلك عديدة في المنطقة العربية.

فزرع إسرائيل في المنطقة العربية ليس حبا في اليهود، ودفاعا عن الدين اليهودي، حتى وإن أظهر رؤساء الولايات المتحدة أو بعضهم ميولا دينية، وإنما لجعل إسرائيل شرطيا مدججا بالسلاح، واستمرار هيمنتها؛ حتى يمكنها إتباع أوربا بأمريكا، وإخضاع الدول الأسيوية لإرادتها، وثانيا: بقاء العرب مفتتين، وإذلالهم وإخضاعهم صاغرين لإرادة أمريكا وإملاءاتها؛ لذلك [ ص: 54 ] فرضاء أمريكا عن أية دولة عربية يمر عبر إسرائيل، وثالثا: إجهاض أي مشروع توحيدي عربي، أو تنموي مشترك، وحتى يبقى العرب سائرين في ركب مشروع أمركة العالم.

والأهم من هذا أو ذاك "القضاء على الإسلام بدءا من تحييد دوره في الحياة العامة للبلاد العربية، والحد من تمدده إقليميا، ومرورا بمحاربة الجماعات المحافظة التي تتشدد في تطبيق الإسلام، أو تحكم باسمه، وانتهاء بالعمل على إفراغ محتوى الإسلام من عقول الناشئة والشباب، من خلال عولمة نظم التربية العربية، وبواسطة نشر الثقافة الاستهلاكية، وتنميط الحياة الغربية في البلاد العربية.

وما يؤكد ذلك أن بكاء أمريكا على الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في البلاد العربية ليس حبا فيها، وتوجها أخلاقيا تلتزم به، وإنما لابتزاز الحكام العرب وتحقيق مآرب سياسية واقتصادية، والأدلة على ذلك كثيرة .. ثم كيف تستقيم الديمقراطية وتصح في ظـل آلية السوق التي تهـدف إلى الربح كأسمى ما يكون دون اعتبار للقيم، ذلك أن التوسع الرأسمالي أدى إلى ظهور تناقض بين أيديولوجية النظام الرأسمالي الجديد وواقع الاستقطاب الدولي؛ مما يفرغ القيم، التي تدعو إليها الرأسمالية من كل مضمون حقيقي >[7] .

وفي الوقت الذي تبكي فيه أمريكا على قمع الحكومات العربية لحريات المعارضين لها، وتصدر بيانات الشجب والاستنكار، يلاحظ في الوقت نفسه [ ص: 55 ] أنها لا تحرك ساكنا عندما يقتل الكيان الصهيوني أطفال فلسطين، ويشرد شعبا بأكمله من أراضيه، وتنكل بالفلسطيني نهارا جهارا، ليلا ونهارا. ثم كيف يحق لأمريكا أن تخترق الشرعية الدولية، وتدمر العراق، وتستبيح أفغانستان، وتعتقل الآلاف من المسلمين في سجون سرية، وعلنية؟ إلى ما هنالك من الأمثلة العديدة التي تؤكد أن الديمقراطية وحقوق الإنسان لن تتحقق فعلا طالما بقيت وسيلة للتلاعب السياسي من قبل الدول الرأسمالية الكبرى، وطالما استمر الفقر والجوع، واتسعت حدة التمايزات الاقتصادية والاجتماعية بين الدول والشعوب.

قد يقول قائل: إن العولمة توجد إمكانات هائلة لبلدان العالم الثالث لدفع عمليات التنمية، وتؤدي إلى تسريع التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية. وصحيح أن التدفق الحر للمنتجات والأفكار والمعلومات والمخترعات تقدم مزايا إيجابية لكل فرد. وصحيح أيضا أن العولمة أدت إلى تحسن الحريات وحقوق الإنسان في كل دول العالم تقريبا. غير أن مزايا العولمة وإيجابياتها ليست متاحة لكل الدول والمجتمعات؛ حتى توظفها لخدمة التنمية وإنما العكس، فهي مرتبطة بسياسات الدول الكبرى؛ لأن غالبية البلاد العربية ودول العالم الثالث غير مهيأ للاندماج في العولمة؛ نتيجة لضعف بنياتها الاقتصادية والسياسية والتربوية، وما زالت البنية الحضرية متخلفة وغير قادرة على الاستجابة لمتطلبات العولمة، ولا تتوافر الكفايات العلمية والمهارات [ ص: 56 ] عالية المستوى التي تتطلبها العولمة >[8] ، ثم أن ما يشهده اقتصاد المعرفة، ومجتمع المعرفة >[9] من تغيرات مذهلة، وخاصة في ميادين المعلومات والإعلام والاتصال يعمل على تعميق الهوة الحضارية بين الدول الغنية والدول الفقيرة، "بين من يملكون الاقتدار العلمي والتقني والاقتصادي والثقافي على مواكبة مستجدات التطور، واحتلال مواقع السلطة والنفوذ والتحكم والهيمنة المادية والرمزية، وبين من لا تتيح لهم أوضاع الإقصاء والتهميش والمحاصرة فرصا متكافئة وعادلة للاستفادة المعقولة من مكتسبات التقدم الحضاري ومن امتلاك مؤهلات الجدارة" >[10] .

وإذا كانت العولمة سمحت بالتدفق الحر للمنتجات والمعلومات والترفيه، وأفادت الأفراد والجماعات، ورفعت قدراتها على أداء مهامها، فإن ذلك يتم بهدف زيادة أرباح الشركات المتعددة الجنسيات من جهة، واختراق ثقافات [ ص: 57 ] البلدان العربية والعالم الثالث؛ لنشر الثقافة الاستهلاكية وتنميط الحياة الغربية من جهة ثانية، وهذه الأمور أفادت البلدان الرأسمالية من نواح عدة على حساب إلحاق الضرر البالغ ببلدان العالم الثالث.

أما انتشار الديمقراطية في البلاد العربية وتحسن الحريات وحقوق الإنسان، فصحيح حدثت تحسنات مقارنة بما كان سائدا في الماضي، غير أن واقع الحال يشير إلى أن أغلبها شكلي، ويصب في نهاية المطاف في صالح الدول الكبرى، وتنميط الحياة الغربية، فضلا عن توظيف الدول الكبرى لمثل هذه القضايا لابتزاز الدول العربية؛ لتحقيق مآرب اقتصادية وسياسية وتربوية، حتى صارت الديمقراطية وحقوق الإنسان الضحكة الكبرى التي تتسلى بها الدول الكبرى، أو الضحية الأولى التي تقتل على عتبات المصالح الغربية.

وجملة القول: إن المستقرئ لعولمة العالم وآلية فعلها في بلدان العالم الثالث ومنها البلاد العربية، يجد أنها تحمل نذر حروب وتوترات عالمية بين الحضارات والقوميات والدول، إذ في الوقت الذي تنـزع فيه العولمة إلى توحيد الأسواق العالمية وتدمج الاقتصاديات الوطنية والمنتجات، وتنمط الحياة الثقافية والسياسية، وتوجد تكتلات اقتصادية وسياسية وعسكرية؛ كي تفرض سيطرتها وهيمنتها على دول العالم الثالث خصوصا، فإنها في الوقت نفسه غدت تثير جملة من التناقضات الحادة بين قطاعات المجتمع وفئاته ومناطقه، وبين الأديان والمذاهب، وتولد الصراعات داخل وبين الدول، وصارت تفتت مكونات المجتمع على أسس دينية وعرقية وطائفية ولغوية وعشائرية بصورة أخلت بالنمو المتوازن لمجتمعات العالم الثالث، [ ص: 58 ] وأخذت تهدد وحدتها الداخلية، وتقلص استقلالية الدول وتضعف قدرتها على مواجهة مشكلاتها المجتمعية، وتعمل على تفاقم حدة الفقر والبطالة والتهميش، ونشر ثقافة الحقد والكراهية، وتفرخ أشكالا من الحروب والجرائم، وباتت توسع حدة الفروق والتمايزات بين القارات والدول والفئات، وتنشر جملة من الأوهام حول التنمية وخيرها القادم، والديمقراطية وحقوق الإنسان، وصارت تفاقم الأزمات على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، ونذر الحروب والأخطار الجسيمة.

ولعل أول إشكالية تثيرها العولمة هو الغموض الذي يكتنفها، والأهداف الخفية التي تبطنها، ويتبدى ذلك في أن واقع حال العولمة هو حالة تطبيع عالمي لعولمة نموذج الحياة الغربية بكامل أبعادها الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية والتربوية المدفوعة بأيديولوجية النظام الرأسمالي العالمي لتنميط الحياة الغربية، والعولمة بذلك هي فعل إرادي من الدول الرأسمالية الكبرى لاختزال (الآخر) وصولا إلى إحلال (الذات) محل (الآخر) - عنوة وبالقوة - وتنتهي بأشكال حياتية معممة على سائر العالم، وما يستلزمه ذلك من شتى صور التدخل والقهر والإذلال التي تمارس على دول العالم الثالث للسير في اتجاه نمط حضاري واحد.

والعولمة بهذا المعنى والمغزى والفعل والنتائج فوق أنها طالع سوء ونذير شؤم فهي استعمار جديد تجاوز ما عرفته البشرية خلال تاريخها الطويل، إنها استعمار صامت يستلب العقل ويخترق الهوية ويمحو الخصوصية الثقافية، ويعطل الإرادة من أجل نهب ثروات الشعوب، لتتعدد بعد ذلك صور [ ص: 59 ] التدخل للسيطرة والهيمنة على الشعوب المغلوبة على أمرها من فرض الشروط المجحفة إلى فرض الحصار والتجويع، ومن استخدام الحرب السافرة والتهديد بها إلى الحصار والخنق البطيء، ومن الترغيب بالمساعدات والقروض إلى الترهيب بقطعها، ومن شراء ذمم النخب السياسية والفكرية للدفاع عن العولمة والتبشير بها إلى تحويل زعماء الدول وحكامها إلى وكلاء للشركات العملاقة وسماسرة لمنتجاتها، ومن إملاء الأوامر للدول وحكوماتها إلى تحويل النخب الحاكمة إلى أداة لترويض شعوبها ودفعها إلى الدخول في زمن العولمة، وعلى قتل شعوبها بنفسها وتحميلها تبعات ذلك دون غيرها، ومن جعل الشعوب تتناقض وتتصارع فيما بين مكوناتها إلى أن تفتك نفسها بنفسها، إلى غير ذلك من الأمور التي ما تلبث أن تتراجع أخطار لتظهر هي وغيرها أخطارا أخرى أشد قوة وفتكا.

وتشير الوقائع المشاهدة إلى أن عولمة العالم الثالث هدف تسعى إليه الدول الرأسمالية الكبرى، إلا أن البلاد العربية هي العقبة الكبرى أمام مشروع عولمة العالم؛ لأنها تمتلك حضارة تضرب بجذورها في عمق التاريخ، وتحمل رسالة إسلامية صالحة لكل زمان ومكان، ولديها بنية داخلية متماسكة تمكنها من الدفاع عن نفسها، وتعرضت خلال تاريخها الطويل لشتى صنوف الكوارث والمحن دون أن تفقد وجودها ويتراجع زخم استمرار حضورها الدولي الفاعل والمنفعل، وظلت حضارتها تتمتع بقدرتها على استيعاب الجديد النافع، والتعايش مع (الآخر) مهما كان دينه ولونه ولغته وثقافته، باعتبار ذلك واجبا دينيا قبل أن يكون واجبا إنسانيا وأخلاقيا. [ ص: 60 ]

وهنا فالبلاد العربية وإسلامها يمثل - كما يذهب منظرو العولمة وقادة الدول الكبرى وساستها - الخطر الأكبر والتحدي الاستراتيجي الذي يجب التغلب عليه لعولمة النظام الرأسمالي العالمي الجديد على البلاد العربية >[11] وعلى كل العالم.

لذلك لا غرو -هنا- إن اشتدت هجمة الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا على الإسلام والبلاد العربية والإسلامية، وتزايدت حدة تدخلها العلني والسافر في كل الشؤون الداخلية والخارجية للبلاد العربية تقريبا؛ لتسريع عولمتها، حيث تتخذ الدول الرأسمالية الكبرى من العولمة مشروعا لنهب خيرات البلاد العربية كغيرها من بلدان العالم الثالث، وثقافة لقهر الشعوب العربية، وأيديولوجية لإدارة الصراع مع العرب، فرادى ومجتمعين، سلاحها في ذلك المال، والتقدم العلمي والتقني، وثورة الاتصالات والإعلام والمعلوماتية، وأداتها الشركات العملاقة العابرة للقارات، والمنظمات الدولية، والقوة العسكرية، وهدفها إزالة الحضارة العربية الإسلامية وإلحاق العرب بالمواطنة العالمية. [ ص: 61 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية