العولمة والتربية (آفاق مستقبلية)

الأستاذ الدكتور / أحمد علي الحاج محمد

صفحة جزء
5- مظاهر العولمة الإعلامية ومتطلباتها التربوية:

نعني بالعولمة الإعلامية: وجود عالم بلا حدود إعلامية إعلانية، يهيمن عليه النظام الرأسمالي العالمي الجديد؛ أو هي امتداد الإعلام وتوسعه وتعميمه على مناطق العالم الجغرافية، وترسمه شبكات اتصالية معلوماتية عالمية تتخطى حواجز الزمان والمكان؛ لتعميمه عالميا من دون دولة ومن دون أمم وشعوب، ومن دون أوطان، بمضمون متشابه أو واحد يخاطب مستهلكين متعددي العقائد والمذاهب والأهواء >[1] .

ويعرف "هربرت شيللر" >[2] عولمة الإعلام بأنها: تركز وسائل الإعلام في يد عدد من الشركات العملاقة العابرة للقارات، التي تستخدمها لحفز [ ص: 121 ] الاستهلاك على النطاق العالمي، وتوسيع الثقافة الاستهلاكية الغربية؛ لطمس الهويات القومية، والتقليل من مشاعر الانتماء إلى مكان محدد >[3] ؛ لأن الإعلام يعتمد على الصورة السمعيـة/ البصرية، والصورةلم تعد تساوي ألف كلمة -كما جاء في القول الصيني المأثور- بل صارت بمليون كلمة، لذلك هناك حضور جارف للصور في حياة الإنسان الحديث: إنها حاضرة في التربية، وفي الأسواق وفي الشوارع... الخ >[4] .

وفي إطار عولمة الإعلام أدت ثورة تقنية المعلومات >[5] والاتصال والإعلام إلى ظهور مجتمع الإعلام، حيث مكنت تقنية الإعلام والاتصالات الفائقة القدرة على سرعة تبادل المعلومات ونشرها من تكون مجتمع الإعلام الرقمي، الذي اندمج فيه المكتوب والصورة والصوت في نظام (BITS) الذي يسمح بنقل الصوت والصورة والكتابة بسرعة الضوء؛ مما أحدث تحولات جذرية في عالم الاتصال والتثقيف والترفيه >[6] .

وباندماج كبريات شركات الإنترنت وشبكة الهاتف الجوال والكابل والإعلام والطاقة...الخ؛ تكونت شركات عملاقة متعددة الوسائط تتحكم [ ص: 122 ] في وسائل الاتصال والإعلام في العالم، وتعدد مهامها من بيع الكتب والأفلام إلى الأقراص المضغوطة والمغناطيسية، ومن خدمات البيع بالمراسلة إلى معاملات البنوك والبورصات، ومن امتلاك فرق كرة القدم إلى وكالات السفر، ومن الترفيه والتسلية الرياضية والثقافية إلى الخدمات المهنية والمالية، إلى غير ذلك من الأمور التي جعلت المواطن في حالة ربط دائمة، بهدف تحقيق أكبر قدر من الاستهلاك؛ مما جعل النظام الرأسمالي العالمي المخاطب الوحيد للمواطن في جميع أنحاء العالم >[7] .

والمستفيد الرئيس من جني الأرباح المهولة والسريعة من مجتمع الإعلام العالمي، الذي وفر قدرات هائلة للاقتصاد المعولم لزيادة الاستثمار والربح هي الدول الرأسمالية الكبرى.

والخطورة في الأمر أن وسائل الاتصالات والإعلام وتقنية المعلومات مكنت الصورة والصوت والكلمة من اختراق الحدود الجغرافية والحواجز الثقافية، ونفذت إلى عقول وعواطف الناس في كل أرجاء مناطق العالم، تلبي رغبات وأذواق مختلف الفئات والأفراد، معتمدة في ذلك على الإثارة والتسلية والترفيه لاستقطاب أكبر قدر ممكن من المستهلكين، وبالتالي تشكيل ثقافة استهلاكية واسعة، وخصوصا بين النشء والشباب باعتبارهم [ ص: 123 ] مستهلكي المستقبل، ولاسيما بعد أن أصبحت وسائل الاتصالات الجماهيرية جزءا من الثقافة اليومية للفرد >[8] - >[9] ؛ لأن الإعلام المعولم >[10] :

- يبنى واقعا يشكل معظم خبرات المواطن لفهم العالم، وإحساسه به، ويشكل اتجاهاته وآرائه.

- يكون خبرات وانطباعات مختلفة للرسالة الإعلامية الواحدة وفقا لعوامـل فردية وحاجـات شخصية، وخلفية منظومة الثقافة والقيم التي توجه سلوكه.

- له تأثير سيكولوجي أكثر منه عقلي؛ لأن أشـكال الربط بين الإعلان عن سلعة ما والصحة والحيوية والجمال والجاه والمغامرة..الخ يثير العواطف والرغبات.

- يعتمد على مبدأ الإغراق الإدراكي القائم على تكرار الإعلان؛ لإبعاد ذهن المشاهد عن التفكير بها، وتركيز التأثير على إثارة الانفعال، فتتكون قناة عصبية يمر بها مثير الإعلان الدعائي لإغراق أحاسيس المشاهدين بها وتدفعه بصورة تلقائية للتوجه لشرائها. [ ص: 124 ]

- يؤدي إلى تكريس ثقافة الربح والقيم المادية، من خلال ثقافة الصورة، التي تؤدي إلى تغييب الوعي، وتسطيح التفكير، وضمور المعرفة، وإعلاء غرائز الجسد >[11] .

- يحتوي على مضامين تجارية تقدم في سياق ثقافي وسياسي واجتماعي..الخ وبطابع أيديولوجي.

- ينقل معلومات بجميع صيغ الصورة المسموعة والمقروءة، التي تخترق الخصوصيات الثقافية في أي مكان في العالم، ودون أن تستطيع الجهات الرسمية التحكم بها، أو الاختيار من بينها.

- حول الثقافة الاستهلاكية من صناعة كثيفة الإبداع إلى صناعة تقليدية كثيفة رأس المال >[12] .

- يمكن القوى الرأسمالية الكبرى من السيطرة على صناعة المعلومات بعناصرها الثلاثة: محتوى المعلومة، ومعالجة المعلومة، وتوزيع المعلومة لتذويب الثقافات القومية، وإقامة ثقافة عالمية واحدة.

- أصبح أساس تجديد بنى النظام الاجتماعي في المجتمعات العربية والعـالم الثالث؛ لأن وسـائل الإعـلام الحديثة حلت محل النظـم الشفوية للاتصال >[13] . [ ص: 125 ]

وفي ضوء ما تقدم، فعولمة الإعلام: هي ترويج لثقـافة مجتمع حديث بلا أيديولوجيا، وبلا فكر، وتعمل على هيمنة الثقافة الاستهلاكية، التي تسطح الوعي، وتزيف رؤية الواقع، وتثير غرائز الجسد واللهاث وراء اللذة الحسية والمتعة الراهنة، التي تعمـل على تنميـط الاستهـلاك الشبابي، إلى ما هنالك من أمور تكرس ثقافة زائفة، وخصوصا لدى أجيال المستقبل، بوصفها أيديولوجيا للثقافة الإعلامية الجماهيرية، تقوم على نشر جملة من الأوهام هي: وهم الفردية، ووهم الخيار الشخصي، ووهم الحياد، ووهم الطبيعة البشرية التي لا تتغير، ووهم غياب الصراع الأيديولوجي. ومضمون هذه المسلمات هي أيديولوجيا تضرب في الصميم الهوية الثقافية الفردية والمجتمعية الوطنية القومية >[14] .

لذلك لا غرو إن أكد "المهدي المنجرة" أن الإعلام هو ثروة الثروات، بل هو الثروة التي ترتبط بكل الثروات الأخرى، أو على حد تعبير "غريغوري باتس": (هو التباين الذي يصنع التباين) >[15] . [ ص: 126 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية