في المنظور الحضاري (المنظمات الدولية رؤية تأصيلية)

الدكتور / سامي الخزندار

صفحة جزء
المنظمات الدولية وفض النزاعات

في المنظور الحضاري الإسلامي

استكمالا للحديث عن المنظور الحضاري الإسلامي تجاه المنظمات الدولية؛ فإننا نحتاج إلى الوقوف على العلاقة بين إحدى أهم الغايات والوظائف الأساسية للمنظمات الدولية المعاصرة، وهي غاية تحقيق الأمن والسلام الدوليين، وأحد الأدوار أو الوظائف الأساسية لهذه المنظمات، المرتبطة بهذه الغاية، وهي تسوية الصراعات أو فض النـزاعات بين أعضاء المجتمع الدولي.

فقد أصبحت المنظـمات الدولية والإقليمية المعاصرة تلعب دورا أساسـا ومحوريا في تسـوية الصراعات الدوليـة أو الأهـلية، وغدت - في كثير من الأحيـان- نقطة البدء أو الانطلاق لكافة الجهود التي تبذل لتسوية أي صراع عنيف أو مسلح يحدث في المجتمع الدولي أو داخل بعض الدول.

كما أصبحت تتبنى في مواثيقها أو ممارساتـها مجموعة من الوسـائل والأدوات والإجراءات لتسوية الصراعات الدولية، أو منع [ ص: 112 ] أسباب حدوثها، وتؤكد على ضرورة التزام أعضائها بفض منازعاتهم بالوسائل السـلمية؛ منعا لتهـديد الأمن والسـلم والعـدل الدولي وتعريضه للخطر.

وتتراوح أشكال وأنواع هذه الوسـائل والإجراءات ما بين استخدام الوسائل السلمية، إلى استخدام القوة المسلحة، أو الإكراه والإجبار. ويتم التدرج في استخدام هذه الوسائل وفق طبيعة الصراع، وطبيعة أطرافه وقضاياه.

ومن أهم هذه الوسائل والإجراءات المستخدمة من المنظمات الدولية والإقليمية ما يلي







>[1] : [ ص: 113 ]

1- الوسائل السياسية والدبلوماسية: وهي تشمل المفاوضات بين أطراف الصراع؛ استخدام لجان مؤتمرات السلام؛ الوساطة؛ المساعي الحميدة؛ التوفيق، وغيرها.

2- الوسائل القانونية والقضائية أو شبه القضائية: مثل: التحكيم، ولجان تقصي الحقائق، وغيرها.

3- وسائل القوة والإكراه: مثل:

- الحصار والعقوبات الاقتصادية (Economic Sanctions).

- استخدام القوة والتدخل العسكري، مثل: قوات حفظ السلام.

- عقوبات سياسية دبلوماسية، مثل: قطع العلاقات الدبلوماسية؛ وضع عقوبات على بعض القادة السياسيين في بعض الأنظمة، مثل: منع السفر، أو التحفظ على أموالهم، أو منع دعوتهم أو حضورهم ومشـاركتهم في اللقـاءات الدولية، وغير ذلك من أشكال العقوبات على القادة











>[2] . [ ص: 114 ]

لا شك أن "المنظور الحضاري الإسلامي" يتقاطع مع وسائل هذه المنظمات الدولية في تسوية الصراعات وفض النـزاعات: "إصلاح ذات البين"، سواء من حيث إقرارها، أو ممارستها، أو دعمها والتشجيع على استخدامها من حيث المبدأ، ولكن قد يختلف في الكيفية، وفي طبيعة القضايا والأطراف والدوافع أو المبررات في استخدام بعضها، وبشكل خاص وسائل القوة والإكراه؛ فالمنظور الإسلامي يدعو دائما إلى اللجوء [ ص: 115 ] إلى الوسائل السلمية أولا في فض النـزاعات أو "إصلاح ذات البين"، وهو ما يتوافق معه القانون الدولي والمنظمات الدولية المعاصرة، مع عدم استبعاد إمكانية استخدام القوة في حالات معينة، تقع ضمن ظروف وشروط معينة.

وهناك العديد من الوسائل، التي دعت إليها الرؤية الإسلامية في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفـة في تسوية الصراعات، ومنها - على سبيل المثال- ما يلي

>[3] :

1- الوسائل الدبلوماسية: وتشمل:

المفاوضات المباشرة، سواء من خلال استخدام وسائل الحوار، والمجادلة، والمساعي الحميدة، والوساطة.

2- الوسائل القضائية لتسوية المنازعات، مثل: التحكيم.

3- وسائل القوة والإكراه: مثل الحرب والقتال.

وقد عرف المسلمون هذه الوسائل لتسوية المنازعات الدولية، وكانت الوسائل السلمية من "الوسائل الأكثر انسجاما مع أحكام الشريعة الإسـلامية وأهـدافها السـامية؛ لأن استخدام القوة العسكرية [ ص: 116 ] -ابتداء- لا ينسجم وطبيعتها القائمة على الإدراك والفهم لأحكام الشرع الإسلامي. والشريعة الإسلامية لا تعنى بتوحيد الله فحسب، بل بتطبيق شريعته، وهو أمر يتطلب إيصال أحكام هذه الشريعة للناس؛ ليكونوا على علم وبينة منها. وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه مع وجود القتال والحرب وسفك الدماء، ونفوس مليئة بالحقد والكراهية بانتظار أخذ الثأر والانتقام، بل لا بد من الأمن والاستقرار والهدوء، وراحة النفس والبال، والعفو والمغفرة، وتعميق الألفة والمحبة والتواصل بين الناس، وبناء جسور للتفاهم لإيصال المطلوب" >[4] .

عموما، إن أشكال ووسائل تسوية الصراعات في معظمها هي جزء من خبرة وممارسات مجتمعات إنسانية مختلفة، ارتبطت مع تجارب وتاريخ المجتمعات والحضارات والثقافات الإنسانية المختلفة من عهد آدم، عليه السلام، وممارسات قابيل وهابيل، حتى يومنا هذا.

وربما من المفيد الوقوف هنا على إحدى الوسائل المستخدمة، وهي وسيلة الحصار الاقتصادي الشامل على مجتمع ما أو سكان مدنيين في دولة ما، وهي من الوسائل التي استخدمت عدة مرات من قبل بعض المنظمات الدولية والإقليمية ضد دولة ما. إن استخدام حصار اقتصادي ضد شعب [ ص: 117 ] أو مجتمع بشري كامل في دولة ما كجزء من عقوبة على نظام سياسي، هو في الحقيقة شكل من أشكال "العقاب الجماعي" التي استخدمت من قبل منظمات دولية خاضعة لتأثير أصحاب المنظومة الحضارية المادية من أعضاء المجتمع الدولي، وبشكل خاص المجتمع الغربي >[5] .

وفي المقابل، لا تدل الخبرة أو التجربة الحضارية الإسلامية على قبول أو ممارسة أو إقرار هذه الوسيلة، حيث تشكل وسيلة عقاب جماعية للشعب، بهدف عقاب نظامه السياسي أو نخبه السياسية الحاكمة، حيث يتحمل معاناتها الشعب، إلا إن كان الشعب مشاركا أو متضامنا في الجريمة أو العدوان، التي بسببها يقع الحصار، وهذه الوسيلة تتعارض والرؤية الإسلامية، من حيث:

1- لا تزر وازرة وزر أخرى، فهذه الشعوب في كثير من الأحيان واقعة تحت استبداد هذه الأنظمة السياسية، وقمعها؛ وبالتالي لا تملك فيها أي إرادة للاختيار. [ ص: 118 ]

2- أنها تتعارض مع تحقيق أحد المقاصد والضرورات الخمس في الشريعة الإسلامية للإنسان، وخاصة أن فيها تهديدا لحياة الإنسان المدني غير المحارب من شيوخ ونساء وأطفال، وبالتالي هي تهديد لمصادر حياة الإنسان والمجتمع، وهو مرفوض في حالة الحرب في الإسلام، فكيف في ظروف غير الحرب؟!

من جانب آخر، واستكمالا للحديث عن دور المنظمات الدولية في فض النـزاعات، فإن هناك منظمات دولية معاصرة متخصصة في وظائف وأدوار محددة تتعلق بنوعية من الجرائم التي تهدد الأمن والسلم الدولي الجماعي، والرفاه في العالم، وهذه النوعية من الجرائم تعتبر من أكبر أشكال العدوان على الإنسان، وأكثرها خطورة على المجتمع الإنساني وسـلامة الإنسان في الصراعات والحروب، وهذا النوع من الجرائم عادة ما يقع ضمن اهتمام أعضاء المجتمع الدولي وتعاونه في محاربتها، ومن أشكال وطبيعة هذه الجرائم ما يلي

>[6] : [ ص: 119 ]

1- جرائم الإبادة الجمـاعية، مثل: (إهلاك وقتل جماعة قومية أو عرقية أو دينية).

2- الجرائم ضد الإنسانية: مثل: (إبادة المدنيين، الاسترقاق، التهجير القسري للسكان، الاغتصاب والتعذيب، جريمة الفصل العنصري، وغيرها).

3- جرائم الحرب.

4- جريمة العدوان.

وهذه الجرائم، سواء أكانت تقع أثناء النـزاعات المسلحة بين الدول، أو في الصراعات الأهلية، فإن هذه المنظمات تلجأ إلى استخدام كافة الإجراءات لمحاكمة ومعاقبة القائمين عليها أثناء الصراعات والحروب. وهذه الأنواع من الجرائم تقع عادة ضمن اهتمام أعضاء المجتمع الدولي، ويتعاون على محاربتها ومنع حدوثها.

إن الشريعة الإسلامية معنية بمحاربة ومقاومة حدوث هذه الجرائم، ويقع ذلك ضمن الفروض والواجبات الشرعية للإنسان المسلم، وضمن المقاصد العامة للشريعة في حفظ الضروريات الخمس: حفظ النفس، والمال، والعرض، والدين، والعقل. أيضا، إن وظيفة "فض النـزاعات"، أو محاولة ردع أو منع حدوث هذه الجرائم أو أي مخاطر تهدد مقاومة حدوث هذه الجرائم، تشكل حفظا للضرورات الخمس، وتقع ضمن باب [ ص: 120 ] سد الذرائع ودرء المفاسد. كما أن هذه الجرائم تشكل منعا لتعطيل جهود وإمكانيات المجتمع الإنساني في حركة العمران والتنمية.

ولا شك أن الإسلام يتوافق، بل ويشارك ويدعو إلى المسؤولية الدولية في منع الصراعات الإنسانية والحروب والاحتلال والعدوان وحماية مكونات حياة الإنسان والبيئة الطبيعية. وفي المقابل، إن ممارسات وبعض قرارات هذه المنظمات يخضع - أحيانا - لدوافع سياسية، أو ازدواجية في معايير التطبيق وفق طبيعة الأطراف التي يمكن أن تخضع للمساءلة والعقاب، ووفقا لطبيعة مصالح القوى المتنفذة في هذه المنظمات، أكثر من خضوعه لاعتبارات العدالة أو الصالح الإنساني العام.

إن المنظمـات الدولية يمـكن أن تشـكل في المنظـور الإسلامي أو الإنساني بيئة تحالفية أو "تكاتفا" للجهود الإيجابية في فض النـزاعات، سواء من خـلال ممارسـة الضغوط السـلمية "لإصلاح ذات البين"، أو "التحكيم"، أو خلق بيئة مؤسسية تحالفية "تضامنية" لمقاومة أو منع العدوان أو مقاتلة المعتدين أو "الفئة الباغية"، كما جاء في قوله تعالى: ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ) (الحجرات:9). [ ص: 121 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية