الأخلاق والسياسة (قراءة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه )

الأستاذ الدكتور / موفق سالم نوري

صفحة جزء
تقديم

عمر عبيد حسنة

الحمد لله، والصلاة والسلام على إمام المتقين، المبعوث رحمة للعالمين.. الحمد لله، الذي امتن علينا بنعمة الإيمان وأورثنا النبوة والكتاب، فقال تعالى: ( واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون ) (الحجرات:7) ، ونسأله تعالى أن يجعلنا من الراشدين؛ وقال: ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ) (فاطر:32) ، وبذلك كانت وراثة النبوة ولادة للإنسان الجديد، الذي يمتلك بهذه الوراثة عمقا تاريخيا، وحضاريا، ورصيدا، ورؤية واضحة لمسيرة الحياة، منذ بدء الخلق وحتى ينشئ الله النشأة الآخرة؛ كما يمتلك أنموذج الاقتداء المسدد بالوحي والمؤيد به من حياة النبي، عليه الصلاة والسلام، وسيرته؛ كما يمتلك المثل الكامل للاتباع بإحسان من [ ص: 5 ] حياة الصحابة، الذين ربوا على عين النبوة، فكانوا خير الخلف والأجيال وخير القرون، بشهادة القرآن وتزكية النبوة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) (أخرجه البخاري )، وقال عليه الصلاة والسلام: ( لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) (أخرجه البخاري).

وبعد:

فهذا كتاب الثامن والأربعون بعد المائة: "الأخلاق والسياسة.. قراءة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه " للأستاذ الدكتور موفق سالم نوري، في سلسلة "كتاب الأمة"، التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، في محاولاتها الدائبة لاسترداد الفاعلية وإعادة بناء المسلم المعاصر، وتحقيق ذاته، وإيقاظ وعيه برسالته العالمية، واستيعاب وراثة النبوة، وإدراك أبعاد تجربته الحضارية التاريخية، واستصحاب مرجعيته في التعامل مع الحاضر والتخطيط للمستقبل، في ضوء الإمكانات المتاحة والاستطاعات المتوفرة والظروف المحيطة، واستشعار مسؤوليته الإنسانية، وامتلاكه المؤهلات من التخصصات المطلوبة، وارتقائه الموقع الوسط للاضطلاع بالشهود الحضاري وإقامة الكتاب والميزان التزاما بالعدل وتحقيقا له في الأرض، استجابة للتكليف الشرعي، الذي يقتضيه قوله تعالى في جعلنا أمة العدل ونشره وتحقيقه في حياة الناس: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143) ، ذلك أن الأمـر المطـروح دائمـا [ ص: 6 ] أو السؤال المطروح والملف المفتوح باستمرار: كيف نتأهل بقيم الإسلام لنكون شهـداء على الناس في كل زمان ومكان؟ وما هي التخصصات المطلوبة، وكيف نتحقق بها، ونسعى لتوفيرها في حياتنا، حتى نكون في مستوى إسلامنا وعصرنا؟

كيف نتعامل مع أنموذج الاقتداء ورموز الاتباع بإحسان، وكيف نقتبس من تجربتنا الحضارية التاريخية، بل وتاريخ النبوة الطويل، بكل مكوناتها؟

وقد لا يتسع المجال هنا للحديث عن طبيعة الأنموذج ومكوناته وأثره التربوي ودوره التطبيقي في الحياة، سواء في ذلك سيرة الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم المسدد بالوحي والمؤيد به، أو امتداده في الخلافة الراشدة وجيل الصحابة، الذي تربى على عين النبوة وتسديدها وتدريبها وشهدت له بأهلية الاتباع: ( ...فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ ) (أخرجه ابن ماجه) ، ذلك أن الإيمان بمدى سلامة الأنموذج المحتذى وصلاحيته تعتبر الدليل الأهم في إعادة البناء الحضاري وإخراج الأمة المسلمة من جديد، إضافة إلى أهمية وجود الأنموذج الذي يجسد القيم في حياة البشر في كل شؤونهم وجميع أحوالهم، في قوتهم وضعفهم، في نصرهم وهزيمتهم، في ارتقائهم وارتكاسهم، في صحتهم ومرضهم، في فرحهم وحزنهم....إلخ، وأهميته أيضا من حيث هو دليل الحياة ابتداء وتجنب عثراتها بكل ظروفها وجوانبها.

هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن وجود الأنموذج المجسد يدلل بشكل يقيني على أن العقيدة والقيم الإسلامية واقعية وعملية، لا نظرية ومنظومة أحلام وخيالات وفلسفات ومعارف باردة لا نصيب لها من حياة الناس. [ ص: 7 ]

ولعلنا نقول هنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اصطفاه الله للرسالة الخاتمة، المثل الأعلى والأنموذج الأمثل، هو بشر من البشر، يتصف بصفات البشر، ويجري عليه ما يجري على البشر من عوارض طبيعية، وأن حدود العصمة، فيما أجمع عليه العلماء تقريبا، إنما هي فيما يختص بتبليغ الشريعة وقيم الدين، وأن الفرق بينه وبين البشر أنه يوحى إليه ويسدد بالوحي، فإن جاء اجتهاده البشري صوابا أقره الوحي، وإن جاء خطأ صوبه الوحي، لذلك فكل ما جاء عنه صحيحا إذا توافرت له شروط النقل المعتمدة.

ولعـلنا نقول: إن بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم من لوازم الاقتداء، ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو لم يكن بشرا، أو كان ملاكا لاستحال عقلا وشرعا أن يكون محـلا لاقتـداء البشر، فكيف يكون قدوة للبشر من لا يحس إحساس البشر ولا يطيق طاقة البشر؟

لذلك كانت تلفت نظري من وقت مبكر قولة الكافرين معترضين، التي قصها القرآن: ( وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ) (الفرقان:7)، وكنت أقول لطلابي: ليست المشكلة في بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما المشكلة كل المشكلة لو لم يكن الرسول بشرا (!) إذ كيف يمكن أن يشكل قدوة وأنموذجا للبشر من لا يتصف بصفات البشر؟!

لذلك نقول: أي أنموذج أو محل اقتداء، فيما اخترعه الناس بكل مذاهبهم، يدعو للاطمئنان والارتياح والأمان أكثر من الرسول القدوة بما توافر له من [ ص: 8 ] التأهيل والتربية والحفظ والوحي المعلم من خارج البشر، قال تعالى: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) (الأحزاب:21).

ولا نريد هنا التوقف عند أبعاد الاقتداء، وكيف أنها انكمشت عند بعض المسلمين واقتصرت على الطعام والشراب والنكاح واللباس وغابت عن مجالات الحياة الأخرى، التي قد تكون الأهم والأكثر لزوما، ولا عن منهجية الاقتداء ولا عن العبث بوسائله، ولا عن عدم الفقه بالموقع المناسب للاقتداء من مسيرة السيرة، وما يقابله من واقعنا، الأمر الذي حاصر الأنموذج، إلى حد بعيد، وشوه عطاءه وعطل دوره، وحال دون امتداده والإفادة منه بالإجابة عن أحوالنا وحالاتنا، حيث نرى حالات من فوضى الاجتهاد في الاقتداء لافتة للنظر، فقد نقتدي ونحن في حالة الهزيمة بمواقع النصر في السيرة... والقائمة تطول (!)

وهكذا تدور علينا الدوائر ونسيء إلى الأنموذج ونشوهه، بسبب غياب منهجية الاقتداء والقدرة على القراءة القاصدة للسيرة وواقع المجتمع في كل زمان ومكان، ووضع الواقع بكل ظروفه ومكوناته بالموقع الذي يناسبه من مسيرة السيرة الطويلة أو مسيرة الخلافة الراشدة محل الاتباع بإحسان.

وليس ذلك فقط، وإنما الرؤية الناقصة والعليلة لمسيرة السيرة، وقراءتها بأبجدية خـاطئة، وعدم إبصار عطاء السيرة التي جسدت القيم في حياة الناس إلا من جانب واحد أو من بعد واحد.

لذلك نجد أن هذه القراءة للسيرة بكل عطائها لم تخرج عن مجموعة غزوات هنا وهناك، وحتى هذه العسكرة في قراءة السيرة لم تبصر عطاء [ ص: 9 ] الغزوات وأبعادها الإنسانية، حيث لم ير منها إلا جانب المواجهة، ولعل السبب في ذلك حالة الضعف والهوان والخزي، التي يعيشها المسلمون، والقهر والاستبداد السياسي الذي يمارس عليهم فيجعلهم لا يرون التغيير وإصلاح الحال إلا في طريق القوة وامتشاق السلاح.

وليس أقل من ذلك خطورة وشأنا الاقتصار على السعي لإبراز الصورة الإيجابية المضيئة للسيرة وكأنها حصلت في مجتمع ملائكة مبرمجين على الصواب، ولم تكن أنموذجا لمجتمع بشري له مشكلاته، له نجاحاته وإخفاقاته، له صوابه وخطأه(!) وأن حاجته إلى أنموذج ودليل للتعامل مع الخطأ كحاجته إلى دليل وأنموذج للتعامل مع الصواب، بل لعل الحاجة للتعامل مع الإخفاق وكيفية تجاوزه أشد وأكثر إلحاحا من الحاجة إلى التعامل مع الصواب وامتداده.

ولما كان المجتمع البشري له خطأه وصوابه، وأن كل بني آدم خطاء، وأن خير الخطائين التوابون، كان إبراز الجانب السلبي للمجتمع وكيف عالجته السيرة وتقديم الأنموذج للاقتداء من أهم الأمور وأكثرها ضرورة في إعادة بناء المجتمعات والحضارات.

لذلك نقـول: إن غياب منهجـية الاقتداء، بكل أبعادها، ساهمت بشكل سلبي في عزل الأنموذج عن حياتنا بأقدار متفاوتة وأبقت الانتصار له عاطفيا ونشـوة تاريخية، وعـلاجا لمركب النقص، قد لا يغير من الحال شيئا، وفي ذلك إسـاءة للأنموذج نفسه، وتقليل من شأنه عمليا ودوره في إعادة صياغة الحياة. [ ص: 10 ]

والذي نحب أن نعاود تأكيده أن الرسول صلى الله عليه وسلم دون سواه هو محل الاقتداء ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) ، وأن كل إنسان، مهما بلغ، يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.

أما البعـد الآخر للأنموذج المطلوب اتباعه بإحسان فهو عالم الأصحاب أو حياة الصحابة، رضوان الله عليهم.

والحقيقة أن هذا الجيل، أو هذا القرن وهؤلاء الأصحاب، تربوا على عين النبوة، وبحضانة الوحي في التسديد والتأييد والتدريب، فكانوا محل الاتباع بإحسان بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث توقف الوحي من السماء، وإن امتد قرآنا وسنة خـالدين على طول الزمان، وكانا مصدر إلهام ودلالة للأصحاب، رضي الله عنهم.

فجيل الأصحاب، رضي الله عنهم، تربى على عين النبوة -كما أسلفنا- وبرعاية النبوة، وتربية النبوة، وتدريب النبوة، الأمر الذي أهله ليكون محل الاتباع المشروط بإحسان.

ولئن كانت فترة السيرة فترة استمرار تأييد الوحي وتسديده، ووجود النبوة، التي تنزل قيم الوحي على الواقع، فإن فترة الخلافة الراشدة هي فترة البشرية الكاملة بعد انقطاع وحي السماء بوفاته صلى الله عليه وسلم.

وقد يكون من المفيد أن نأتي على خصائص وصفات هذا الجيل، وتزكية القرآن له، وشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم له أيضا، لما لذلك من أهمية في البناء الفكري، وفي مقدمته الخلفاء الراشدين، القادة العظام والنماذج المتفردة، ولندرك موقع [ ص: 11 ] هذا الجيل الرباني القدوة، الذي تربى على عين النبوة وتسديد الوحي، فكانت أمته خير أمة أخرجت للناس، وكان الجيل المعيار، والجيل القدوة، وقد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه خير القرون، لما تمتع به من المجاهدة والجهاد، والخصائص والصفات، التي تتمثل قيم الإسلام، وتثير الاقتداء، قال تعالى: ( لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون * أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ) (التوبة:88-89 )؛ وقال عز وجل: ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ) (التوبة:100).

وقال سبحانه وتعالى: ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم ) (التوبة:117).

وهـذا غيض من فيض، ويكفي أن نقول: ( رضي الله عنهم ) .. ( ورضوا عنه ) (البينة:8).

ومن هؤلاء الأصحاب الخليفة الراشد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي يعتبر من المعالم الرئيسة المطلوب استدعاؤها على طريق إعادة البناء الثقافي وتحقيق الوعي الحضاري، ومعاودة إخراج الأمة المسلمة، واسترداد دورها [ ص: 12 ] العالمي، وإحياء التزامها ووعيها برسالتها الإنسانية، التي كانت الغاية منها إلحاق الرحمة بالعالمين، استجابة لقوله تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107)، ذلك أن استرداد دور الأمة العالمي، وإحياء التزامها برسالتها، وإعادة بناء خيريتها، وتحقيق إخراجها الجديد للناس، لا يتأتى إلا بتلمس ظروف وشروط ميلادها الأول، أو بتعبير أدق: إخراجها الأول، وامتلاك القدرة على التحقق بالمرجعية وخصائص خير القرون، وعلى الأخص مرحلة السيرة وجيل الصحابة، الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية -كما أسلفنا- ومن ثم التوغل في التاريخ العام للأمم، والاهتداء خاصة بالنماذج التي عرض لها القرآن الكريم فيما اصطلح عليه بالقصص القرآني، والمسيرة التاريخية للأمة المسلمة، والإصابات التي لحقت بها حتى صـارت إلى ما هي عليه اليوم، وتحديد مواطن الخلل وأسبابه، في ضوء السنن الإلهية المطردة، وأقدار الله تعالى في السقوط والنهوض.

ولعل الفترة أو المرحلة الأحق بالبحث والدراسة والتحليل باستمرار، هي مرحلة السيرة النبوية والخلافة الراشدة، وحقبة خير القرون؛ لأنها تصوب المسار، وتمثل المعيار والمرجعية، وتشكل نقطة الانطلاق، وتحقق الارتكاز الحضاري، وتوضح الملامح والقسمات المميزة للشخصية الحضارية الإسلامية التاريخية، كما تمثل البعد الإنساني والعالمي للرسالة الإسلامية، والفترة الأمينة والمأمونة والسابقة لتحويل المبادئ إلى برامج، والقيم إلى خطط، والفكر إلى فعل، والنظرية إلى تطبيق، وإدراك مقاصد الدين، والانطلاق في الاجتهاد، [ ص: 13 ] والحوار، والمشاورة، والمفاكرة، والمناظرة، إلى الآفاق والأبعاد المستقبلية، التي تتلاءم مع خلود الإسلام ومرونته، وقدرته على العطاء في كل زمان ومكان.. فتجربة هذا الجيل الرباني، واجتهادهم، وفعلهم، وتنـزيلهم للقيم على الواقع، جزء من خلود هذا الدين، ووسائل إيضاح معينة وخالدة لكيفية التعامل مع النصوص، في الكتاب والسنة، في الظروف والأحوال المختلفة.

وهنا قضية لابد من التوقف عندها ولو قليلا، وهي أن للصحابة الكرام، رضي الله عنهم، موقعا متميزا في مسيرة الإنسانية التاريخية، بل في مسيرة النبوة وصحبها وركبها الممتد، فشأنهم ليس كشأن غيرهم، وعملهم لم يدانه أحد ممن سبقهم، ولن يلحق به أحد ممن جاء بعدهم.

لقد كانوا معجزة خالدة من معجزات الإسلام، ومعيارا لكل جيل، في كل زمان ومكان.

ولما كان لجيل الصحابة هذه المكانة الفريدة من الخيرية، وهذا التميز في تاريخ البشرية بشكل عام، وفي تاريخ النبوة بشكل خاص، وكانوا الجيل الذي تجسدت الرسالة في حياتهم، وكانوا الجيل الذي سوف يبقى يمثل أنموذج التأسي، وأنهم الجيل الذي رضي الله عنهم بنص القرآن: ( رضي الله عنهم ) ، ووصلوا إلى مرحلة من الرضى والالتزام والانضباط، والإذعان والاطمئنان إلى ما هم عليه من الخير، فوصفهم القرآن بقوله: ( ورضوا عنه ) ، كان لا بد لهذا الجيل أن يشكل المنجم الثري الخالد للعطاء.

لقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم موقعهم بالنسبة للأمة، بقوله: ( النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، [ ص: 14 ] فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ) (أخرجه مسلم).

وأعتقد أن الدلالة واضحة جدا في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم لجيل الصحابة: فإن ذهاب النجـوم يعنـي اختـلال نظـام الكون، وتوقف الحياة الدنيا.. وإذا غابت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومعرفة الوحي، انتشرت البدعة، واختلت مسيرة الحياة، وعمت الفوضى، وضل الرأي.. وإذا غيب جيل الصحابة، افتقدت الأمة المرجعية، واهتز الارتكاز الحضاري، واعتل ميزان التطبيق، ودخلت الأمة في التنازع والحيرة، والارتباك والفشل، والتبعثر، وعواصف الأهواء.

ولقد أجمع أهل السنة والجماعة على عدالة الصحابة في الرواية، ونقل الحديث.. والعدالة لا تعني العصمة من الخطأ بحال من الأحوال، قال الخطيب في "الكفاية": "والأخبار في هذا المعنى تتسع، وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة، والقطع على تعديلهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحد إلى تعديل أحد من الخلق.. فهم على هذه الصفة إلى أن يثبت على أحد ارتكاب ما لا يحتمـل إلا قصد المعصية، والخروج من باب التأويل، فيحكم بسقوط عدالته، وقد برأهم الله من ذلك، ورفع أقدارهم عنده.

على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله شيء مما ذكرنا، لأوجبت الحال التي كانوا عليها، من الهجرة والجهاد، والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، القطع على [ ص: 15 ] عدالتهم، والاعتقاد لنـزاهتهم، وأنهم أفضل من المعدلين والمزكين، الذين يجيئون من بعدهم إلى أبد الآبدين" (الكفاية، ص93-96).

من هنا ندرك أبعاد الجريمة الكبرى لمن كان شأنهم في تاريخ الأمة هدم الجيل الأنموذج وحرمان الأمة من دليل الاتباع، والخوض في عدالة الصحابة بعد هذه الشهادات من القرآن والسنة، ومحاولة اختزال هذا الجيل، المشهود له، بشخص أو فرد ادعيت له العصمة عن الخطأ، مهما كان علمه ومكانته.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : "من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا.. قوما اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" (جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر).

ويقول ابن تيمية، معقبا على قوله تعالى: ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ) (الفتح:18): "والرضـا من الله صفـة قديمة، فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضا -ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبدا- فكل من أخبر الله عنه أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة، وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه، وعمله الصالح، فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له، فلو علم أنه يتعقب ذلك بما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك" (الصارم المسلول، طبعة دار الكتب العلمية، ص572-573).

ويقـول ابن حزم، رحمـه الله: "فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم، ورضي عنهم، وأنزل السكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم، أو الشك فيهم البتة" (الفصل في الملل والنحل، 4 / 148 ). [ ص: 16 ]

لذلك، ومن هنا، ندرك عظم المخاطر والآثار المترتبة على النيل من هذا الجيل، الذي يمثل قاعدة البناء، وأنموذج تنـزيل الإسلام على الواقع، ومحل التأسي، والمرتكز الحضاري.

وليس ذلك بالنسبة لعصر، أو قوم، أو جيل، أو موضع، أو وضع اجتماعي، وإنما هم جيل التأسي الخالد، المجرد عن حدود الزمان والمكان، إنهم جيل التأسي العالمي والإنسـاني؛ لأنهم حملة رسالة عالمية إنسانية خالدة، ونماذج تطبيقها، وأوعية حملها ونقلها، والقاعدة البشرية الأولى، التي قامت بها: ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) (الأنعام:124).

والأمر الذي يتطلب كثير التأمل والتفكير في النظر وتقويم الاقتداء وتحقيق أدوات المقاربة مع هذا الأنموذج ووسائلها، حيث استوعبت حياة الأنموذج جميع جوانب الحياة وشكلت دليلا لها، أن نطرح باستـمرار السؤال التالي: لماذا كان هذا الجيل هو جيل الأنموذج ومحل الاتباع بإحسان؟ وبماذا تميز عن غيره من الخلق؟

ونحاول باستمرار استقراء الصفات والخصائص التي بها كان خير القرون ومحل الاقتباس والاقتداء، ومن ثم محاولة وضع الخطط والمناهج وأدلة العمل والوسائل المناسبة لتنزيل هذه الخصائص والصفات على إنساننا ومؤسساتنا [ ص: 17 ] التربوية والإعلامية والاجتماعية والسياسية في محاولة لإيجاد مقاربات مع هذا الجيل وتصويب المسالك والمسارات.

ومما لا شك فيه أن الأنموذج في طبيعته يبقى معيـارا متفردا لا يتكرر، ولا يمتد بكل خصائصه وأبعاده وصفاته؛ لأن ذلك من خصائص المعيارية، لذلك قد لا نستغرب عدم امتداد الجيل بكل مواصفاته، ونقع في إشكاليات سوء الفهم وسوء التقدير، فنقول: إن الأنموذج والمرحلة الذهبية في الحياة الإسلامية لم تمتد أكثر من كذا سنة ومن ثم بدأ التدهور(!) ولو أدركنا خصائص وصفات وطبيعـة الأنمـوذج والمثل الأعلى لعرفنا استحالة التكرار وما يحتمل من خلل واهتزاز، ولعرفنا لماذا لم يمتد الرشد أو الخلافة الراشدة، وأن الحياة الإسلامية استمرت قربا وبعدا من هذا الأنموذج؛ وتبقى المقاربة هي الطريق إلى الكمال والاكتمال.

ونقول: على الرغم من الفترات المتألقة والمضيئة في تاريخنا الحضاري الطويل يبقى للأنموذج تميزه وتفرده، ولا تخرج جميع المحاولات عن المقاربة مع هذا الأنموذج.

إن هدم الأنموذج في حياة الأمة يسلمها إلى فقدان البوصلة والمعيار والافتقار إلى المرجعية ونقطة الارتكاز الحضاري المأمونة، ودفعها إلى التيه وضياع الجهات وغياب المعايير الضابطة لمسيرة الحياة.

وهـذا الكتاب هو محـاولة لتقديم أحـد نماذج الاتباع، سيـدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه القوي الأمين، حيث التقت العبقرية بقيم الوحي وتربية النبوة، عبقرية الفقيه في الدراية وعبقرية القائد في الإدارة، الذي اجتمعت فيه القوة، [ ص: 18 ] من حيث الخبرة ورجاحة الرأي وملكة الاجتهاد، مع عظيم الأمانة، التي هي ثمرة الإيمان؛ الإيمان الذي كان -فيما يروى عنه- يخيف الشيطان؛ لقد كانت خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولا تزال أنموذجا لحل المعادلة الصعبة بين الأخلاق والسياسة.

إن ما يمتلك عمر رضي الله عنه من الخصائص والمؤهلات رفعته إلى مقام استحقاق النبوة: فـ ( لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب ) (أخرجه الحاكم).

ولقد كانت قولة المؤرخين قولة تاريخية محقة عندما قالوا: "رحم الله عمر، إنه اتعب من جاء بعده".

والكتاب يقدم قراءات من مواقع متعددة ومتنوعة لمنهج الخلافة الراشدة في سيرة سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يمكن أن تشكل نوافذ للميراث العظيم والغني، الذي يرتكز إليه المسلم في إعادة البناء والمقاربة مع الحكم الراشد بعد فشل الشعارات والادعاءات والاتجاهات والأنظمة السياسية المجافية للإسلام والمعادية لقيمه على الأرض العربية وفي المجال الإنساني، وتلك القراءات -في نظري- لا تغني عن دراسة تحليلية شاملة لمسيرة هذا الخليفة الراشد، من خلال معطيات الواقع، بكل مكوناته، ومحاولة المقاربة وتجسير الفجوة بين المسلمين وميراثهم الحضاري والسياسي، الذي لا يعني اختزاله في الوصول إلى الحكم، بمؤهل وبدون مؤهل، ذلك أن الوصول إلى الحكم يعتبر ثمرة لبناء حضاري وثقافي وأخلاقي متكامل، ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه.

إن الأمة التي تمتلك مثل هذه التجربة التاريخية الحضارية وهذا الأنموذج المتألق، الذي جمع بين القيم الخلقية الخيرة وانطلق منها، فكان الكتاب، وكان [ ص: 19 ] الميزان، وكانت الإدارة الفذة، والسياسة الحكيمة المحكومة بالحق والعدل، جديرة ومؤهلة لاستعادة دورها في الشهود الحضاري.

فالأمة التي تمتلك في تاريخها من مثل هذا الأنموذج وهذا الرصيد لا تنطلق من فراغ، ولا يمكن لها أن تقبل بما سواه أو ما دونه مهما زين لها.

ولا أزال أذكر بهذه المناسبة قولة الشاعر الكبير نزار قباني - غفر الله له-الذي لخص بقولته في مقابلة مع أحد الإعلاميين، الحال التي عليها العالم اليوم، وتطلعه إلى الحكم الراشد، عندما سأله الإعلامي: إذا طلب إليك أن تختار شخصا من التاريخ لتخـاطبه، من تختار؟ وماذا تقول له؟ فقال فورا: اختار عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. فقال الإعلامي: وماذا تقول له: قال الشاعر الكبير: أقول له: "عد إلينا، فقد اشتقنا إليك".

ويبقى المطلوب كيف يعود إلينا هذا الأنموذج لإشاعة العدل، والخلوص من الاستبداد السياسي، وإهدار كرامة الإنسان وانتهاك حقوقه؟

إن معاودة استدعاء الأنموذج الراشـدي يعتبر من أهم المعالم لتسديد طريق النهوض وإبصار شروطه ومقوماته، سعيا لمعاودة إخراج الأمة المسلمة الوسط لتنطلق برسالتها الإنسانية فتكون شاهدة على الناس، وتلحق الرحمة بالعالم المأزوم.

ولله الأمر من قبل ومن بعد. [ ص: 20 ]

التالي


الخدمات العلمية