الأخلاق والسياسة (قراءة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه )

الأستاذ الدكتور / موفق سالم نوري

صفحة جزء
رابعا: عفة عمر رضي الله عنه وأمانته:

لما تولى عمر رضي الله عنه الخلافة مكث مدة من الزمن يمارس التجارة في السوق موردا لعيشه، غير أنه صعب عليه التوفيق بين مصلحته لعيشه وإدارة مصالح الأمة، حتى قصر في مصالحه، وظـهر ذلك في حاله، فاستشار الصحـابة، رضي الله عنهم، في الأمر، فأشـار عليه علي رضي الله عنه ، أن له في بيت مـال المسلمين ما يصلحه ويصلح حال عياله بالمعروف، ويضمن ذلك قوته وقوت عياله، والكسوة له ولأهل بيته في الصيف والشتاء، ودابتان لجهاده وحوائجه مع عدتـها >[1] . وترجـم ذلك عمر رضي الله عنه بقولـه: "لا يحل لي من هذا المـال إلا ما كنت آكلا من صلب مالي" >[2] ، أي أنه يأخذ من بيت مال المسلمين بقدر ما كان يكسبه في عمله قبل أن يصبح خليفة. وبالتالي فإنه لم يجعل من منصبه هذا مرتعا ومغنما ليزيد من نفقته.

ولعمر الله، فإن ذلك أعظم درجات النـزاهة والعفة في التعامل مع المال العام. وهو بذلك يعد درسا بليغا في النـزاهة والبعد عن الفساد الإداري والمالي، الذي نخر جسد الأمة اليوم من كل جوانبها، حتى باتت مضربا للأمثال في ذلك، والسبب يتعلق في الأحوال كلها برأس الهرم.

ومن ناحية أخرى فقد جسد عمر رضي الله عنه (الشفافية) في أعلى صورها في تعامله مع المال العام، فكان أشق أمر عليه أن يرى نفسه بحاجة إلى شيء من [ ص: 46 ] بيت مال المسلمين، فقد أشتكى يوما في بدنه، فوصفوا له العسل، ولم يكن متوفرا سوى قليل منه في بيت المال، فصعد المنبر، وأستأذن المسلمين أن يأخذ شيئا من هذا العسل، وإلا فإنه حرام عليه، فأذنوا له في ذلك >[3] . وكان إذا مسته الحاجة اقترض من بيت المال، وربما تعسر عليه أداء الدين، فيأتيه صاحب بيت المال يتقاضاه ويلزمه وعمر (يرجوه) أن ينظره بعض الوقت، حتى إذا حل عطاؤه أدى ما عليه من دين >[4] . فأية أمانة هذه التي تجعل (أمير المؤمنين) يرجو من أحد موظفيه أن يمهله، ويلح في التوسل حتى يفرج الله عليه فيؤدي ما بذمته من دين، وليس لمنصف أن يدعي أن مثل هذا قد تكرر في التاريخ، لكن ذلك ليس مستحيلا على من قرر أن لا يخون أمانته.

إن عمر رضي الله عنه في سـلوكه هذا يدرك أنه مرب لهذه الأمة وأسوة لها، فكيف يصنع هو تصنع هي، لذلك كان يقول: "إن الناس لم يزالوا مستقيمين ما استقامت لهم أئمتهم وهداتهم" وقال أيضا: "الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، فإذا رتع الإمام رتعوا" >[5] .

ولما آثر عمر رضي الله عنه على نفسه أداء أمانة الأمة هذه فعف في حقوقها، جعل ذلك أيضا منهجا لأهل بيته، فقد كسح معيقيب - خازن بيت المال - بيت [ ص: 47 ] المال يوما فوجد فيه درهما فدفعه إلى أحد الصغار من أبناء عمر رضي الله عنه وانصرف إلى بيته، فإذا رسول عمر رضي الله عنه يستدعيه، فقال له: ويحك يامعيقيب! أوجدت علي في نفسك شيئا؟ ومالي ومالك؟ فقال: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟! قال: أردت أن تخـاصمـني أمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الدرهم يوم القيامة؟! >[6] ؛ وبعث أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى عمر رضي الله عنه بحلية من العـراق، فوضعت بين يديه، وفي حجره أسماء بنت زيد بن الخطاب، وكانت أحب إليه من نفسه، فأخذت الصبية من الحلية خاتما فوضعته في إصبعها، فأقبل عمر رضي الله عنه عليها يقبلها ويلتزمها حتى غفلت، فأخذ الخاتم من يدها فرمى به ثم قال: خذوها عني >[7] . وجـاءه رجل من قرابته، فسـأله المعونة من بيت المال، فزبره وزجره وأخرجه، فكلموه فيه، فقـال: سألني من مال الله، فما معذرتي إن لقيت الله وقد خنت أمانته >[8] .

فالحاكم إذا عف في أموال الأمة كان حائلا بينها وبين من يريد أن يغتنمها بغير حق، فإذا وقع في هذا المال وخان الأمانة فيه لم يعد بوسعه أن يمنع الآخرين من أن يخونوا كما خان هو، إذ لا حجة له عليهم، بل الحجة قائمة لهم عليه. [ ص: 48 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية