مقاصد القضاء في الإسلام (التنظيم القضائي) [الجزء الأول]

الدكتور / حاتم بوسمة

صفحة جزء
تقديم

عمر عبيد حسنة

الحمد لله، الذي أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، فقال تعالى: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد:25)، ذلك أن تحقيق العدل ودفع الظلم وتحقيق المساواة كان ولا يزال محور الرسالات السماوية من لدن آدم، عليه السلام، وروح الحضارة الإنسانية، ومعيار الحكم الراشد، وسمة المجتمع الفاضل، وسبيل السعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة، ورأس الأمانات والتكاليف والعهود مع الله المنوطة بالإنسان، يقول تعالى: ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ) (الإسراء:34)، ويقول: ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء:58)، فالحكم بين الناس بالعدل من أهم تلك الأمانات وأوثق تلك العقود، فهو دليل صدق الإيمان وصحة الاعتقاد، والرسول صلى الله عليه وسلم ، يقول: ( لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له ) (أخرجه أحمد)، ولأهمية أداء الأمانة في استقامة أحوال الأمة وسلامة مسيرتها اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم ، أن تفشي ضياع الأمـانة والتهـاون [ ص: 5 ] بأدائها اختلال كبير في توازن المجتمع، وانهيار في بنيته وعلاقاته مؤذن بانتهاء الدنيا وقيام الساعة: ( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ) (أخرجه البخاري)، وضياع الأمانة بداية الظلم وغياب العدل وذلك عندما يوكل الأمر لغير أهله.

ولأهمية العدل بآفاقه المتعددة ومجالاته المتنوعة في حياة الناس، ابتداء من بناء توازن الفرد واعتدالـه وعدالته مع نفسـه، مع أشـواقه وعواطفـه، مع فطرته وغريزته، مع حبه وبغضه، مع غضبه ورضاه، وانتهاء بتأسيسه وتأصيله في حياة الأمة وعلاقاتها حيث وسم الله سبحانه وتعالى الأمة المسلمة بالوسط (أمة العدل) وجعلها أمة الوسطية والاعتدال، فقال تعالى: ( لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143).

لذلك فقضية العدل في الإسلام ليست مقتصرة على تحقيقه في إطار الفرد والمجتمع والأمة المسلمة وإنما حمل المسؤولية الشرعية على بيانه وتبليغه ورعايته وحمايته في نطاق الإنسانية: ، ومن أوجب واجبات الشاهد (والشهيد صيغة مبالغة للشاهد)، على الناس وأخص خصائص الشهادة بيان الحق ومدافعة الظلم ونصرة الضعيف والمظلوم وتحمل المسؤولية تجاه الإنسان حيثما كان.

فالأمة المسلمة وسمت بأنها أمة العدل، ورسالتها للعالم تمحورت حول تحقيق العدل ورد الظلم والعدوان وإشاعة السلم والأمن وإلحاق الرحمة بالعالمين، وإلحاق الرحمة يعتبر من أعلى مراتب الإنسانية. [ ص: 6 ]

والصلاة والسلام على الرسول القدوة، الذي لم يقتصر في تربيته الأمة الوسط وإعدادها لأداء رسالتها الإنسانية على تأسيس وتأصيل العدل وإنما تجاوز ذلك إلى الارتقاء بها إلى المرتبة الأعلى والأرقى وهي مرتبة الإحسان، ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء ) (أخرجه مسلم)، ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل:90).

وكان صلى الله عليه وسلم الشهيد على هذا البناء وتجليته في واقع الناس في سيرته ومسيرته ودعوته: ( ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) (الحج:78)، ذلك أن غياب العـدل وشيوع الظلم مؤذن بهـلاك الأمة جميعا -كما أسلفنا- فـ ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) (أخرجه الترمذي).

وبعد:

فهذا "كتاب الأمة" التاسـع والأربعـون بعد المائة: "مقاصد القضاء في الإسلام.. التنظيم القضائي"، الجزء الأول، للدكتور حاتم بن محمد بوسمة، في سلسلة "كتاب الأمة"، التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات الإسلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، في محاولاتها المستمرة لفتح ملف الكثير من الإشكاليات والقضايا والاختلالات، التي تعاني منها الأمة، واستدعائها إلى الهم والاجتهاد الفكري، وتوفير شروط وظروف بناء البصيرة النافذة والعقل الناقد، واكتشاف مواطن الخلل وأسباب التقصير، والمساهمة بتقديم رؤى فكرية ومساهمات واجتهادات ثقافية، وإعادة طرح سؤال النهضة، [ ص: 7 ] واستشعار التحدي ومحاولة تجاوز الواقع بإغنائه وتخصيبه بوجهات النظر المتعددة وجعله الهاجس الدائم والقلق السوي الدافع للحركة الموقد للفاعلية ليشكل الهم، الذي يبعث الهمة، ويضع الأمة على الطريق الصحيح، بالتربية والتثقيف والتدريب على المنهج السنني.

وذلك كله يتأتى إلا بإبصار ما آتانا الله من الآيات والأسباب وإدراك السنن التي تحكم الحياة والأحياء في مجال الأنفس والآفاق: ( ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر ) (القمر:4)، ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (فصلت:53)، ومن ثم اتباعها وحسن تسخيرها: ( ... وآتيناه من كل شيء سببا * فأتبع سببا ) (الكهف:84-85)؛ لأنها السنن الجارية، قوانين الأشياء، التي تعبدنا الله باكتشافها وحسن تسخيرها لتحقيق النتائج والأهداف، وحذرنا من القعود والعجز وانطفاء الفاعلية وعدم التبصر والسير في الأرض، حيث التاريخ مصدر التعرف على السنن، ونهانا عن التطاول إلى السنن الخارقة التي شأنـها إلى الله سبحـانه وتعـالى: ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) (آل عمران :137)، ( هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) (آل عمران :138)، فالمطروح دائما كيف نختزل التجربة الإنسانية التاريخية ونتبين عبرها، وكيف نتقي سقطاتها: ، ( وموعظة للمتقين ) ونفيد منها لنعبر بأمان إلى المستقبل: ( لقد كان في قصصهم عبرة ) (يوسف:111). [ ص: 8 ]

وإذا كان المطلوب من الناحية الشرعية السير في الأرض والتوغل في التاريخ الإنساني - والتاريخ مختبر الفعل الإنساني، ودليل اطراد السنن وفاعليتها- فإن من الآكد أيضا استصحاب التجربة التاريخية الذاتية للأمة المسلمة (تجربة الذات) لتحقيق العبرة، والأشد تأكيدا وضوع منهجية الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم وكيفية الاتباع لجيل خير القرون؛ لأن في ذلك تجسيدا أمينا ومأمونا لقيم الإسلام ومقاصد الدين في حياة الناس وتنـزيلا لأحكام الشرع على واقع المجتمعات.

وإذا كان من أهم مقاصد الدين وثمار عقيدة التوحيد تحقيق العدل، وتوفير حرية الاختيار، وتجسيد المساواة بين الخلق، فإن في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومسيرة خير القرون والنماذج التاريخية المتألقة، التي لم يخل منها عصر من العصور، حتى العصور المتأخرة، دليل لبناء العدل وتحقيق المساواة تصديقا وتكليفا وتحقيقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس ) (أخرجه مسلم)، ذلك أن هذه الطائفة لا تخص بعدا واحدا أو مجالا معينا وإنما تتمثل قيم الدين والالتزام بأحكامه وتكاليفه على الأصعدة كافة السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والقضائية، وفي مقدمتها توفير وتمثل قيم الحق والعدل والمساواة والحرية؛ فالقضاء المحكم وفصل الخطاب الذي يحمي هذه القيم ويحققها في واقع الناس، يعتبر الحصن المكين لبقاء الدين واستمرار الحضارة الإنسانية، لأن تلك القيم كانت محور النبوة تاريخيا والميثاق الإلهي [ ص: 9 ] لحفظ حياة الناس ومصالحهم: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) .

فالكتاب يشرع القيم والهدي النبوي يبينها يزرع بذورها، ويغري بالإيمان بها، ويبين دورها في سعادة الإنسان.

والميزان -القضاء العادل- هو الذي يحققها في الواقع ويحميها ويحول دون انتهاكها والاعتداء عليها بين الناس، ويحمل الناس على الالتزام بها، بمؤيدات (عقوبات لمن ينتهكها): ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ) (الحديد:25)، إلى جانب الوازع الداخلي والرقابة الذاتية.

ولا شك أن تأسيس وتأصيل هذه القيم، التي تعتبر من أهم مقاصد الدين بعد عقيدة التوحيد "عقيدة التحرير"، لا يمكن أن يتحقق بشكل كامل وناجع من خلال التشريعات، الملزمة وحدها، التي تقتصر على ضبط ما يقع تحت عينها من مسالك البشر، ذلك أنه كلما ابتكر المشرع وسائل وأساليب لضبط المسالك الشاذة كلما اخترع المجرمون والخارجون على القانون المنافذ والمهارب التي تنجيهم من سلطان القانون وقبضة العدالة.

لذلك نقول: إن الإسلام لم يقتصر على التشريعات الملزمة من خارج النفس لتحقيق العدالة والمساواة وعدم الظلم وانتهاك الحقوق، على الرغم من أنه جعل هذه التشريعات هي جزءا من إيمان المؤمن ولها من القدسية والاحترام والالتزام ما يحقق له الثواب والعقاب، فالتزامها من الدين، وأداؤها من العمل [ ص: 10 ] الصالح بكل استحقاقاتها، وإنما تميز الإسلام عن غيره أيضا بأنه ينطلق من التربية على الإيمـان بالرقيب الدائم، الذي يعـلم السر وأخفى، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وبذلك عمل على بناء الوازع الداخلي وتنمية الحس بالمسؤولية والشعور بالرقابة الذاتية، واعتمد موازين الحل والحرمة فيما يفعل الإنسان ويدع، فأقام العدل على بناء الوازع من داخل النفس ومنطلق الإيمان، ووضع التشريع الملزم من خارج النفس، وجعل هذا التشريع من الدين حتى يضمن، له الاحترام والالتزام والإيمان بثواب التطبيق، وبذلك تفوق عن سائر الأنظمـة والتشريعات الوضعيـة، حيث لـم يقتـصر على ما اهتمت به، وإنما تجاوزها إلى أفق أعلى وأبعد لتحقيق العدل وحفظ الحق.

وليس ذلك فقط، وإنما تميز القضاء الإسلامي أيضا بأنه بعد استنفاد الوسائل جميعا في إظهار الحق، لم يعتبر أن العملية القضائية بكل ضوابطها وشروطها منشئة للحق وإنما هي مظهرة له، فإذا قصرت البينات عن إثبات الحق وإظهاره فإن قضاء القاضي لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، فإلى جانب الحكم القضائي هناك ملحظ الحكم الدياني.

نلمح ذلك واضحا وضوح الشمس في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القاضي الموحى إليه، الذي يمتلك القدرة على رؤية الحق وتبين الصادق من المدعي يقول عليه الصلاة والسلام: ( إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ، فإنما أقطع له قطعة من النار ) (أخرجه البخاري). [ ص: 11 ]

من ذلك رأى بعض الفقهاء أن القاضي لا يقضي بعلمه بل بالبينات الظاهرة، وأن القضاء مظهر للحق وليس منشئا له، كما أسلفنا، وأن الحكم القضائي قد يكون صائبا فيتطابق مع الحكم الدياني، وقد يكون خطأ فلا يحل حراما ولا يحـرم حـلالا، وهـكذا بناء القضاء في الإسلام، الذي استنفد كل الوسـائل المتاحة، واجتهد لكل الاحتمـالات الممكنة، ولم يتوقف عند ذلك، وإنمـا ارتقى إلى تفعيل كوامن الإيمان في تزكية النفس وترفعها عن اقتراف الحرام.

والقضية التي قد يكون من المفيد الإشارة إليها هنا: أن تشريع القيم والمعايير والموازين القضائية إن لم يكن من مصدر خارج عن الإنسان فلا يمكن أن تبرأ من التحيز؛ لأنها خاضعة لوضع الإنسان، محل التشريع والقانون، بكل مكوناته ونزعاته إذ كيف يمكن أن يضعها الإنسان ومن ثم يحكم نفسه بها، أن يكون المعيار ومحل الحكم والمعايرة، في الوقت نفسه، مهما حاول التجرد والموضوعية؟ فهي بطبيعتها خاصة لرغبة الإنسان وهواه وعواطفه، وواقعة تحت تأثير ما يعتقد أنها مصلحته ومصلحة أقربائه وأصدقائه وحزبه وأهوائه ووراثاته وعلمه المحدود بجـدران الزمـان والمـكان، لذلك فهو يكيفها ويغيرها حسب ما يهوى، فهي بذلك متحيزة بطبيعتها وبأصل منشئها، وما الضمانات التي تجعل من الآخرين يقبلون بها وهي من وضع أناس مثلهم، وما هي الضمانات أيضا التي تضمن عدم اتخاذها وسيلة وجسرا للتسلط والابتزاز، ذلك أن الإنسان هو الذي يصنع الصنم بيديه، وهو الذي يعبده ويتوجه إليه، وهو الذي يأكله عند جوعه إليه، وهو الذي يستبدله عندما تعافه نفسه، ويستهين به عندما يصحو عقله: [ ص: 12 ]


أرب يبول الثعـلبان برأسـه لقد هان من بالت عليه الثعالب



بينما نرى أن الأمر مختلف كل الاختلاف عندما يكون مصدر القيم خارجا عن وضـع الإنسـان ومتأتيا من جهة هي أعلم بالإنسان ومكوناته وما يصلح حاله ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) (الملك:14)، عندما تتأتى من الله، بعلمه الشامل بأبعاد الزمن الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، ذلك أن الله هو الأعلم بتقلبات الزمان والمكان والإنسان، والفرق واضح بين أن يكون الإنسان خاضعا ومؤمنا بها وبأهلية ومواصفات أو صفات من وضعها، من العلم والحكمة والتنـزه عن العيوب والتحيز، وبين أن تكون قيم الحق والعدل والمساواة خاضعة لوضع الإنسان للإنسان، يركبها ويغيرها ويلغيها ويبقيها متى شاء، ويكيفها حسب هواه ومصلحته ويستخدمها لتكون قنطرة للتسلط على الإنسان الآخر، لذلك نجد أن مفترق الطريق بين العدل والظلم، بين النقاء والموضوعية والتحيز أن تكون قيم ومعايير وموازين العدالة من وضع البشر أو من وحي الله، الخالق العالم الحكيم الخبير، الذي يمتلك علم الظاهر ومداخل النفس وما تنطوي عليه ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) .

هذا إضافـة إلى أن القيم والمعـاييـر والموازين إذا كانت وحيا من الله ودينا من الدين ومسؤولية أمام الله تجعل الإنسان أكثر طواعية واستجابة [ ص: 13 ] واحتراما واعتقادا ومراقبة ذاتية قد تتجاوز التشريع الملزم المؤيد بعقوبات دنيوية: ( ذلك خير وأحسن تأويلا ) (الإسراء:35).

ولذلك رأينا هذه الصور والنماذج المتألقة والشفافة في تاريخ العدل والقضاء في الإسلام، سواء على مستوى الأفراد أصحاب الجنايات، أو الشهود أصحاب التحمل والأداء وإظهار الحق، أو القضاة أصحاب الحكم وفصل الخطاب في الخصومات والمنازعات، وكيف كان الكثير من أصحاب الخطايا والجنايات يهرعون إلى القضاء من تلقاء أنفسهم ليطهروا أنفسهم من الذنوب وكيف أن الكثير من العلماء يعزفون عن تولي منصب القضاء خوف الزلل واستشعار المسؤولية والعجز عن نصرة المظلوم، على الرغم مما في ذلك من ثواب وإرساء لأركان الدين وحفظ المجتمع.

كما رأينا الحساسية الزائدة والمفرطة من احتمال ادعاء التشريع من قبل البشر، ذلك أن الحكم لله وبما أنزل الله ( إن الحكم إلا لله ) (يوسف:40)، ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) (المائدة:49)، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) (المائدة:47)، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) (المائدة:44)... إلخ، لذلك فالحس الإسـلامي أو كمال الإيمان أن القاضي يحكم بقيم وموازين الكتاب والسنة، والاجتهاد المستنبط منهما فالله هو المشرع، والإنسان لم يرض أن يطلق عليه المشرع وإنما هو المشترع، الذي يجتهد ويستنبط ويولد أحكاما من تلك القيم والمعايير، فدور القاضي أو الحاكم أن يجتهد في تنـزيل القيم وأحكام المشرع على واقع الناس. [ ص: 14 ]

ولعلنا نقول هنا: إن مصطلح الحكم الحاكمية إنما ينصرف بشكل أخص إلى مجال الفصل والقضاء، وإن كان بشكل عام يشتمل على مواطن تنـزيل قيم الإسلام على الواقع وأخذ الناس بأحكامها وآدابها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقضائية.

فجعل مصطلـح "الحكم" مقتصرا على البعد السياسي فيه كثير من النـظر والمجـازفة والإشـكاليات، الـتي شـكلت فخاخا واستعصاءات وانكماشا في الرؤية الشـاملة وقيودا للحركة والدعوة في فضاء التكليف الكبير قدر الاستطاعة.

نعود إلى القول: إن العدل كقيمة وفطرة ومعيار وميزان وأخلاق وتربية ومساواة بين بني البشر والفصل بينهم وحفظ حقوقهم من الانتهاك والاعتداء والظلم يكاد يكون مقصد الدين الإسلامي الأول، بل كل الأديان قبل أن تعبث بها يد الإنسان بالتحريف والتبديل، وأحيانا كثيرة بالتأويل وسوء الفهم وفساد التنـزيل على الواقع والتسويغ لأهواء البشر.

ولعل الإشكالية الكبيرة اليوم ما تزال تتمثل بغياب العدل والمساواة والحرية، وشيوع الظلم والتعسف والاعتداء وانتهاك الحقوق، على الرغم من التمدن المدعى والعطاء الكبير في تشريعات القضاء وأعداد القضاة وجامعات القانون ونقابات المحامين ومراقبة الإعلام، مع ذلك يبقى التشريع القانوني كنسيج العنكبوت يمزقه الطغاة والأقوياء والمتوحشون، ولا يلتقط إلا الحشرات الضعيفة، ويبقى من وضع الإنسان، الذي يشكله على مقاسه، وفق مصالحه الموهومة، ويستبدله عند الضرورة. [ ص: 15 ]

وبالإمـكان القـول: لقـد بلغـت وسـائل إظهـار الحـق عالميا ومراتب المحاكم المؤهـلة للمراجعـة والاستئناف والنقض مبلغا عجيبا، وتطورت المسـألة القضائية بكل أركانـها وأدواتـها بأعداد قضاتها وتدريبهم وصفات شهودها ومكانتهم وبيناتها ووسائل إثباتها، وشبكة المحامين التي تراقب وتحاسب وتتولى النظر والمناقشة والمرافعة وطـلب رفع الحـكم للنظر من محـكمة أخرى وقـاض آخر أو أكثر من قـاض، مع ذلك كله نجـد الدائرة ما تزال تدور عـلى الضعـفاء والفقراء، وتحـكمها براعة المحامين ولحنهم ( ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وأقضي له على نحو ما أسمع ) وسوف يبقى الانهدام القضائي مستمرا وعاجزا عن تحقيق العدل إذا غاب البعـد الإيمـاني والرقابة الذاتية، سواء بالنسبة للقاضي أو الشهود أو المدعين أو القانون.

وقد يكون الأخطر في عالم اليوم، اتساع دائرة الظلم وانتهاك الحقوق حيث يتحكم سلطان الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والفساد الاقتصادي، ويسوغ ذلك ويكرسه قضاة السلطان ومحامو السلطان ومفتو السـلطان، يشـوهون قيم الدين ويفسـدون أحوال الدنيا، ويستمر الظـلم وغياب العدل، وتتغير الصور والألوان، حيث تتعدد الأشكال والظلم واحد، وقد نقول: إن الحضارة المعاصرة استطاعت أن تقـدم نماذج من القضاة متميزين عادلين منصفـين كان لهم من المواقف التاريخية ما شـكل منعطفات في مسيرة بعض الأنظمة، كما شكل هؤلاء القضاة نوافذ مضيئة للحـق [ ص: 16 ] والعدل والاستقـلالية عن سلطان الحـكام والطغـاة، لكن الأعم والأكثر أن نظام القضاء والقضاة هم من إفرازات الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية....

فالقضاء العادل لا يمكن أن يتعايش ويتجاور مع الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والفساد الاقتصادي.

فالقضاء وتحقيقـه للعـدل هو جزء من منظومة كاملة متكاملة في السياسـة والاقتصـاد والاجتمـاع والتربية والإعـلام والثقافة، هو ثمرة لثقافة فردية ومجتمعية.

لذلك مهما قلنا عن استقلال القضاء في عالم اليوم عن السلطة التنفيذية والتشريعيـة والنظـام السياسي فإن الواقـع بكل معطياته يكذب ذلك ويدحض ادعاءه.

وتبقى الجهود الإنسانية ماضية في محاولاتها تحييد القضاء واستقلالية القضاة وتنـزيههم عن الرشوة والمحسوبية والانحياز والخضوع لسيف السلطان الجائر المسلط على الرقاب، وإذا ما اصطدم الحكام الظلمة بجدار القضاء العادل والقضاة الشرفاء حاصروهم وعطلوا عملهم وأنشأوا المحاكم الخاصة والاستثنائية لتكون في إمرة السلطان.. وتستمر رحلة العذاب والشقاء الإنساني.. وتستمر فلسفة "الإنسان ذئب الإنسان"، وتغيب فلسفة "الإنسان أخو الإنسان".

ولعل الظلم يكون أشنع وأكثر مرارة وجورا عندما يمارس باسم الدين، ويعبث بقيم الدين بالتحريف والتأويل والانتحال فتنقلب المعادلة، فبدل أن [ ص: 17 ] يكون حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) (صححه جماعة من أهل العلم منهم الإمام النووي، وقال: حديث حسن صحيح) لتصـير: "ما جئت به تبعا لهواه".

وفي تقديري: أن فقهاءنا، أو فقهاء المسألة القضائية لم يتركوا استزادة لمستزيد في آفاق القضاء الواسعة، بأبعادها المختلفة واحتمالاتها المتنوعة، وكانت عندهم القدرة على إبداع أقضيـة جديدة للحـوادث والمشكلات الجديدة؛ ولم يقف القضاء في الإسلام عاجزا عن الاستجابة لمتطلبات المجتمع وفض الخصومات بالوسائل الموصلة إلى العدل طيلة قرون طويلة.

ومن الحق أن نقول: إن توأمة القضاء والفتوى بقيت مستمرة وفي نمو دائم، على الرغم من محاولات عزل القيم الإسلامية عن حكم الحياة وانفصال السلطان عن القرآن في كثير من فترات التاريخ الإسلامي، ولعلنا نقول: إن ساحة القضاء هي الساحة الأبرز والأوضح لفقه تنزيل النص على واقع الناس، إلى درجة يمكن أن نطلق على القضاء: "فقه النوازل".

فالعدل هو مقصد الدين الأول والأساس، والقضاء والتشريعات والأدوات والبينات والقرائن وسائل إلى تحقيق الحق وإنصاف المظلوم، فإذا غاب العدل غاب الإيمان وغاب الإسلام، مهما ادعي غير ذلك وسوغ بالظروف والأحوال والملابسات والذرائع، يقول ابن تيمية، رحمه الله: "إن جماع الحسنات العدل، وجماع السيئات الظلم، وهذا أصل جامع عظيم" (مجموع الفتاوى، 1 / 86 )؛ مؤكدا أن "الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة وإن [ ص: 18 ] كانت مسلمة"؛ فـ"الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ويخذل الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة"؛ ويقول ابن القيم، رحمه الله، في إعلام الموقعين: "فإن الشريعة الإسـلامية مبناها وأسـاسها على الحكم ومصالح العباد، وهي: عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه"، فحيثما وجد العدل فثم شرع الله.

ويقول ابن خلدون في مقدمته،(فصل في: أن الظلم مؤذن بخراب العمران): "واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم، وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة، من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال...".

لعلنا نقـول هنا: إن خلـود الإسـلام وامتـداده وانتشاره اليوم في العالم في أكثر دولة تقدما وحضارة وفي أقلها تمدنا ورقيا يشكل دليلا على صلاحيته أو إصلاحه لكل زمان ومكان وإنسان وتجرده عن حدود الزمان والمكان والإنسان.

وأن قيمه في العدل والحرية والكرامة والمساواة تلتقي مع فطرة الإنسان ونزوعه إلى تحقيق إنسانيته.

وأنه على الرغم من كل التحديات ومحاولات إبعاد القيم الإنسانية عن حياة الناس فإننا نرى وكأن بين قيم الإسلام العادلة وفطرة الإنسان السليمة [ ص: 19 ] تواعد والتقاء وأن صور العدل والمساواة التي حفل بها التشريع الإسلامي ستبقى وسيلة إثراء وإثارة اقتداء مهما كانت التحديات.

وهذا الكتاب في أصله رسالة جامعية لنيل درجة الدكتوراه، عرض فيه الباحث لمقاصد القضاء في الإسلام، التي تتمحور حول تحقيق العدل وما تتطلبه العملية القضائية من شروط وخصائص ومواصفات في القاضي والشهود والخصوم والقرائن والقضية المطروحة للنظر، ومراتب القضاء، ونقض الأحكام وتنفيذها، واستقلال القضاء، وعلاقة القضاة بالولاة أو بالسلطات التنفيذية، ومدى الفصل بين السلطات، الذي عرف مبكرا في النظام والقضاء الإسلامي على أعلى المستويات، حيث كانت الحساسية مفرطة من خوف الوقوع في الجور والظلم وانتهاك الحقوق، وإن شئت فقل: "التقوى الضابطة" لسلوك الإنسان على الأصعدة المختلفة.

ولعلنا نقول: إن فقه المقاصد، الذي بدأ يتبلور في القرن السابع على يد الإمام الشاطبي، رحمه الله، ومن ثم كان من أعلامه البارزة الطاهر بن عاشور، رحمه الله، الذي تقدم بهذا الفقه خطوات عظيمة ليصبح علما قائما بذاته وليس جزءا من علم أصول الفقه قدم الرؤية الشمولية العامة للمصالح والمفاسد، التي جاءت الشريعة لتحقيقها في حياة الناس، وكان لتلك الرؤية الفقهية الدقيقة العطاء الأعظم في مجال القضاء، ذلك أن الاجتهاد في تطبيق النصوص الشرعية وفق الآلية الفقهية دون التنبه للمقاصد قد يؤدي إلى فوات المصلحة، التي توخاها الشرع، فكان استصحاب المقاصد في عملية الاجتهاد بشكل عام والقضاء بين الخصوم ضروريا ليشكل الضابط المنهجي لعملية الاجتهاد. [ ص: 20 ]

وللحق نقول: إن استصحاب المقاصد في العملية الاجتهادية ودقة النظر إلى المصالح والمفاسد لم تكن متوقفة في تاريخ التشريع والاجتهاد والفقه الإسلامي عمليا ولو لم تأخذ هذا الاصطلاح.

فلقد اعتمدها كثير من أعلام الفقه الإسلامي عندما كانوا يرون أن تطبيق آلية الاجتهاد وقواعده الصارمة قد يفضي إلى فوات المصلحة، فقال أبو حنيفة، رحمه الله، بالاستحسان كمصدر من مصادر التشريع والأحكام، وذلك عندما يؤدي تطبيق القياس إلى فوات المصلحة، فيعدل عنه للاستحسان، لمصلحة تقتضي هذا العدول، وقد اعتمد ذلك أئمة آخرون وسموه أحيانا: "القياس الخفي"؛ لأنه يتولد من دقة النظر.

لذلك نقـول: إن اختيـار مقـاصـد القضاء موضـوعا للبحث في الرسالة منحهـا قدرا من دقة النظر والرحابة والمرونة والمقارنة قل أن نجدها في الرسائل الجامعية.

وبمناسبة الحديث عن المقاصد، كم يتمنى الإنسان أن يكون اختيار موضوعات الرسائل الجامعية قاصدا، وأن تشكل الرسائل إضافة حقيقية وتحقق نقلة نوعية للدارسين والباحثين والأمة، وأن يبصر المسؤولون والمشرفون عن اختيار موضوعات الرسائل المقاصد من هذه الرسائل وموقعها من أهداف التعليم الجامعي ورسالة الجامعات في المجتمعات.

وقد نقول: إن هذه الرسالة يمكن أن توسم علميا بـ"فقه القضاء المقارن"، أو "فقه التنـزيل في المسألة القضائية وأبعادها"، ذلك أن الكتاب في الحقيقة هو مكتبة في كتاب، حيث استطاع الباحث استحضار مجموعة الآراء [ ص: 21 ] الفقهية، من مصـادرها ومراجعهـا، في المسـألة القضائية وأحسن قراءتها وفق المقاصد، التي تشكل المحور الأساس للكتاب، ولعل هذا من توفيق الله سبحانه وتحقيق موعوده في حفظ الدين، الذي يتطلب امتداد حملة العلم العدول من كل خلف.

ولا يفوتنا أن نشير إلى أن هذا الكتاب في جزأين وسوف تكون الخاتمة التي انتهى إليها الباحث في نهاية الجزء الثاني الذي سيصدر قريبا إن شاء الله لتكتمل ملامح وأبعاد المسألة القضائية ومقاصدها في الإسلام.

سائلين الله أن ينفع به.

والحمد لله من قبل ومن بعد. [ ص: 22 ]

التالي


الخدمات العلمية